36

جان منارډ کینز: لنډه مقدمه

جون مينارد كينز: مقدمة قصيرة جدا

ژانرونه

الفصل السادس

ميراث كينز

يجب أن يعكس أي تقييم لأعمال العباقرة الراحلين التوجه العقلي السائد في أزمنتهم. وفي وقت تأليف هذا الكتاب (يوليو 1995) كانت سمعة كينز تتسم بأنها متذبذبة بعض الشيء. ومنذ عشر سنوات كان يمكن القول إن الحقبة الكينزية قد ولت نهائيا. وقد قالها نايجل لوسون وزير الخزانة البريطاني بالفعل؛ فقد أعلن في إحدى المحاضرات عام 1984 أن «محاربة التضخم ينبغي ... أن تكون هدف سياسات الاقتصاد الكلي. أما خلق ظروف مشجعة على النمو والتوظيف ... فينبغي أن يصبح ... هدف سياسات الاقتصاد الجزئي.» فليس هناك أي التزام نحو التوظيف الكامل، بل كان الهدف هو تحرير الأسواق بأكبر قدر ممكن وتقبل مستوى النشاط الذي تحققه. واليوم يظهر بعض الارتداد إلى أفكار كينز؛ لأن السياسات الانكماشية المتبعة على مدار الخمسة عشر عاما الأخيرة خلفت مستويات عالية من البطالة الدائمة، وذلك كما توقع كينز بالفعل فيما يتعلق بتلك السياسات. استمرت البطالة في الاتحاد الأوروبي في الارتفاع منذ سبعينيات القرن العشرين، ووصلت إلى 10٪ من قوة العمل اليوم، ولم تنخفض كثيرا منذ التعافي من الركود الذي حدث فيما بين عامي 1991 و1992. ويبدو الأمر وكأنما لا تنتج شعوب الدنمارك وأيرلندا وسويسرا مجتمعين أي شيء على الإطلاق، وهو أبعد ما يمكن عن أن يكون إنجازا لقوى السوق.

رغم أن النظرية النقدية عجزت عن الحفاظ على استقرار الأسعار وتحقيق مستويات مناسبة من التوظيف، لم يعد إحياء السياسات الكينزية، كما عرفناها، من جديد؛ فمعظم الحكومات ترى أن الحلول الكينزية للبطالة إما غير فعالة وإما ضارة، تماما مثلما حدث عندما بدأ كينز في تقديمها والدفاع عنها. ومن ضمن ما يعكسه ذلك، الرأي القائل إن معظم البطالة في يومنا هذا «هيكلية» لا كينزية؛ بمعنى أنها لا تعكس نقصا في الطلب، بل تعكس سوء هيكل رأس المال والأجور المرتبطة به. علاوة على ذلك، ينتشر الاعتقاد أن سوء الضبط الهيكلي قد حدث (أو ترك ليستمر كل تلك المدة) نتيجة للسياسات «الكينزية» التي توجد التوظيف أو تحافظ عليه في وظائف غير منتجة أو تحقق خسائر. وحتى إن أقررنا - ولو جزئيا - أن البطالة القائمة ترجع إلى العجز في إجمالي الطلب، فإنه يعتقد أن زيادة الطلب ستلغي كل المكاسب التي تحققت على حسابها في ملف التضخم منذ عام 1979.

باختصار، تبرز السياسات الكينزية لنا اليوم وهى محاطة بتاريخ طويل من ارتفاع التضخم والتمويل العام غير الحكيم وزيادة سلطات الدولة وانهيار التشاركية والانفلات العام، وهي عوامل بدت كلها ملازمة للحلول الكينزية لعيوب المجتمع الصناعي. ونحن لن نطيق السير في هذا الطريق مجددا. وبحلول ثمانينيات القرن العشرين، تحول كينز، الذي اعتبر منقذا للعالم من الماركسية، إلى العبقري الكبير الذي فشل، تماما مثل ماركس.

تتطلب المسألة المتعلقة بكيفية إنتاج الحقبة الكينزية لتوقعات قوضت الثورة الكينزية تفسيرا نظريا وتاريخيا على حد سواء. وربما يستطيع أحد المؤرخين كغيره أن يقدم لنا تفسيرا ما. وسيكون شقا التفسير (النظري والتاريخي) أمرا شخصيا يرجع له؛ لأنه ما من اتفاق بشأن «مكمن الخلل». لكن من يريد أن يعيد روح فكر كينز إلى الحياة عليه أن يواجه نقاط فشل مذهبه بأمانة، دون محاولة تبرئة الأستاذ من أخطاء تلامذته. إن الثورة الكينزية كانت في جوهرها ضحية الطموح المفرط - أو بالأحرى التغطرس - الذي يحركه عدم الصبر، وتدعمه المزاعم غير المؤكدة بشأن المعرفة النظرية والعملية على حد سواء. كما كانت الثورة المضادة القائمة على النظرية النقدية مجرد محاولة لاكتساب قدر أكبر من التواضع والثقة في قوى السوق العشوائية.

