بل إني حين أقارن بين الشعوب العربية التي رزحت تحت الاستعمار، وتعذبت به سنين، وبين الشعوب العربية الأخرى التي لم تعرف الاستعمار، بل عاشت «مستقلة»؛ أجد أن كلمة النهضة تنطبق على تلك الشعوب التي أذلها الاستعمار ولكنه في الوقت نفسه بعث فيها حركات ناهضة بالاتصال بالثقافة الأوروبية العصرية، فاستطاعت أن تتخلص من بعض تقاليدها وأن تتمدن وتحيا الحياة العصرية.
أما الشعوب العربية «المستقلة» فلا تزال مقيدة بتقاليدها، تأسن في رجعيتها وتخشى الثقافة وتجهل الدستور، بل لا تزال تمارس الرق أحيانا وترفض تعليم المرأة.
ويستطيع القارئ بمقارنة سريعة أن ينظر ويستنتج، ولا بد أنه سيجد عندئذ أن رجعية الشرق عند أبنائه لا تنقص في استبدادها بهم عند استعمار الغرب لهم، بل أحيانا أسوأ وأتعس.
تحصيل العيش والثقافة
ذكرنا جملة عوائق تمنع الثقافة أو لا تيسرها بالقدر الذي نرغب فيه، ويجب مع ذلك ألا يفوتنا ذكر عائق كبير وهو تحصيل العيش؛ فإن 90 في المئة من الأمة يعيشون في قلق على عيشهم، وهذا القلق يحملهم هموما مختلفة تجعلهم ينفقون كل وقتهم تقريبا في جمع المال كي يطمئنوا على عيشهم هم وأولادهم، ونظام المباراة الذي نعيش فيه يجعل الاطمئنان على العيش مزعزعا ويجعل الخوف من المستقبل مائلا دائما، فالأب لا يعرف ماذا يكون مصير أولاده، بل لا يعرف هل يجد هو نفسه الشيخوخة الهنيئة، وهو حين يفر من عمله، ويلجأ إلى بيته للراحة، يجد أن جو المباراة التي يكتنفه ماديا وروحيا قد انتقل إليه، فهو يفكر في الكسب ويحلم بالثراء حتى حين يكون في فراشه.
وهذا الاتجاه المادي لإيثار الكسب على كل شيء وإرصاد الجهد للصحة والوقت لجمع المال، يجعل الرغبة في التثقيف الذاتي معدومة أو كالمعدومة، وكثيرا ما رأينا أشخاصا قد حملتهم هستيريا الكسب على النفور من الكتب والكراهة للقراءة كي يجدوا الوقت للعمل الكاسب، وكلنا يعرف ذلك «العصامي» الذي يفخر بثقافته السابقة وثرائه الحاضر ويعدد صفات الاستقلال والرجولة والمثابرة التي يمتاز بها، ولكنه مع ذلك جاهل لا يزال ذهنه فجا غشيما لم يهذب أو يصقل، كذهن حصان أو دب لا يدري من شئون هذا الكوكب سوى تلك المعارف المحدودة التي تتصل بكسبه عن أثمان هذه السلع أو رواج تلك السوق نحو ذلك.
وليس شك في قيمة المال في عصرنا، عصر المباراة هذا الذي يداس فيه المحرومون، ولكن يجب ألا نجعل جمع المال هوسا أو هستيريا؛ فإن غاية المال في النهاية هي الاستمتاع بالمسكن والغذاء واللباس وسائر الاعتبارات الاجتماعية، والثقافة هي أسمى ضروب الاستمتاع.
وليس من السهل أن نجذب ذلك المنغمس في الكسب المسحور بالمطامع المالية إلى الثقافة؛ لأنه في الواقع في حال من الإيحاء النفسي تحتاج إلى المعالجة السيكلوجية، وهو نائم يحتاج إلى الإيقاظ، وهو أعمى يحتاج إلى التبصير؛ فإنه ألف عادات نفسية وذهنية جعلته غريبا عن مواطن الثقافة، يتغطرس ويتعجرف كلما ذكرت له ميزات التربية الذاتية وترقية الشخصية والتوسع الذهني.
ومثل هذا الشخص يجب أن نحتال عليه كي نبعث الحرارة في ذهنه البارد ونوقظه من بلادته وسباته، ونشعره بالخجل إن لم يكن بالخزي من جهله، ونحن نعرف مثلا أن الأوساط تختلف في إثارة التنبيه الذهني، فالوسط الزراعي مثلا يخلو من المنبهات الذهنية لأنه وسط الاستقرار، أما وسط المدينة فيحفل بالمنبهات للتغير الدائم فيه؛ ولذلك فوطن الثقافة هو المدينة وليس الريف.
والأزمنة كالأوساط تختلف أيضا في قدرتها على التنبيه الذهني؛ ففي زمن الحروب نقرأ الجرائد بشهوة حادة، وفي أيام الفتنة أو الثورة نحب أن نسمع ونقرأ ونرى، وفي أيام الغلاء والقحط والأزمات نتحدث عن المشكلات الاقتصادية ونحاول أن نفهم ونستنير.
ناپیژندل شوی مخ