Katabat al-Hadith fi Ahd al-Nabi wa Sahabatihi wa Atharuha fi Hifz al-Sunnah al-Nabawiyyah
كتابة الحديث في عهد النبي ﷺ وصحابته وأثرها في حفظ السنة النبوية
خپرندوی
مجمع الملك فهد لطباعة المصحف بالمدينة المنورة
ژانرونه
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد..
فإن العناية بتلقي السنة النبوية المطهرة عن مصدرها المباشر، وهو الرسول ﷺ، ثم عن صحابته الكرام فمن بعدهم، قد توافر فيها ثلاثة جوانب، متزامنة، ومتكاملة، وهي:
١- حفظ الصدور ٢- حفظ السطور
٣- حفظ التطبيق العملي بالقلوب والجوارح آناء الليل والنهار.
وتناول مسيرة هذه الجوانب الثلاثة بالتفصيل وبيان مظاهرها وثمارها يضيق عنه المقام، وليس من مطالب هذا البحث.
حيث إن مقصوده هو تناول معالم فترة معينة في جانب معين وهو كتابة الحديث في عهد النبي ﷺ، وصحابته ﵃ وأثرها في حفظ السنة المطهرة، وذلك لأن هذا الجانب في هذه الفترة قد خفي الكثير من حقائقه على عدد غير قليل من الباحثين الشرقيين والمستشرقين، وبالتالي اختلفت الأنظار حوله حتى وجهت إلى السنة المطهرة بسبب التصور الخاطئ له بعض الانتقادات المغرضة، كما سنشير إلى ذلك في موضعه من هذا البحث إن شاء الله.
1 / 1
تمهيد:
الأُمِيُّون وحفظ السنة في الصدور:
يقول الله ﷿: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر:٩] . والذكر هنا هو القرآن الكريم، وقد قررت هذه الآية بوضوح وتأكيد أن الله تعالى بعظمته العليا كما تفرد بإنزاله على رسوله الكريم، فقد تفرد أيضا بحفظه وصيانته العامة الأبدية من أي تحريف أو دخيل، ومن لوازم حفظه
-سبحانه- لكتابه العظيم، أنه حفظ أيضًا سنة رسوله ﷺ التي جعلها بيانا له معصوما من الخطأ، لصدوره من مقام النبوة الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، ولما كانت بداية بعثته ﷺ في الأميين لحكم سامية، فإن المرحلة الأولى لتلك البعثة قد شاعت فيها أمية القراءة والكتابة بلغة العرب التي اختارها -الله تعالى- لتكون لغة القرآن الكريم، ولم تكن تلك الأمية مثل أمية عصورنا هذه التي تحول بين صاحبها وبين سلامة النطق واستقامة الفهم لما يسمعه، بل كان من دلائل نبوته ﷺ كونه أميًا، وكان الأمي من العرب الخلص يتمتع بسليقة أصيلة تجعله ينطق العربية نطقًا صحيحًا، ويفهمها فهمًا سديدًا.
كما كان العربي الأمي يتمتع أيضًا بحافظة تفوق قوتها ودقتها الوصف بحيث جعل الغالب فيهم تعويله الأصلي عليها بما يعوضه في غالب أمره عن حفظ الكتابة والقراءة، بل إن محمد بن عكرمة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قال:"كان ابن شهاب يختلف إلى الأعرج -يعني عبد الرحمن بن هرمز صاحب أبي هريرة فيسأله الحديث، ثم يأخذ قطعة ورق فيكتب بها ثم يتحفظ،
1 / 2
فإذا حفظ الحديث مزق الرقعة". وفي رواية: كنا نأتي الأعرج ويأتيه ابن شهاب، فنكتب، ولا يكتب ابن شهاب، فربما كان الحديث فيه طول فيأخذ ابن شهاب ورقة من ورق الأعرج ثم يكتب، ثم يقرأ، ثم يمحوه مكانه، وربما قام بما معه فيقرؤها ثم يمحوها (١) .
وروى الفسوي في تاريخه من طريق عبد الرحمن بن سلمة الجمحي قال: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص يحدث عن رسول الله ﷺ حديثًا فكتبته، فلما حفظته محوته: "قد أفلح من أسلم وكان رزقه كفافًا وصبر على ذلك" (٢) .
ومن هذا يستفاد أهمية الحفظ للسنة في الصدور ومدى الاعتماد عليه في عهد الصحابة والتابعين.
_________
(١) مكتفيا بالحفظ. انظر: ترجمة الإمام الزهري من تاريخ ابن عساكر (ص ٦٠- ٦٢) ط/ مؤسسة الرسالة.
(٢) «المعرفة والتاريخ» للفسوي (٢/ ٥٢٣) .
1 / 3
كتابة الحديث في عهد النبي ﷺ وصحابته وأثرها في حفظ السنة
إعداد الأستاذ الدكتور/ أحمد معبد عبد الكريم
بسم الله الرحمن الرحيم
المبحث الأول: الإذن النبوي العام لمن سمع منه ﷺ أن يكتب ما سمع ورد الشبه عن ذلك إجمالا
لكن رغم هذا فإن الرسول ﷺ استعمل الكتابة وأذن في استعمالها في حفظ السنة النبوية طالما توافر تمييزها عن المكتوب من القرآن الكريم من جهة، وكانت الكتابة محققة لغاية الحفظ المطلوب للسنة أو لتبليغها للغير من جهة أخرى.
