وأصغى الوالد باهتمام إلى أقوال ابنه وإن تظاهر بعدم الاكتراث، ومال إلى تأييد الأم فيما تقول ولكن شجاعته لم تواته، فلما صاغ الابن رأيه في تلك اللهجة الحازمة، قال الوالد بصوت هادئ:
ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط .
وأدرك أحمد أن أباه من حزب أمه، ولم يسعه أن يواجهه بمثل صراحته في مخاطبة أمه، لتعوده مهابته منذ نعومة أظافره، وأشفق - كما أشفق دائما - من أن يعرض عن يده إذا امتدت له بطلب بعد أن صار أكبر اعتماده عليه، فسكت مرتبكا متحيرا حتى قال عاكف أفندي أحمد الأب: حسبنا قليل من الصنوبر والزبيب لضرورتهما في الحشو، ونصف لفة قمر الدين لتغيير الريق، ولنقنع من الكنافة بمرة واحدة، ومن القطائف - وهذه لا تقلى في السمن - بمرتين، وليس هذا عليك بكثير.
فهاله الأمر، وأيقن أنه سينفق في هذا الشهر ما اعتاد توفيره كل شهر من النقود القلائل، وربما أجبر على سحب مبلغ آخر من صندوق التوفير، الأمر الذي ينغص عليه صفوه، ثم ذكر شيئا آخر لا يقل خطورة عن الكنافة والنقل فقال: واللحوم؟!
فقالت أمه بما لها عليه من دالة: سمحت الحكومة ببيع اللحوم طوال الشهر الكريم، وما ذلك إلا لأن قطعة اللحم حقيقة بأن تسند قلب الصائم المتهالك!
فقال أحمد معترضا: ولكن ميزانيتنا أصغر من أن تقوم بابتياع رطل لحم كل يوم مع الحاجيات الأخرى!
فقال الوالد مستعينا بقليل من الدهاء: صدقت والأفضل أن نمتنع عن اللحوم مرة كل ثلاثة أيام؟
وانشغلت الأم في الأيام الباقية بتهيئة المطبخ، وتبييض الأواني وتخزين ما تيسر من النقل والسكر والبصل والتوابل، وكان لمقدم رمضان في نفسها فرحة وسرور، ولو أنها لم تؤد فريضة الصيام إلا منذ سنوات قلائل؛ إذ إنه شهر المطبخ كما أنه شهر الصيام - أو لأنه شهر الصيام - وأجمل من هذا أنه شهر الليالي الساهرة والزيارات الممتعة، حيث تدار الأحاديث على قزقزة اللب والجوز والفستق. ومن حسن الحظ أن رمضان وافق ذلك العام شهر أكتوبر، وهو شهر معتدل وغالبا ما يصفو جوه ويطيب فيلذ فيه السهر حتى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر.
وجاء مساء الرؤية، وانتظر الناس بعد الغروب يتساءلون، وعند العشي أضاءت مئذنة الحسين إيذانا بشهود الرؤية - وقد اجتزءوا بالإضاءة عن إطلاق المدافع لظروف الطوارئ - وازينت المئذنة بعقود المصابيح مرسلة على العالمين ضياء لألاء، فطاف بالحي وما حوله جماعات مطبلة هاتفة: «صيام صيام كما أمر قاضي الإسلام»، فقابلتها الغلمان بالهتاف والبنات بالزغاريد، وشاع السرور في الحي كأنما حمله الهواء الساري، فلم يملك أحمد عاكف أن يقول: أين من رمضان شارع قمر هذا الرمضان البهيج!
فابتسم والده وقال: وماذا رأيت مما رأيت يا غلام؟ .. أشهدت رمضان في حينا الجديد هذا قبل اندلاع الحرب؟ .. إنه النور والسرور: إنه الليل المنير اليقظان، إنه الليل العامر بالسمار والمنشدين واللهو البريء، وفي أيام الفتوة والصحة كنت أسري قبيل السحور بساعة في جمع من الإخوان من السكاكيني إلى حينا هذا نتسحر كوارع ولحم الرأس وندخن البوري في مقهى الحسين، ونستمع إلى أذان الشيخ علي محمود ثم نعود مع الصباح الباكر.
ناپیژندل شوی مخ