ثم مرتزقة الموت، جاءوا تباعا يحملون أدوات الغسل والنعش، براقة أعينهم، قوية سواعدهم، يكتمون وراء عبارات الرثاء المصطنع سرور التاجر بالربح المرتقب، فلم يروا في جثمان رشدي العزيز إلا سلعة.
ثم النعش يتهادى على الأعناق في حلة الشباب البيضاء، وملأ عينيه منه وهو يسير في انحرافه المعروف تتبادله الأيدي والمناكب، وضع الطربوش عليه مستويا وكان صاحبه يميله إلى اليمين فيوشك أن يمس حاجبيه فعل المختال بشبابه المدل بجماله، لله ما أوفى أصحابه، لقد بكوا حتى احمرت أعينهم، وبكي كمال خليل أفندي، أما أحمد راشد فجمد وجهه ولم يبن، ولم يرتح أحمد لمنظره ولا لوجوده بين المشيعين، كذلك تجنب النظر إلى المعلم نونو الذي أيقن أنه لا يمكن أن يشاركه عاطفة لما طبع عليه من استهانة بالأحزان وابتسام للكروب، وسار الأب وراء النعش مباشرة في حزن حفظ الإيمان عليه وقاره، وبلغ التأثر بأحمد منتهاه حين بلغت الجنازة طريق الجبل، الذي يعلم من أمره ما يعلم، الطريق الذي شهد رشدي عاشقا صباحا بعد صباح، والذي جرى فيه الفتى وراء هواه مستهينا بمرضه الخطير، فاشترى قلبه بصدره، ثم خسر الاثنين معا. رباه هل يشهد الطريق على خيانة الرفيق؟ .. هل يفضي إليه بأن التي رأى الفتى المسكين ينتحر من أجل حبها خافت عدواه ونبذته نبذ النواة؟! ثم بدت المقبرة في ثوب قشيب! فرشت أرضها بالرمل، واصطفت عند مدخلها الكراسي، ودار بها السقاة، وفغر القبر فاه كأنه يتثاءب ضجرا من المأساة المعادة، ووضع النعش على الأرض وكشف الغطاء، ورفع رشدي ملفوفا في الكفن الذي اختاره له بنفسه، وأطبقت عليه الأيدي، وغابوا به في جوف الأرض، ثم صعدوا بعد قليل من دونه، وبلا رحمة حثوا عليه التراب، فاختفى القبر في دقائق معدودات، واستوى بالأرض، ونضحوا الماء عليه كأن غلته لم ترو بعد، وهكذا غاب عزيز وانتهت حياة! بين انتباهه عين القبر وغمضتها بغيب حبيب إلى الأبد فلا تغني عنه الدموع ولا الحسرات، ورجعوا جميعا وقلوبهم شتى، الحكمة التي أوجبت بالأمس أن يكون رشدي محبوبا توجب اليوم أن يصير نسيا منسيا! البيت كئيب، والوالدان ذاهلان، وقد كوم رياش حجرة الراحل وأغلق بابها، ولما أوى عند منتصف الليل إلى حجرته، انثالت عليه الفكر، حتى تنبه إلى شيء في الجو، يا عجبا ما زالت الرائحة الكريهة تزكم أنفه .. رائحة الموت المخيفة! وفي صباح اليوم الثاني وجد أنها ما تزال تنبعث في الجو، فتهيأ له أنها ربما كانت متصاعدة من الممر المفضي إلى خان الخليلي القديم، ففتح النافذة ونظر منها، فرأى على الطوار كلبا ميتا وقد انتفخ بطنه وتشنجت أطرافه، فصار كالقربة، وأكب عليه الذباب وأدام النظر قليلا، ثم تحول عن النافذة بفؤاد مكلوم وقد امتلأت عيناه بالدموع.
ثم كانت أيام قاسية مرة . أما عاكف أفندي الأب فقد راح يداوي بالإيمان جرحا داميا، وأما الأم فقد ذهلت في حزنها عن كل شيء حتى الإيمان، بل قالت تخاطب ربها في وقدة الألم: «ما ضر دنياك لو تركت لي ابني!» ثم قالت لزوجها بحدة: «هذا حي شؤم، جئته على كره مني وما أحببته قط، وفيه مرض ابني وفيه قضى، فدعنا نهجره بغير أسف!» ثم انثنت إلى أحمد قائلة: «إذا أردت أن ترحم أمك حقا فابحث لنا عن مقام جديد.» كرهت الحي وأهله جميعا، وضاق أحمد به صدرا كذلك، ولكن كيف السبيل إلى سكن جديد والقاهرة قد ناءت بسكانها! ولم يأل جهدا فوصى زملاءه جميعا بالبحث عن سكن في أي موقع من القاهرة، بل جعل يروض حزنه الأليم بالاضطراب في الشوارع القريبة والبعيدة بحجة البحث عن مسكن خال، وقد لاحظ المعلم نونو سهومه وكآبته فأكثر من ممازحته وجذبه إلى أحاديثهم، حتى دعاه مرة إلى بيت الست عليات، ولكن الكهل أبي وظل مغبر الجبين.
49
وتلا وقت حافل بالأحداث الحربية الهائلة، فانسحب الجيش الثامن من جسر الفرسان، وفي النصف الثاني من يونيو سقطت طبرق في يد الألمان، وتهامس الناس بخطر الغزو، وتناول الصحاب، في الزهرة، الأخبار بتعليقاتهم المعتادة، فقال سيد عارف بسرور: لن يقف زحف رومل هذه المرة.
فسأله الأستاذ أحمد راشد بلهجة المتهكم: يا من تحبون الألمان، هل تحسبون أنهم إذا دخلوا مصر يدخلون بسلام، أو أن دون ذلك حربا ضروسا تقتلع كل قائم؟!
فأجابه المعلم زفتة باستهانة: وماذا لنا في البلد مما يخاف عليه؟! فليحزن السادة الذين لا يعرفون أن الدنيا فانية!
وقال المعلم نونو: لا أملك إلا روحي وأرواح أبنائي وهي جميعا ملك الله تعالى ولا سبيل لرومل عليها إلا بأمره، وقد وقت لها آجالها قبل أن يخلق رومل بملايين السنين.
ثم ضحك نونو ضحكته المجلجلة واستدرك قائلا: نذرت إلى الله، لو جاء رومل وأنا على قيد الحياة، لأدعونه إلى سهرة ببيت الست عليات، ليشهد أن المدفع المصري فوق المدفع الألماني.
وجعل أحمد ينقل إلى والديه ما يقوله الناس، ويحدثهما بأخطار الغزو وما يتوقعه الكثيرون من اشتداد الغارات الجوية، وكأنما أراد أن يلهيهما عن حزنهما ولو بإثارة خوفهما!
ناپیژندل شوی مخ