وبهذا صارت السنة النبوية تحفظ عن الرسول ﷺ وعن صحابته بطريقين متكاملين ومتزامنين في أوقات كثيرة.
الأولى: طريقة التلقي بالسماع أو المشاهدة أو غيرهما، وحفظ المُتلَقّي في الذاكرة فقط دون كتابة.
والثانية: طريقة الكتابة بجانب الحفظ في الذاكرة وذلك في ما كان متيسرًا مما يكتب عليه حينذاك، من العظام والجلود والأوراق.
لكن هذه الطريقة الثانية لم تأخذ حظًا كافيًا من إظهار دلائلها وصور العناية بها، وتعداد من قام بها من الصحابة والتابعين في مباحث خاصة بذلك، ولعل ذلك لأنها لم تكن محل شك أو إنكار في عصور تدوين السنة في مصنفات خلال القرن الثاني والثالث.
لكن جاء في العصور المتأخرة غير واحد، ممن ينسبون إلى البحث والاطلاع والتمحيص ينتقدون السنة النبوية من جهة عدم العناية بكتابتها وتدوين مروياتها وتصنيفها في مصنفات متداولة إلا في وقت متأخر عن عصر الرسول ﷺ وصحابته، ويرتبون على ذلك الزعم بكثرة الدخيل فيها عند
1 / 4
تصنيفها المتأخر عن عصر النبوة والصحابة.
وقد نهض -بحمد الله- من الباحثين المخلصين مَن ناقش هذه الانتقادات وردها جملة وتفصيلًا بالأدلة المناسبة، وذلك مثل الشيخ المعلمي ﵀ في كتاب: "الأضواء الكاشفة" والدكتور محمد عجاج الخطيب في كتابه: "السنة قبل التدوين" يعني قبل كتابتها كتابة عامة بأمر الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز في مدونات جامعة، والأستاذ الدكتور محمد مصطفى الأعظمي في كتابه: "دراسات في الحديث النبوي" (١) وغير هؤلاء كثير.
وما أقدمه اليوم هو مساهمة متواضعة في البيان الواقعي للعناية الظاهرة بكتابة السنة النبوية في عصره ﷺ وعصر صحابته الكرام، مع الإذن العام في ذلك فمن وقائع عنايته ﷺ بكتابة السنة: ما رواه رافع بن خديج ﵁ قال: مر علينا رسول الله ﷺ يومًا ونحن نتحدث فقال: "ما تحدثون؟ " فقلنا: ما سمعنا منك يا رسول الله، قال: "تحدثوا وليتبوأ مقعده مَن كذب عليَّ من جهنم" ومضى لحاجته، وسكت القوم فقال: "ما شأنهم لا يتحدثون؟ " قالوا: للذي سمعناه منك يا رسول الله. قال: "إني لم أرد ذلك، إنما أردت مَن تعمد ذلك" فتحدثنا، قال: قلت: يا رسول الله إنا نسمع منك أشياء أفنكتبها؟ قال: "اكتبوا ذلك ولا حرج" (٢) .
_________
(١) وهذه الكتب الثلاثة طبعت عدة طبعات.
(٢) أخرجه الرامهرمزي في المحدث الفاصل واللفظ له حديث (٣٣١)، والخطيب في تقييد العلم (ص٧٢- ٧٣)، والطبراني في الكبير ٤/ حديث (٤٤١٠) مع اختصار القصة في أوله، ثلاثتهم من طريق عبد الرحمن ابن ثوبان قال: حدثني أبو مدرك، قال: حدثني عباية بن رفاعة بن رافع، ابن خديج عن رافع به؛ وأبو مدرك هو عبد الله بن مدرك الأزدي شامى – ذكره ابن عبد البر في الاستغناء (١٩١١) ولم يذكر في حاله شيئا ولا ذكر راويًا عنه سوى ابن ثوبان وينظر تهذيب الكمال (١٤/ت٣١٤٩) «عباية بن رفاعة» وعلى هذا فأبو مدرك هذا مجهول، وهو غير «أبي مدرك» المذكور في الميزان (٤/١٠٥٨٩)، «واللسان» (٧/١١١٧- ١١١٨) مع وصف الدارقطني له بأنه متروك.
1 / 5
وفي الحديث كما نرى أمر بمعنى الإذن في كتابة الحديث عمومًا مع اجتناب الكذب عليه ﷺ قولًا وكتابة.
وللحديث شواهد منها:
ما أخرجه الحاكم في المستدرك (١/١٠٦) من طريق عبد الله بن المؤمل، والنسائي في الكبرى (التحفة ٣/ ٨٨٨٥) من طريق الوليد بن مسلم، كلاهما عن ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح، عن عبد الله بن عمرو بن العاص- ﵄ أن النبي ﷺ قال: "قيدوا العلم" قلت: وما تقييده؟ قال: "كتابته".
وروي الحديث عن أنس ﵁ مرفوعًا وموقوفًا (١) وتضعيف المرفوع ينجبر بالشاهد السابق والآتي.