من الصعب إيجاد مكان لكينز نفسه في الخلاف بين المذهب الكينزي والمذهب القائم على النظرية النقدية؛ لأن كتابه «النظرية العامة» قصد به فهم عالم الثلاثينيات لا عالم الستينيات أو السبعينيات من القرن العشرين. كما أنه من الممكن الخروج باستنتاجات نقدية (صالحة) من كتاب «النظرية العامة» في ظل افتراضات معينة بشأن توقعاته، لكن هذا لم يكن الهدف من تأليف الكتاب. ولفهم كثير مما قاله كينز عن النقود والائتمان وأسعار صرف العملات وعن النظام المصرفي والأسواق المالية، يجب على القارئ أن يرجع إلى كتابي كينز «بحث في الإصلاح النقدي» و«بحث في النقود». أما هؤلاء الباحثون عن الإلهام من كينز في الوقت المعاصر، فعليهم الالتفات إلى ثلاث حقائق أخرى؛ أولها: أنه رغم أن كينز كان مفرط الثقة من الناحية الفكرية - وهي سمة ورثها عنه تلامذته - فقد كان متواضعا على نحو لافت في توقعه لما يمكن أن تحققه السياسات الاقتصادية في مجتمع حر، وهي نقطة نزع مؤيدوه إلى تجاهلها. وثانيها: أن أهدافه الاجتماعية كانت - حسب قوله - «متحفظة ومعتدلة»؛ فلم يدعم أي شيء في فلسفة كينز الاجتماعية، ولا في ليبرالية ذلك العصر، التوسع المطرد في أنشطة الدولة الخاصة بالرعاية الاجتماعية، الذي ساهم بشكل كبير في الأزمات المالية في السبعينيات. ثالثها وآخرها: أن كينز قد نادى بالنمو ليس لذاته، بل باعتباره وسيلة لتحقيق الرفاهية وبناء حياة متحضرة. بل إن كينز في الحقيقة حاج في أواخر عشرينيات القرن العشرين بأن البطالة الناتجة عن التقدم التقني كانت علامة على أن المشكلة الاقتصادية في طريقها للحل. وكتب إلى تي إس إليوت في عام 1945 يقول: «إن سياسة التوظيف الكامل عن طريق الاستثمار هي تطبيق واحد فقط من تطبيقات النظرية الفكرية. ويمكن تحقيق النتيجة نفسها كذلك عن طريق زيادة الاستهلاك أو تقليل العمل ... فتقليل العمل هو الحل الأخير لمشكلة البطالة.»

ازدهرت الثورة الكينزية لربع قرن بعد وفاة كينز. وتقبل معظم الاقتصاديين «الأفكار الاقتصادية الجديدة» (حتى إن ميلتون فريدمان قال عام 1966: «لقد أصبحنا كينزيين جميعا الآن»، وهي عبارة كررها ريتشارد نيكسون عام 1972)، والتزمت معظم الحكومات بتحقيق التوظيف الكامل. لا شك أنه لم يقدس كل من اعتبروا أنفسهم «كينزيين» كتاب «النظرية العامة». بل في الواقع، انحسر تأييد نظرية كينز. ونتيجة لعمل باتينكين (1956)، أعيد تبني النظرية الكلاسيكية على نحو جزئي، من حيث إن ثبات الأجور النقدية كان ينظر إليه بوصفه عقبة «أساسية» أمام الوصول إلى التوظيف الكامل، كما زعم آرثر بيجو دائما. وفي كتاب ليونهوفود (1968) عن النظرية الاقتصادية لكينز، اعتبر «توازن البطالة» عند كينز وسيلة بلاغية؛ فقد اعتبرت نظريته نظرية لاختلال التوازن تؤكد على أخطاء التنسيق، وهو منهج أكد على ارتباط كتاب «النظرية العامة» بكتاب «بحث في النقود»؛ الأمر الذي قلل الفجوة بينه وبين مؤيدي نظرية اختلال التوازن النقدي في ثلاثينيات القرن العشرين. لكن ثبات الأجور النقدية المنخفضة بجانب الاحتمال القائم دائما بحدوث انهيار في الاستثمار الخاص جعلا دور السياسة الحكومية ضروريا لضمان استمرار مستوى التوظيف الكامل.

بخلاف ما سبق، بدت جوانب ثلاثة لميراث كينز منيعة؛ أولا: تقبل كل الاقتصاديين من الناحية العملية نموذج الاقتصاد الكلي الخاص بكينز؛ فقد ابتكر كينز فرعا جديدا لعلم الاقتصاد؛ هو الاقتصاد الكلي المعني بدراسة سلوك النظام الاقتصادي ككل بدلا من دراسة سلوك الأفراد أو الشركات أو الصناعات. وقد تعلم الطلاب في ستينيات القرن العشرين أنه من الممكن تشكيل الاقتصاد وتشخيص حالة الطلب الفعال ووضع آليات مناسبة للتدخل المالي. ثانيا: قدم كتاب «النظرية العامة» الأساس الفكري لإنشاء الحسابات القومية. وكان لنمو الإحصائيات الاقتصادية السريع، الناتج عن ذلك، بالغ الأثر في تطور علم الاقتصاد القياسي الذي قدم بدوره (كما يمكن أن يكون قد قيل حينها) أساسا آمنا للتنبؤ في سياسات الاقتصاد الكلي. ثالثا: أعاد كينز الإيمان بالنظام الرأسمالي؛ فالاقتصاد الكينزي ساهم في إخراج الفاشية والشيوعية وبعض صور الاشتراكية من تاريخ العالم المتقدم.

كما ساهمت النظرية الكينزية في ظهور علم اقتصاد التنمية المعني بدراسة النمو الاقتصادي في الدول الفقيرة. ووسع روي هارود بالتحديد تفسير كينز للبطالة قصيرة الأجل ليجعل منه نموذجا للنمو الذاتي، مع التأكيد على الدور المحوري للاستثمار المادي. وشهد منتصف ستينيات القرن العشرين زيادة الإيمان بقدرة سياسات الاقتصاد الكلي على الوصول إلى مستوى التوظيف الكامل، بل وتحقيق معدلات نمو عالية، وغيرها الكثير من الأهداف الاجتماعية المرغوبة.

ناپیژندل شوی مخ