إما أن تكون دفائن تلك القبور أحدث مما يزعمون، وإما أن الغرين قد رسب من قبل في المكان الموجود الآن فيه، وبات مستواه على ما هو عليه بطبيعة الحال قبل معركة جبيلة، ولا غرو في أن الأمر الثاني هو الافتراض المحتمل وقوعه.
وصف الموضع
يظهر من مطالعة الخريطة أن المحل الذي اختاره مسيلمة لقبول المعركة واقع في جنوب العقدة التي تتشعب منها الجبال، وتمتد في جهات مختلفة وتشرف على رءوس الوديان المتدفقة من أرجائها، والتي منها ما يجري نحو الشمال، ويغذي وادي الخفس، والتي منها ما يجري نحو الشرق ويغذي وادي حنيفة، ومنها ما يجري نحو الغرب ويغذي بطين الحور، وقد اجتمعت قريتا عيينة وسدوس وجبيلة حول هذه العقدة وتعلو في وسطها رابيتا الأبكين؛ الرابية الغربية والرابية الشرقية، والغربية أعلى من الشرقية، إذ يبلغ ارتفاعها عن سطح البحر 3200 قدم، وعن وادي حنيفة الذي يجري في جنوبيها 200 قدم، وفي شرق الأبكين جبل رامة يمتد من الغرب إلى الشرق، وهذا الجبل مع جبل الأبكين يفصلان بين شعيب سدوس ووادي حنيفة، فالشعيب في الشمال ينبع من غربي سدوس ويجري نحو الشرق فيترك على ضفافه سدوس وحزوة، ويلتقي بشعاب كثيرة أخرى تصب جميعا في وادي الخفس، والوادي الثاني يجري في الجنوب.
وإلى شرق جبيلة يرتفع جبل صلبوخ، فكأن الجبال الثلاثة - الأبكين ورامة وصلبوخ - متصل بعضها ببعض ومحيطة بموضع جبيلة كالقوس.
ويصف المستر فلبي المنظر قرب الأبكين فيقول:
وقفنا نتأمل بطحاء طويق الفسيحة الأرجاء، فألفينا مشهدها رائعا مهيبا، وتتخللها الهضاب المتموجة والأودية السحيقة، وإنا لكذلك إذ لاحت مني التفاتة إلى الشمال فشاهدت، على مسافة ميلين من بسطة، أرضا انطوى تحتها واد فسيح تحدرت جوانبه وانقطعت مجامعه عند حوض الخفس الواقعة فيه واحة سدوس، تلك الواحة الغضة الرائعة المشهورة بجمالها الفتان كنا نراها ونرى فيها كل صغيرة وكبيرة ونحن واقفون في مكاننا كأنها أمامنا على مقربة منا، ولكنها - ويا للأسف - لم تكن على استقامتنا، فشق علي زيارتها لبعد طريقنا عنها، وقد شاهدت بساتين النخيل ممتدة على طوار الينبوع الدافق مسافة ميل تقريبا في عرض قدر معدله بين 200، 300 ياردة.
إلى أن يقول:
ورأيت على مدى البصر إلى الجهة الشمالية الشرقية نجد مرتفعات العرمة، وقد بدت بلون أدكن، ونظرت إلى الشمال الغربي وادي حريملة وهو فرع آخر من فروع حوض الخفس، وقد انفصل عن فرع سدوس بجرف متسع المتون مرتفعها، ورأيت في الجهة الجنوبية الغربية صدع جرف طويق فبدت من موضعه عقبة الحيسية (1)، وإلى الجنوب وراء خط وادي الحيسية وجرف الملاقي تمتد ظهور طويق العريضة في الفضاء الأغبس الفسيح.
وعندما يبحث في ثنية اليمامة يقول:
وبعد سير سبعة أميال (على موازاة الأبكين) وصلنا إلى عقبة الحيثية المعتبرة منبع وادي حنيفة، فوجدنا أشجار السنط منتشرة حولها، وكان ارتفاعنا عن مستوى سطح البحر في هذه البقعة نحو 2300 قدم، وكانت المسافة بيننا وبين البطين (بطين الحور) نحو 460 ميلا، وقد استطعت أن أشاهد من هذا المكان وادي حنيفة بأسره آخذا إلى الجنوب حتى اليمامة، وهذا بون شاسع يربو طوله على مائة ميل، وتأخذ فيه الأرض في الانخفاض تدريجيا إلى أن يبلغ 1900 قدما، ولم أجد عند الصبب من المناظر الطبيعية ما يحملني منها على الإطناب في الوصف، وشاهدنا هناك الأرض أمامنا، وقد انحدرت بهيئة مثلث فسيح الأرجاء، ضلعاه لهبان منفرجان من حرف طويق منته طرفاهما بأنفين بارزين؛ أحدهما خشم خرشة في الجنوب، والآخر خشم الحيسية في الشمال، وتمتد بين هذين الأنفين قاعدة المثلث بشكل جناح ناشز من الحجارة الرملية الجرداء المغراء يسمونه المرقى، في جانبه الأبعد يهبط شديد الانحدار ينتهي إلى وادي البطن، أما صدر شعيب هشة فهو في منبعه يتغلغل صببا بين جدران منهمرة متمعجا في عقيق ضيق، ثم يأخذ بعد حين في الاتساع على متون المنحدرات حتى إذا بلغ الحاشية الغربية من جناح المرقى ينفرج في بطن المحلة الخصبة، ثم ينثني فيجد له مثيلا في خلال الحواجز الصخرية فيتسرب منها إلى وادي البطين. وعلى نحو أربعة أميال من منبع وادي حنيفة نجد ما بقي من آثار ديار الهشة، وهي لا تتعدى بعض بساتين النخيل المتفرقة وثلاث آبار دائمة المياه، اثنتان منها مطويتان بالحجارة غزيرتا الماء، دائمة الورد، يبلغ عمق كل بئر منها نحو قامتين، ويظهر لون الماء عند استقائه من البئر أطحل بتأثير الطبقة المتحجرة المستوطنة قرار البئر، وإذا ترك الماء وشأنه قليلا ركد فيه الغرين فصفا وراق، وطعمه لذيذ عذب جدا، وينفرد آل قحطان بالاستفادة من هذه البئر.
ناپیژندل شوی مخ