ولفظ رواية النسائي: إن عبد الله بن عمرو ﵄ قال: يا رسول الله إنا نسمع منك أحاديث أفتأذن لنا أن نكتبها؟ قال: "نعم" فكان أول ما كَتبَ: كتاب النبي ﷺ إلى أهل مكة. "لا يجوز شرطان في بيع واحد، ولا بيع وسلف جميعًا..." الحديث.
وما في سند هذا الحديث من عنعنة ابن جريج ينجبر بباقي الطرق
_________
(١) تقييد العلم (ص٩٧)، وجامع بيان العلم ١/٣٩٥)، والمستدرك (١/١٠٦)، ومسند الشهاب (٦٣٧) .
1 / 6
السابقة واللاحقة فيرتقي إلى الصحيح لغيره (١) وعن عبد الله بن عمرو ﵄ قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله ﷺ فنهتني قريش، وقالوا: تكتب كل شيء تسمعه ورسول الله ﷺ بشر يتكلم في الغضب والرضا؟ فأمسكت عن الكتابة، فذكرت ذلك لرسول الله ﷺ فأومأ بإصبعه إلى فيه فقال: "اكتب فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق" (٢) .
وأخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة ﵁ قال: ما من أصحاب النبي ﷺ أحد أكثر حديثًا عنه مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب ولا أكتب (٣) .
وفي رواية لأحمد وغيره أن أبا هريرة ﵁ قال: إلا ما كان من عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب بيده ويعي بقلبه، وكنت أعي ولا أكتب بيدي، واستأذن رسول الله ﷺ في الكتابة فأذن له (٤) .
وبهاتين الروايتين ينجبر ضعف غيرهما مما تقدم، من حديث رافع بن خديج وأنس وبعض طرق حديث عبد الله بن عمرو ويكون ما ذكره الشيخ رشيد رضا ﵀ في مجلة المنار (٥) وتابعه غيره (٦) من الاقتصار على تضعيف بعض طرق حديث عبد الله بن عمرو، وحديث أنس -رضي الله
_________
(١) ينظر مختصر استدراك الحافظ الذهبي لابن الملقن (١ح ١٩) بتحقيق د/ سعد الحميد.
(٢) أخرجه الإمام أبو داود حديث (٣٦٤٦)، وبنحوه أخرجه الإمام أحمد (٢/٢٠٧/ح ٦٩٣٠)، والحاكم (١/١٠٥) وصححه، وأقره الذهبي، وقال الحافظ في الفتح (١/٢٠٧): إن طرقه يقوي بعضها بعضًا.
(٣) صحيح البخاري (مع الفتح) كتاب العلم حديث (١١٣) .
(٤) المسند (٢/٤٠٣/ح ٩٢٣١)، والفتح (١/ ٢٠٧) .
(٥) مجلة المنار (١٠/ ٧٦٣- ٧٦٦) .
(٦) ينظر تقييد العلم للخطيب بتحقيق يوسف العش (٧٣ حاشية ١٤٣) .
1 / 7
عنه- مِنْ بعض طرقه مردود عليه بوجود ما يشهد له من الصحيح والحسن كما ترى.
كما أن حديث أبي هريرة السابق ينبغي أن يلاحظ فيه أمران متعلقان بموضوعنا:
الأمر الأول: المنافسة الظاهرة بين أبي هريرة وبين عبد الله بن عمرو ﵃ في حفظ ما تلقياه عن الرسول ﷺ بما يدل على علو همة مَنْ تصدَّى لهذه المهمة من الصحابة الكرام، وحرصه على القيام بها على أتم وجه.
الأمر الثاني: توافر عوامل طريقتي الحفظ معًا وهما حفظ الصدور من أبي هريرة، وحفظ الصدور والسطور من عبد الله بن عمرو -رضي الله عن الجميع- بحيث لا يُظن من اقتصار أبي هريرة عن حفظ الصدور أن محصلته كانت أقل أو ضبطه كان أضعف.
وذلك لأن ابن الجوزي وغيره ذكروا أن أبا هريرة قد رُوي عنه (٥٣٧٤) حديثًا (١) في حين ذكروا أن عبد الله بن عمرو قد روي عنه (٧٠٠) حديث وقيل أقل من ذلك (٢) .
كما أن أبا هريرة أتيحت له فرصة ذهبية جعلت لحفظه مزية عليا حيث إن رسول الله ﷺ حدَّث يومًا وقال: " أيكم يبسط ثوبه فيأخذ من حديثي هذا، ثم يجمعه إلى صدره، فإنه لم ينس شيئًا سمعه؟ " قال أبو هريرة: فبسطت بردة عليّ حتى فرغ من حديثه، ثم جمعتها إلى صدري فما نسيت
_________
(١) ينظر تلقيح فهوم أهل الأثر لابن الجوزي (٣٦٣) وسير النبلاء (٣/٥٩٤) .
(٢) تلقيح فهوم أهل الأثر: ٣٦٣.
1 / 8
بعد ذلك اليوم شيئا حدثني به (١) . ومن أجل ذلك قال الذهبي: كان حفظ أبي هريرة الخارق، من معجزات النبوة (٢)، وشهد له به غير واحد من الصحابة عن رؤية ومعايشة علمية، واختبار (٣) .
_________
(١) أخرجه البخاري كتاب الحرث والمزارعة برقم (٢٣٥٠) ومسلم، واللفظ له، في فضائل الصحابة برقم (٢٤٩٢) كلاهما من حديث أبي هريرة.
