ويذكر ابن حبيش الأسباب التي ألجأت خالدا إلى عقد الصلح ومخالفته كتاب الخليفة، وهي تتلخص في كثرة الخسائر التي انتابت المسلمين في المعركة؛ إذ قل عدد المسلمين وكان أكثرهم جريحا، وبعد عقد المعاهدة لا يجوز النكول عنها، ولا سيما أن بني حنيفة أسلموا، وتنقل الرواية أن سلامة بن وقش أيضا أصر على خالد بتنفيذ أوامر الخليفة، غير أن خالدا لم يغير رأيه واعتبر القضية منتهية.
ومع ذلك استعمل خالد الشدة في معاملته أهل العارض وبعض قرى بني حنيفة؛ فقرية سيوح وعرفة والغبراء وقيشان ومرعة والمصانع اعتبرت في خارج أحكام المعاهدة، فسبى أهلها وصادر أملاكها، والروايات لا تبحث في أسباب هذه الشدة، غير أنه يلوح لنا أن أهل هذه القرى إما أنهم حاولوا الإخلال بشروط الصلح، وإما أنهم قتلوا المسلمين غدرا، وإما أنهم مثلوا بالمسلمين في بلاد اليمامة قبل الحركات. (37) المناقب
يستنتج الباحث من حركات اليمامة بعض المناقب التي ينبغي الوقوف عليها، وهي تدل على سجايا العرب الأولين، مسلميهم ومرتديهم، وتوضح لنا بعض المزايا الكامنة التي مكنت العرب من الانتصار على أعدائهم في الشرق وفي الغرب.
المنقبة الأولى: التضحية
كان ابن عمر عبد الله وأخوه زيد بن الخطاب في الجيش الذي قاتل في عقرباء، وكان زيد على ما نعلم يقود القلب، وقد استشهد في المعركة مشجعا المسلمين ومدافعا عن رايتهم.
ويذكر الطبري أن عبد الله بن عمر لما رجع إلى المدينة قال له أبوه: «ألا هلكت قبل زيد؟ هلك زيد وأنت حي!»
فأجاب ابنه قائلا: «قد حرصت على ذلك أن يكون، ولكن نفسي تأخرت فأكرمه الله بالشهادة.»
وفي رواية أخرى قال عمر لابنه: «ما جاء بك وقد هلك زيد؟ ألا واريت وجهك عني!» فأجاب عبد الله: «سأل الله الشهادة فأعطيها، وجهدت أن تساق إلي فلم أعطها.»
والتضحية كلمة مرادفة للبطولة، وهي من أخطر العوامل في حضارة الأمم إن لم تكن أخطرها، ولا أغالي إذا قلت إن تاريخ الحضارة مكتوب بمداد هو دماء الأبطال المراقة ومساعيهم المبذولة من أجل بنيان صرح التمدين الباذخ بجميع أركانه الأدبية والعلمية والسياسية، ولولا التضحية لما خرج الإنسان الأول من الغاب والكهف إلى المدينة والقصر، والعرب لولا بطولتهم في تضحيتهم لما تربعوا في قصور بغداد والشام والقاهرة والحمراء، ولظلوا تائهين في مجاهل باديتهم القاحلة الجرداء، ولخنق الإسلام في مهده. فالتضحية رفعت عمد الأديان ونشرت ألوية العلوم، ووضعت أسس الدولة قديمها وحديثها، وسمت بأبنائها إلى أوج العز والسؤدد، وقمة المجد والصولة. أجل إن العرب من الأمم الفاتحة المفطورة على البطولة والتضحية، إلا أن نبيهم العظيم جاءهم برسالة وضع بها نصب أعينهم مثلا أعلى هو إيمانهم الوطيد، فبرزت نفوسهم إلى ذلك المثل الأعلى على حد تعبير علماء النفس ، وحصروا وجدانهم في إيمانهم القوي، فضلا عن دافع غيرتهم على أحسابهم، وقوة ذلك الإيمان زادتهم إقداما مع التضحية التي تجلت بأروع مجاليها في حروبها، ولا سيما في حروب خالد بن الوليد، ومنها حروب الردة التي نحن بصددها؛ فهذا عبد الله بن عمر أنبه أبوه لأنه رجع حيا دون أن يستشهد في الذود عن إيمانه أو مثله الأعلى، ولا تزال روح التضحية متغلغلة في نفوس العرب والأعراب حتى اليوم.
وما أكثر الروايات المنقولة عن رجال العرب ونسائهم من ميادين القتال في التضحية العربية المجيدة في ثوراتهم الأخيرة في الأقطار العربية دونها ما يروى عن رجال إسبرطة ونسائها بهذا الصدد!
ناپیژندل شوی مخ