فقال بصوت متهدج: لأني أحبك يا نوال ... لقد أدركت - وأنا أنظر إلى القبور على ضوء عينيك - معنى القول أن الحياة الحب، وقالت لي القبور إن كل ساعة نرضى بأن تفرق بيننا جريمة عقابها ظلمة القبر، وسمعت صوتا يهتف بي: لله ما أحمقكم تضنون بالتافه من الأشياء عن العبث وتعبثون جزافا بنعمة الحياة!
فتورد خداها، وأضاءت عيناها الصافيتان بنور الوجد: فلم يعودا - هو وهي - يشعران بهبات الهواء البارد المندفع من الصحراء، وشد على راحتها وسارا صامتين. ومضى يتساءل ترى كيف يسوغ أن يمسك عن ذكر «الخطبة» بعد كل ما قال! وكانت تتوقع من ناحيتها أن يطرق الموضوع المحبوب قبل كل خطوة تخطوها، ولكنه لزم الصمت حتى شارفا نهاية الطريق، وتوادعا ثم افترقا، فبطؤت حركته وهو يتابع مسيرها بنظرة استجمعت في حنانها جميع ما في قلبه من حب ووجد وحزن، حتى انعطفت مع الطريق إلى العباسية، وأخذ في طريقه إلى محطة الترام، وعند ذاك فحسب شعر بالإعياء واضطراب الأنفاس ودوار يوشك أن يصير غيثانا. •••
ولذلك لم يفته أن يحدث أخاه عن الخطبة وعما عسى أن يحدثه إمساكهم عن فتح موضوعها من سوء الظن في نفوس أهل الفتاة، ولكن أخاه - وكان غاضبا لعودته إلى الخروج المبكر - لم يوافق على مفاتحة كمال خليل أفندي بهذا الشأن قبل الشفاء الكامل، فقال للشاب: اعتل بما تشاء من المعاذير فأنت أستاذ في اللباقة، ولكن لا يجوز أن نتكلم رسميا قبل أن تشفى تماما إن شاء الله، سيكون إعلان الخطوبة مكافأة الشفاء، فأرنا همتك!
وعجز الرجل عن إقناعه بالعدول عن الخروج الباكر والتعرض لأذى البرد، فأيس منه وسلم إلى الله سائلا إياه اللطف والرحمة، وكان ممن يشقون بآلام الأقربين، فتجد الأوهام والمخاوف من صدورهم الضعيفة مرعى خصيبا للهواجس والأحزان، فصار مرض شقيقه - منذ اللحظة الأولى - شغله الشاغل وهمه الملازم وشوكة سامة في جانب طمأنينته.
وامتد خوفه إلى نواح أخرى حتى ألقى به في النهاية في مواجهة مشكلة من أدق المشكلات الخلقية، لم تكن لتخطر له على بال، فلم يغب عن ذهنه أن شقيقه يلتقي بالفتاة كل صباح، وربما انفرد بها مساء وهو يجلس منها مجلس الأستاذ، فإذا أغراه الهوى - شأن المحبين - بقبلة، أفلا تتعرض الفتاة لأذى بعيد الغور؟! ألا يدرك رشدي خطورة الأمر؟! .. ألا يجد من ضميره وازعا؟! ولكن كيف بمن يستهين بحياته أن يعرف لحياة الآخرين قيمة؟ .. وتفكر في الأمر طويلا، متكدرا مغتما، لا يدري كيف ينقذ من الهلاك فتاة بريئة، وبدت حيرته ذات بواعث أخلاقية صافية، ولم يداخله شك في أنها كذلك ولا كانت تخلو في الواقع من شعور أخلاقي عميق، ولكنه لم ير ما عداها على نزوعه الطبيعي إلى تفحص نفسه، أو أن العين في أحايين كثيرة لا ترى إلا ما تحب أن تراه، فتكدر واغتم، وأفضى به الكدر والغم إلى حيرة شديدة، فلا هو يستطيع أن ينمي الحقيقة إلى كمال خليل لأن خيانة أخيه الحبيب جريمة نكراء لا يمكن أن يجترحها، ولا هو يستطيع أن يكاشف الشاب بمخاوفه أن يصيب مقتلا من نفسه الحساسة الرقيقة، وعذبه التردد والقلق والإشفاق، ولم يكن أبدا ذا عزيمة أو إرادة، فنكص على عقبيه بقلب خائر وفكر مشتت، وظلت المخاوف تطارده، وتلح على ضميره حتى بلغ منه الإعياء والكلال، فتساءل في يأس وقنوط: «أليست غيبوبة المعلم زفتة خيرا من هذه الحياة؟!»
38
وزادت حال رشدي سوءا، فاشتد هزاله وشحوبه، ولكنه بدا مستهترا سادرا كأن الأمر لا يعنيه، ولم يعد يقنع برحلات الصباح في طريق الجبل، فكان كلما نازعه الشوق إلى كازينو غمرة انطلق إلى الإخوان يعربد معهم حتى مطلع الفجر، وكان أحمد يقول له مبكتا: «أتروم الانتحار؟!» والحق أنه انحدر في سبيل الانتحار بلا قصد، وعجز عن مقاومة ميله الطبيعي للذات، وأذعن للحساسية المرهفة الجديدة التي أحدثها المرض في نفسه، وحجب العاقبة عن عينيه طبيعته الجسور المتفائلة، فلم يفقد الأمل قط، أو لم يفقده إلا لحظات عابرة، وظل على عهده من الجسارة والاستهانة والابتسام. ولكنه فوجئ بعودة السعال بل عاد أعنف مما كان في أسوأ حالاته، ثم تتابعت عليه نوباته، وتلوث بصاقه مرة أخرى بالدم، ولفتت نوبات السعال الموظفين إليه في المصرف، فساورتهم الشكوك، وأمسى عمله عديم الجدوى، وتنبه الوالدان للخطر الذي يهدد ابنهما ونصحا له بالانقطاع عن عمله حتى يسترد صحته، ولكنه بالرغم من ذلك كله ظل يكافح متعلقا في جنون مظاهر الأصحاء المعافين، ولم يستطع أحمد صبرا فدعاه يوما إلى حجرته وقال له بحزم: إلام تتغاضى عن خطورة الحال؟
فسأله الشاب في استسلام لم يتوقعه: بم تشير علي؟ - لا يجوز بعد اليوم أن تواصل عملك فضلا عن السهر والعربدة! - وإذا انفضح سري؟
فقال أحمد بتأثر شديد: ليس المرض بالفضيحة، وللضرورة أحكام.
فأطرق رشدي وقد خارت عزيمته وتنهد من فؤاد مكلوم قائلا: الأمر الله!
ناپیژندل شوی مخ