(٢) السير (٢/٥٩٤) .
(٣) سير النبلاء (٢/ ٥٩٨، ٦٠٣، ٦٠٤، ٦٠٦، ٦٠٧) .
1 / 9
المبحث الثاني: مما كتبه وصنفه الصحابة
قد سبق أن ذكرت أن عبد الله بن عمرو بن العاص ﵄ قد أذن له الرسول ﷺ بأن يكتب عنه كل ما يصدر منه في كافة أحواله من الغضب والرضا، وأن العلماء استدلوا بهذا على جواز ذلك أيضًا لغير عبد الله ابن عمرو من الصحابة.
وقد جاء عن عبد الله بن عمرو نفسه ما يفيد وقوع ذلك فعلًا، فعن أبي قبيل المعافري قال: كنا عند عبد الله بن عمرو بن العاص ﵁ وسُئِل: أي المدينتين تفتح أولًا: القسطنطينية (١) أو رُومِيَّة؟ (٢)، قال: فدعا عبد الله بن عمرو بصندوق له حَلَق، قال: فأخرج منه كتابًا فجعل يقرؤه، قال: فقال عبد الله: بينما نحن حول رسول الله ﷺ نكتب، إذ سئل رسول الله ﷺ أي المدينتين تفتح أولًا: قسطنطينية أو رومية؟
فقال النبي ﷺ: "بل مدينة هرقل أولًا تفتح" (٣) يعني القسطنطينية.
_________
(١) هي «إسطنبول» الموجودة في تركيا، حاليا. ينظر: معجم البلدان لياقوت (٤/ ٢٤٧) .
(٢) ذكر ياقوت الحموي أن «رومية» تطلق على بلدتين إحداهما تقع شمال غربي القسطنطينية السابق ذكرها، والثانية بالمدائن – يعني من بلاد فارس. ينظر: معجم البلدان ٣/ ١٠٠.
(٣) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (٥/٣٢٩- ٣٣٠ كتاب) الجهاد، واللفظ له، والباقون بنحوه.
وأحمد في المسند (٢/١٧٦) حديث (٦٦٤٥) .
والدارمي في سننه (١/١٣٣) حديث (٤٩٢) كتاب العلم.
والحاكم في المستدرك (٤/ ٤٢٢، ٥٥٥) كتاب الفتن.
أربعتهم من طرق، عن يحيى بن أيوب عن أبي قبيل – حيي بن نافع المعافري – عن عبد الله بن عمرو، به. وصححه الحاكم في الموضع الأول على شرط الشيخين، وفي الموضع الثاني قال: «صحيح الإسناد ولم يخرجاه» ووافقه الذهبي في الموضعين.
وأخرجه ابن عبد الحكم في فتوح مصر (٢٨٥) بتحقيق الأخ الدكتور علي عمر -حفظه الله- من طريق سعيد بن عفير عن يحيى بن أيوب به.
وقال الذهبي: «هذا حديث حسن غريب» السير (٣/٨٧) .
1 / 10
وتقدم في حديث عبد الله بن عمرو هذا أيضًا: قلت: يا رسول الله إنا نسمع منك أحاديث لا نحفظها، أفلا نكتبها؟ قال: "بلى فاكتبوها" فمن قول عبد الله بن عمرو ﵁ "أفلا نكتبها"، وقوله ﷺ "اكتبوها". ومن قوله في الحديث السابق "بينما نحن حول رسول الله ﷺ نكتب" يستفاد أن الكتابة للسنة كانت تقع بين يدي رسول الله ﷺ مباشرة، بعلمه وموافقته، وأن عبد الله بن عمرو استأذن الرسول ﷺ لنفسه ولجماعة معه، وأذن الرسول ﷺ لجماعتهم فقال: "اكتبوها". وبمقتضى هذا الإذن كانوا يجتمعون حوله ﷺ ويكتبون كتابة جماعية، كما يستفاد من الحديث الأول أن عبد الله بن عمرو كان يعتني بصيانة ما كان يكتبه عن رسول الله ﷺ في صندوق خاص حتى لا يتطرق إليه تلف أو ضياع أو دخيل، وهذا يعد تأصيلًا لما ذكره علماء المصطلح في ضبط الكتاب، دون أن يذكروا له مثالًا كهذا، ويستفاد كذلك أن عبد الله بن عمرو كان يخرج المكتوبات التي في هذا الصندوق، ويحدث منها بقراءته ويسمع منه جماعة الحاضرين، ومنهم من يسأله، كما يفيده قول الراوي عنه: "كنا عند عبد الله بن عمرو ﵁ وسئل..." وقول الراوي: إن الصندوق الذي أخرج عبد الله منه المكتوب الذي حدثهم به كان له "حلق" إشارة منه لتأكده من مناسبة الحديث وملابساته، ووجود تلك الحَلَق في الصندوق تفيد، إما كبر حجمه، بحيث وُضع له حَلَق تُسهل حملَه ونقلَه، وإما مزيد العناية بوضع حلق فيه لإحكام إغلاقه.
1 / 11
كما أن هذا يدل على أن ما كتبه عبد الله بن عمرو عن رسول الله ﷺ لم يكن صحيفته المشهورة فقط، والتي كان يعتز بها، ويسميها (الصادقة) كما سيأتي ذكره، ولكن كان ما كتبه عنه ﷺ أكثر، بحيث احتاج في حفظه وصيانته إلى صندوق له حَلَق مما يدل على أنه كان كبير الحجم.
