فإذا نسي الكاتب شيئا أو أهمل تفصيل معنى من المعاني فتح الكتاب من جديد؛ فإن كانت الورقة لا محل فيها كتبت الزيادة بالعرض، ومتى قرأ الكتاب المرسل إليه وكان لا يتضمن شيئا يراد حفظه مزقه، ولا يتساهل في ذلك إذا كان المرسل قد أوصى بحفظ سره، فإذا طرح الكتاب مطرحا من غير أن يمزقه فيمكن رده إلى مرسله إذا طلب رده إليه، فإذا لم يجد أحدهم ورقا مسح الكتابة من على ورقة أخرى وكتب عليها بعد غسلها أو كشطها متى فرغ الكاتب من كتبه جمعها وسلمها إلى البريد يوصل كل كتاب إلى المرسل إليه بغاية الأمانة. وقد تنتهز الفرصة فيكتب إلى أصحاب متعددين في جهة واحدة، فإذا فك المرسل إليه الصرة وزع الكتب على المرسل إليهم، وعند الحاجة قد ترسل الرسل إلى الأشخاص البعيدين.
ويمكن أن يتحمل الإنسان بنفسه كل هذا التعب؛ يكتب كتبه بيده ويختمها ويرسلها، وقد يتخذ له سكرتيرا يكل إليه كل ذلك، يملي عليه الكتاب ويوقع عليه بتوقيعه؛ فإذا كان المرء متعبا، وعلى الأخص إذا كان به رمد اضطر إلى تكليف غيره، وفي هذه الحالة يعتذر لصاحبه بعجزه عن أن يمسك القلم، كما نقول نحن في هذا المقام. وهؤلاء السكاترة هم محل أمانة بالضرورة متى كانوا يطلعون على أسرار العائلة والأعمال الخصوصية والسياسية. وفي الغالب يستحقون هذه الكرامة التي يؤتون إياها، ولكنهم أحيانا يخونون سادتهم ويفرون بما معهم من الأوراق. ولما أنهم عادة من الأرقاء يقتفى أثرهم ويقبض عليهم إلا إذا أبعدوا في فرارهم بحيث لا يمكن الوصول إليهم، ويخلف الخادم غير الأمين أو العاجز خادم أكثر أمانة وأوفر كفاءة، كل ذلك على عجل بحيث لا ينقطع سير المراسلة زمنا طويلا.
وإذا كان استعمال الكتابة في الشئون الخصوصية من السرعة والسهولة على ما وصفنا، فقد كان استعمالها في الشئون العامة لا يقل عن ذلك الوصف؛ فإن تحرير جميع العقود الرسمية يحصل بغاية السهولة. ومتى استكملت هذه العقود الشرائط المطلوبة عمل منها نسخ بقدر عدد المنتفعين بها. كذلك الأوامر تصدر إلى الموظفين القائمين بالأعمال التنفيذية من كل الطبقات والمخاطبات الإدارية تحصل بوسائل سريعة مأمونة يظهر أنها تشبه على الأقل ما هو عندنا الآن. فإلى أقاصي حدود الجمهورية تصل الأوامر العالية التي يصدرها مجلس الشيوخ ويتخذ من هذه الأوامر صور رسمية تحفظ بمحافظ السجلات، ولولا المحن المتنوعة التي قلبت حال العاصمة الرومانية الخالدة من فتن داخلية ونهب وحرائق وحروب خارجية وهجوم وغارات ... إلخ؛ لولا ذلك كله لكان المرجح أن تكون بين أيدينا تلك الوثائق التي هي أنفس للتاريخ منها لإرضاء حبنا الاطلاع على ذخائر الفن؛ فإن المادة التي كتب عليها كل ذلك يمكن حفظها بدون أن تتغير مدة ثلاثين قرنا، كما تشهد به أوراق البردي المحفوظة في دور الآثار عندنا. فإذا أصابنا ما أصابنا من فقد معالم من ذلك القدم المحترم المخصب فإنما كان ذلك من خطايا الناس لا من خطيئة الزمان.
كذلك كان استعمال الكتب منتشرا عاما في عهد شيشيرون كاستعمال الخطابات كما هو الحال في أيامنا، فلم يكن أحد من الأهالي ذو ميسرة وعلى شيء من العلم إلا له مكتبة على شكل المكاتب التي كانت لأهالي الإسكندرية وفي سائر مدائن الإغريق من قبل ذلك بقرنين أو ثلاثة قرون.