وقد حكم الذهبي بتحسين حديث الصندوق المذكور، ثم قال: "وهو دال على أن الصحابة كتبوا عن النبي ﷺ بعض أقواله...، ثم قال: وكتبوا عنه كتاب الديات، وفرائض الصدقة، وغير ذلك" (١) .
وقال أيضًا عن عبد الله بن عمرو ﵁:"وكَتَبَ الكثيرَ بإذن النبي ﷺ وترخيصه له في الكتابة بعد كراهيته للصحابة أن يكتبوا عنه سوى القرآن، وسوَّغ ذلك النبيُّ ﷺ ثم انعقد الإجماع بعد اختلاف الصحابة ﵃ على الجواز والاستحباب لتقييد العلم... ثم قال الذهبي أيضًا: والظاهر أن النهي كان أولًا لتتوافر هممهم على القرآن وَحْدَه، وليمتاز القرآن بالكتابة عما سواه من السنة النبوية، فيؤمن اللبس، فلما زال المحذور واللبس ووضح أن القرآن لا يشتبه بكلام الناس، أذن في كتابة العلم، والله أعلم" (٢) .
وقد تقدم أن مجمل مرويات عبد الله بن عمرو بن العاص بلغت (٧٠٠) حديث أو أقل، ولو أننا استعرضنا ما توافر لدينا من أدلة معتد بها على ما كتبه عبد الله بن عمرو بنفسه، وما كتبه عنه بعض من سمع منه، فسنجد أن ذلك يكوِّنُ نسبة غير قليلة من مجموع ما تقدم ذكره من أحاديثه المدونة في كتب الحديث الأصلية من الصحيحين والسنن والمسانيد وغيرها.
_________
(١) سير أعلام النبلاء (٣/٨٧- ٨٨) ونصب الراية للزيلعي (٢/٣٣٥، ٣٤٤) .
(٢) السير (٣/ ٨٠- ٨١) .
1 / 12
كما جاءت عنه بعض روايات أنه كان يحتفظ ببعض الآثار الموقوفة:
فروى عمرو بن شعيب قال: وجدنا في كتاب عبد الله بن عمرو، عن عمر بن الخطاب قال: "إذا عبث المعتوه (١) بامرأته، أُمر وَليُّهُ أن يُطلِّق" (٢) .
وفي رواية أن عمر كتب إلى عمرو بن العاص: "أنه يُؤجَّل سَنَةً، فإن برئ، وإلا فرق بينه وبين امرأته" (٣) .
وجاء عن عبد الله بن عمرو ﵁ أن مما كتبه عن رسول الله ﷺ صحيفة سماها (الصادقة) فعن مجاهد قال: أتيت عبد الله بن عمرو فتناولت صحيفة من تحت مفرشه، فمنعني، قلت: ما كنت تمنعني شيئًا، قال: "هذه الصادقة، هذه ما سمعت من رسول الله ﷺ ليس بيني وبينه (فيها) أحد، إذا سلمتْ لي هذه، وكتاب الله ﵎ والوَهْط (٤) فما أبالي ما كانت
_________
(١) أي المجنون، وشبهه.
(٢) أخرجه الإمام الدارقطني في سننه (٤/٦٥) حديث (١٥٩-١٦١) من طرق عن سفيان الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن عمرو بن شعيب قال: وجدنا في كتاب عبد الله بن عمرو عن عمر بن الخطاب ... (الحديث) . ومدار طرق الحديث كما ترى على حبيب بن أبي ثابت، ومع ثقته وجلالته، فإنه يدلس، تدليسًا قادحًا/ ينظر التقريب (١٠٨٤)، وطبقات المدلسين (ص٨٤) ولم يذكر هنا ما يفيد الاتصال، فتكون روايته ضعيفة لانقطاعها، لكن للحديث طريق آخر يعضده، وهو الآتي عقب هذا، حاشية (٣)، وبمجموع الطريقين يرتقي الحديث إلى الحسن لغيره.
(٣) أخرجه الإمام الدارقطني أيضًا في سننه كتاب النكاح - باب المهر (٣/ ٢٦٧) حديث (٨٦) من طريق هشيم بن بشير عن حجاج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن عمرو بن العاص كتب إلى عمر بن الخطاب في مسلسل يخاف على امرأته منه، فكتب إليه ... (الحديث) وهذا إسناد رجاله ثقات إلى حجاج، وهو ابن أرطاة وهو صدوق كثير الخطأ -كما في التقريب (١١١٩) فيكون ضعيفًا من جهة ضبطه، كما أنه يدلس تدليسًا قادحًا / طبقات المدلسين (١٢٥)، وقد عنعن هنا، فتكون روايته هذه ضعيفة لأجله، ولكن تعضدها الرواية السابقة في الحاشية رقم (٢) كما قدمت، فتكون حسنةً لغيرها.
(٤) سيأتي تفسير معناه في الرواية الآتية.
1 / 13
عليه الدنيا" (١)، ومن ذلك يفهم أن عنايته بكتابة السنة، لم تشغله عن عنايته بالقرآن الكريم.
وجاءت عنه رواية أخرى قال فيها: أما الصادقة فصحيفة كتبتها عن رسول الله ﷺ وأما الوَهْط فأرض تصدق بها عمرو بن العاص، وكان يقوم عليها (٢) .
ونقل الذهبي عن بعض العلماء قوله: ينبغي أن تكون تلك الصحيفة أصح من كل شيء؛ لأنها مما كتبه عبد الله بن عمرو عن النبي ﷺ والكتابة أضبط من حفظ الرجال (٣) .
ويذكر الدارسون: أن هذه الصحيفة الصادقة هي التي رواها عمرو بن
_________
(١) أخرجه ابن سعد في الطبقات (٤/٢٦٢) والخطيب في تقييد العلم (٨٤) كلاهما من طريق إسحق بن يحيى عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو بن العاص، به. وليس في رواية ابن سعد قوله: إذا سلمت لي هذه ... (الحديث) . وفي هذا الإسناد إسحق بن طلحة التيمي، وهو ضعيف/ التقريب (٣٩٠) .
وأخرج ابن سعد أيضًا عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي أويس عن سليمان بن بلال عن صفوان بن سليم عن عبد الله بن عمرو قال: استأذنت النبي ﷺ في كتابة ما سمعته، فأذن لي، فكتبته، فكان عبد الله يسمي صحيفته تلك الصادقة / الطبقات (٤/٢٦٢) .
ورجال هذا الإسناد ثقات غير شيخ ابن سعد، (أبو بكر بن عبد الله) فلم أقف على ترجمته.
وأيضًا هناك رواية أخرى ستأتي في حاشية (٣) من طريق آخر، وبمجموع تلك الطرق يرتقي الحديث إلى الحسن لغيره.
(٢) أخرجه الدارمي في سننه -كتاب العلم- باب من رخص في كتابة العلم ١/حديث (٥٠٢) والخطيب في تقييد العلم (٨٤) من طريق شريك عن ليث عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو، به وأخرجه الخطيب في تقييد العلم (٨٥) من طريق عنبسة بن سعيد عن ليث، به، ومن طريق الحسن بن عرفة عن إسماعيل بن عياش عن محمد بن زياد الألهاني عن أبي راشد الحبراني عن عبد الله بن عمرو، به بمعناه مع زيادة في آخره. وهذان الطريقان مع ماتقدم في حاشية رقم (٢)، يرتقي بطرق الحديث إلى الحسن لغيره.
(٣) تاريخ الإسلام (وفيات سنة -١١٨؟. ص٣٣٤) .
1 / 14
شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو (١) .
فإذًا ومَنْ يقف على وصف محتوياتها يظهر له أن تسميتها صحيفة ليس معناه أنها عبارة عن ورقة واحدة كما هو المتبادر؛ بل كانت أوراقًا كثيرة، فقد وقف ابن حبان على نسخة منها ورواها عن شيخه أبي يعلى الموصلي وقال: في نسخة كتبناها عنه طويلة (٢) .
فالمراد بالصحيفة أو النسخة في اصطلاح المحدثين: مجموعة الأحاديث التي رُويت بإسناد واحد ولو بلغت أوراقًا كثيرة مثل صحيفة أو نسخة عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده، وبهز بن حكيم عن أبيه عن جده (٣) .
وقد أطلق ابن معين وغيره على صحيفة عمرو بن شعيب اسم "الكتاب" (٤) .
ومن آخر البحوث المتخصصة عن عدد أحاديثها ما قرر فيه صاحبه أنها تبلغ (٢٣١) حديثًا غير المكرر أكثر من مرة، وذلك بعد إحصائه لها من عدد من كتب السنن والمسانيد، وعلم الرجال حيث روى كل منها بعض أحاديثها (٥) .
لكن بعض تلاميذ عبد الله بن عمرو غير: شعيب والد عمرو هذا،
_________
(١) ينظر كتاب «صحيفة عمرو بن شعيب، وبهز بن حكيم عند المحدثين والفقهاء» للأستاذ محمد علي بن الصديق (١٠-١١، و١٢٩- ١٣٤) .
(٢) المجروحين لابن حبان (٢/٧٢) .
(٣) ينظر تهذيب التهذيب (١/ترجمة) (٩٢٤) و(٣/١٢) .
(٤) الميزان للذهبي (٣/٢٦٣- ٢٦٥) .
(٥) ينظر كتاب صحيفة عمرو بن شعيب وبهز بن حكيم (ص: ١٣٢- ١٣٤) وتحفة الأشراف للمزي (٦) حديث (٨٦٥٥- ٨٨١٧) . وإتحاف المهرة لابن حجر (٩/حديث ١١٧٠٠- ١١٨٧١) .
1 / 15
ومحمد بن عبد الله بن عمرو، جد شعيب، جاء عنهم أيضًا ما يفيد وجود مكتوبات متعددة عنده، وكان يُسمعهم منها.
فتلميذه أبو راشد الحمراني (١) قال: أتيت عبد الله بن عمرو بن العاص فقلت له: حدثنا ما سمعت من رسول الله ﷺ فألقى بين يدي صحيفة فقال: هذا ما كتب لي رسول الله ﷺ فنظرت فيها فإذا فيها: أن أبا بكر الصديق قال: يا رسول الله علمني ما أقول إذا أصبحت وإذا أمسيت، فقال له رسول الله ﷺ: "يا أبا بكر قل: اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة، لا إله إلا أنت ..." الحديث (٢) وقوله: "هذا ما كتب لي رسول الله ﷺ" أي: أذن لي بكتابته عنه، كما في الروايات الأخرى التي سبق بعضها.