28
كان لكل امرئ في روما مجموعة من الكتب يختارها لنفسه بنفسه أو بواسطة صديق له عوضا عنه إذا كان لهذا الصديق من مركزه مكنه من ذلك أو كان معترفا له بحسن الذوق في هذا النوع. وقد كان من شيشيرون أن كلف أطيقوس إذ كان في آتينا أن يرسل إليه تماثيل وزخارف ليزين بها مكتبته التي كان يسميها الأكاديمي. ولما كان أطيقوس يريد أن يتخلص من بعض كتب نسخها ويريد بيعها رجاه شيشيرون في ألا يبيعها من غيره؛ لأنه كان معجبا بمكتبة أطيقوس؛ وكانت مؤلفة بعناية خصوصية، فطلب إليه تلك النسخ ليجعلها أساسا لمكتبته، ولا يكون عليه بعد ذلك إلا أن يكملها على حسب ما تقتضيه حاجته ودراسته وهواه، كان ذلك في سنة 686، ولم تكن سن شيشيرون تجاوز الأربعين، ومع ذلك يفكر في أن ينزوي من ميدان العمل إلى مسكن جميل هادئ يعيش فيه مع كتبه «تلكم الصحب القدماء» التي يحب مخالطتها حبا جما، كما كان يقول ذلك لفرون الذي هو أيضا يفوق شيشيرون في الشغف بالعلم والأبحاث المتنوعة في قديميات وطنه وقديميات الأمم الأجنبية.
حين تمكن شيشيرون من بعض ساعات الراحة والعزلة حبس نفسه في مكتبته التي زخرفها وزينها، واختفى وسط كتبه حتى كان يجعل منها ركاما عظيما يحيط به من كل ناحية. ومتى لم يكن لديه ما يرغب في مراجعته استنسخه عند أحد أصحابه، فإذا كان لبعض الأصحاب مثل هذه الحاجة قضاها لهم على خير وجه فيكلف كتبته ومقربيه وسكاترته بنسخ الكتاب المطلوب، ويجد لذة في إهدائه كما كان يسره أن يتقبل كتابا يرسل إليه. وكان من الجاري في عرفهم أن الرجل يهدي إلى صاحبه الكتاب الذي يعرف أن له فيه رغبة مستترة أو كان له به حاجة من غير أن يطلبه، وإذا زار أحدهم آخر فوجد كتابا يوافقه أعير إياه فيرده بعد أن يقضي منه حاجته ... إلخ.
يمكنني أن أضاعف هذه التفاصيل إلى غير نهاية، ولكن ما الفائدة في ذلك والناس يعلمون أن الرومان في آخر الجمهورية وقبل بلاين الذي أجاد لنا في كيفية صنع الورق بمائة وخمسين عاما كانوا قد اتخذوا من البردي كل ما نتخذه الآن نحن من الكتان ومن القطن، فكان الناس يكتبون في روما بمقدار ما نكتب نحن في الأغراض الاجتماعية عينها وبنفس السهولة والحدة، بل مع تشابه تام في الشهوات والمباراة. كانت المادة مختلفة ولكن الموضوع واحد، ولا أجد بين الحالين خلافا إلا الخلاف الكبير الذي هو المطبعة التي لم تكن لتستكشف إلا بعد ذلك بخمسة عشر أو ستة عشر قرنا.
كان نسخ الكتب والأوامر الإدارية والخطابات أمرا غاليا وبطيئا، وذلك يستتبع أن تكون تلك النسخ قليلة العدد وفي غاية التعرض للضياع. جاءت المطبعة فجعلت النشر والنقل والحفظ ألف مرة أكثر أمانا وألف مرة أكثر سرعة وألف مرة أرخص ثمنا. بيد النساخ استبدل ضبط المكينة المعصوم وقوتها التي لا تعرف حدا ورخصها الذي لا ينافس، ولكن ذلك لم يكن مهما قيل فيه إلا تغييرا ماديا صرفا، فإن المقصود متوفر في الأزمان الغابرة.
على ذلك يكون المخترع الحقيقي الكبير لا يزال هو الشيخ توت أو أي ساحر آخر من السحرة المصريين، الذي أنطق البردي والحروف التي رسمها عليه قلم الكاتب مغمورا في مادة ملونة. وعلى الرغم مما كان يفكر فيه البصير طاموس فإن المقالة المكتوبة في الذهن لم تكن لتكفي إلا الذي يحملها في طيات نفسه؛ لأنها منعزلة وشبه صماء، وما كانت المقالة لتعيش إلا بالكتابة، ويمكنها أن ترجو من العمر ما لا ينبغي للفرد الفاني أن يرجوه أبدا؛ فإن أوراق البردي لا تزال تكلمنا، وسوف تكلم أحفادنا أزمانا طوالا مع أن طاموس قد حبس عن الكلام منذ أربعين قرنا.
ناپیژندل شوی مخ