وكلام أبي راشد هذا، يفيد أنه كان بمفرده عندما جاء إلى عبد الله بن عمرو وأطلعه على صحيفة مما كتبه، ويعتبر صنيع عبد الله بن عمرو هذا مع تلميذه أبي راشد، من تأصيل التحمل بالمناولة، حيث ألقى بين يديه الصحيفة المكتوب فيها الحديث، وأخبره بأنها مما أذن له الرسول ﷺ بكتابته عنه، ثم مكنه من النظر فيها، وقراءة الحديث المذكور منها. ويبدو أن جماعة غير أبي راشد قد رأوا هذه الصحيفة أيضًا، وتحملوا منها رواية الحديث السابق نفسه بلفظ مقارب، فقد قال أبو عبد الرحمن الحُبلي المصري، تلميذ عبد الله بن عمرو أيضًا: أخرج لنا عبد الله بن عمرو قرطاسًا (٣) وقال: كان رسول الله ﷺ
_________
(١) تهذيب التهذيب (١٢/٩١) .
(٢) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (٢/ ١٩٦) حديث (٦٨٥٢) بإسناد حسن.
(٣) القرطاس: ما يكتب فيه. انظر المفردات للراغب الأصفهاني، مادة قرطس.
1 / 16
يعلمنا، يقول: "اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت رب كل شيء..." الحديث (١) .
فقول أبي عبد الرحمن الحبلي: "أخرج لنا" يفيد أنهم كانوا جماعة، وأن عبد الله بن عمرو قرأ عليهم المكتوب. ومن تلاميذه من روى بعض الأحاديث التي كتبها عبد الله بن عمرو وأرسل بها إليه، فأرض "الوهْط" التي كانت ل عبد الله بن عمرو - كما تقدم - كان له فيها عامل زراعيّ يقال له: "سالم مولى عبد الله بن عمرو" وعرض عليه جيرانه أن يشتروا منه ما يفيض عن حاجة عبد الله بن عمرو من المياه، قال سالم: أعطَوْنِي بفضل الماء من أرضه بالوهْط ثلاثين ألفًا، قال: فكتبت إلى عبد الله بن عمرو، فكتب إلي: لا تبعه، ولكن أقِمْ قِلْدَك (٢) ثم اسق الأدنى فالأدنى، فإني سمعت رسول الله ﷺ ينهى عن بيع فضل الماء (٣) .
وجاء عن أحد تلاميذ عبد الله أنه أملى عليه بعض حديثه وكتبها عنه في صحيفة وهو: أبو سبرة الهذلي، فقد قال لعبيد الله بن زياد - لما سمعه يجادل في حوض رسول الله ﷺ الذي جعله الله له في الآخرة -: ألا أحدثك حديثًا فيه شفاء هذا، إن أباك بعث معي بمالك إلى معاوية، فلقيت عبد الله بن عمرو بن العاص، فحدثني مما سمع من رسول الله ﷺ وأملى عليَّ، فكتبت بيدي فلم أزد حرفًا، ولم أنقص حرفًا، حدثني أن رسول الله ﷺ قال: "إن الله لا يحب
_________
(١) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (٢/ ١٧٨) حديث (٦٥٩٧) وإسناده حسن لغيره.
(٢) يعنى اسق ما عندك من نوبتك من الماء، ثم أعط ما زاد لمن يليك دون بيع.
(٣) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (٢/ ١٨٣) حديث (٦٧٢٢)، والإمام البيهقي في سننه (٦/١٦)، وله شاهد عند الإمام النسائي في سننه (٧/٣٠٧) بإسناد صحيح.
1 / 17
الفحش، أو يبغض الفاحش والمتفحش، قال: ولا تقوم الساعة حتى يظهر الفحش والتفاحش وقطيعة الرحم وسوء المجاورة، وحتى يؤتمن الخائن، ويُخوَّن الأمين، وقال: "ألا إن موعدكم حوضي عرضه وطوله واحد وهو كما بين أيلة (١) ومكة".. الحديث وفيه: "من شرب منه لم يظمأ بعده أبدًا" فقال عبيد الله: ما سمعت في الحوض حديثًا أثبت من هذا، فصدق به، وأخذ الصحيفة فحبسها عنده (٢) .
وفي رواية أخرى للحديث: أنه لما حبس عبيد الله بن زياد الكتاب عنده، قال أبو بُسرة: فجزعت عليه، فلقيني يحيى بن يعمر، فشكوت إليه، فقال: والله لأنا أحفظ له من السورة من القرآن فحدثني به كما كان في الكتاب سواء (٣) .
وهذه الرواية تفيد أن حفظ الصدور، وحفظ الكتاب كانا متضافرين على صيانة السنة وتعويض أحدهما ما فُقد من الآخر، وأن حفظ الصدور كان من القوة بحيث يطمأن إلى نيابته عن الكتابة عند افتقادها.
وجاء أيضًا عن أحد تلاميذ عبد الله بن عمرو من التابعين المصريين، وهو شُفَى بن ماتع الأصبحي المصري (٤): أنه سمع من عبد الله بن عمرو كتابين:
_________
(١) هي المعروفة الآن باسم «العقبة» في جنوب الأردن على شاطئ البحر الأحمر، وفيها ميناء العقبة.
(٢) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (٢/ ١٦٢- ١٦٣) حديث (٦٥١٤) .
والحاكم في المستدرك من طريق الإمام أحمد وغيره (١/١٧٥) وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي.
(٣) أخرجها الإمام أحمد في المسند (٢/١٩٩) حديث (٦٨٧٢) .
(٤) تهذيب الكمال (١٥/٣٥٧-٣٥٩ و١٢/٥٤٣- ٥٤٤) .
1 / 18
أحدهما: عبارة عن أحاديث قولية وفعلية مرفوعة.
والآخر: فيه ما يتعلق بما يقع آخر الزمن من الفتن وعلامات الساعة إلى يوم القيامة، وذكر ابن يونس: أن نسختي هذين الكتابين قد افتقدتا بإلقاء أحد الناس لهما في النيل (١) ووصفهما بأنهما كتابان، مع بيان مشتملاتهما إِجمالًا، يستفاد منه أن حجمهما كان كبيرًا، لكن قد عوضنا الله - تعالى- عنهما بما حفظه لنا بعض تلاميذ شُفَي هذا، إما صدرًا، وإما كتابة، ووصل إلينا مدونًا في بعض كتب السنن (٢) والمسانيد وغيرها (٣) .
وهكذا يظهر لنا من خلال ما تقدم: أن ماكتبه عبد الله بن عمرو بن العاص عن رسول الله ﷺ كان قدرًا كبيرًا، فمنه ما كان يحفظه في صندوق ذي حلقات، ومنه ما كان يعتز به أكثر فيحفظه تحت فراشه؛ ليكون قريبًا منه.
وبلغت نسخة عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وحدها قرابة مائتين وخمسين حديثًا مرفوعًا بدون المكرر منها مرة فأكثر لما قدمت.
كما يظهر لنا أن عددًا آخر من تلاميذ عبد الله بن عمرو من غير أهله، قد تلقوا عنه مدونات في أكثر من كتاب، مشتملة على سنن فعلية، أو قولية، في العقيدة والشريعة، كما اشتملت أيضًا على بعض سنن الخلفاء الراشدين.
ويظهر لنا أيضًا أن ما أملاه عبد الله بن عمرو، أو كتب عنه عمومًا، قد
_________
(١) تهذيب التهذيب (٤/٣٦٠)، وخطط المقريزي (٢/٣٣٢)، وتذهيب تهذيب الكمال للذهبي: ١/ق ١٤٨ أ، ب (مخطوط) .
(٢) ينظر تحفة الأشراف (٦/ حديث ٨٨٢٥- ٨٨٢٧) .
(٣) ينظر إتحاف المهرة (٩/ حديث ١١٨٧٢، ١١٨٧٢ مكرر، ١١٨٧٣)، والمعجم الكبير للطبراني (١٣/ حديث ١٦- ١٩) .
1 / 19
انتشر بواسطة تلاميذه في أقطار الإسلام شرقًا وغربًا، كالشام، ومصر، والعراق، وغيرها.
ولم تقتصر عناية الصحابة على الكتابة الإجمالية لمروياتهم دون تنظيمها في مصنفات وأبواب موضوعية، بل وجدنا منهم من يجمع مما تلقاه عن رسول الله ﷺ أحاديث متعلقة بموضوع واحد في تصنيف خاص به.
من ذلك أن جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري ﵁ المتوفى سنة ٧٨هـ بالمدينة المنورة قد عُرف بأنه حمل عن النبي ﷺ علما كثيرا نافعا، وعرف بالفقه والفتوى والرحلة في طلب الحديث، ومروياته المسندة -كما ذكر الحافظ الذهبي - (١٥٤٠) حديثًا.
ويعد من أول من صنف الحديث على الموضوعات من الصحابة حيث ذكر الذهبي أن له منسكًا (١) صغيرًا في الحج، أخرجه مسلم في صحيحه (٢) .
وعند مراجعة صحيح مسلم نجد مصداق ذلك فعلا حيث إنه في كتاب الحج باب حجة النبي ﷺ أخرج من طريق حاتم بن إسماعيل المدني عن جعفر ابن محمد عن أبيه قال: دخلنا على جابر بن عبد الله، فسأل عن القوم (٣) حتى انتهى إلىَّ فقلت أنا محمد بن علي بن حسين، فأهوى بيده إلى رأسي، فنزع زِرّي الأعلى (٤) ثم نزع زري الأسفل، ثم وضع كفه بين ثدْيَيَّ وأنا يومئذ غلام شباب فقال مرحبا بك يا بن أخي، سل عما شئت، فسألته وهو أعمى
_________
(١) أي كتاب يتناول بيان أحكام مناسك الحج، كما يوضحه بقية عبارة الذهبي.
(٢) ينظر تذكرة الحفاظ (١/٤٣) وسير النبلاء (٣/ ١٨٩- ١٩٤) .
(٣) أي جماعة الرجال الداخلين عليه حينذاك.
(٤) زر قميصه الذي كان يلبسه.
1 / 20