وكان توفيق الحكيم واحدا من هؤلاء الزاهدين، وقد عرفته عن قرب شديد في اجتماعات لجنة القصة بالمجلس الأعلى للفنون والآداب، ولمدة ثلاثة أو أربعة أعوام من عام 1969 حتى عام 1972، وكان هو رئيس اللجنة، وكنت أنا عضوة بهذه اللجنة مع آخرين وأخريات من الأدباء والأديبات، أذكر منهم يوسف الشاروني ويوسف إدريس ونجيب محفوظ ولطيفة الزيات وثروت أباظة وغيرهم، كان أغلبهم من الشباب وأنا كنت شابة أنظر إلى توفيق الحكيم باعتباره من الكهول بشعره الأبيض وشاربه الأبيض وعصاه التي يتكئ بها حين يمشي، وصوته المبحوح قليلا، وأسنانه الصفراء من الدخان ربما، وخوفه من قيادة السيارات، وكانت قيادة سيارتي كفتاة شابة تجعلني أكثر استقلالا من توفيق الحكيم، إذ أركبها وأقودها وحدي إلى بيتي في الجيزة بعد انتهاء اجتماع لجنة القصة في الزمالك، أما توفيق الحكيم فكان ينتظر ثروت أباظة ليأخذه بسيارته إلى بيته.
ومع ذلك كان توفيق الحكيم أقرب إلي من الشباب أعضاء اللجنة، عيونهم كانت باهتة قليلا إلى جانب عينيه المتقدتين بالبريق الأشبه بالطفولي، أقرأ في عينيه شقاوة الطفل الذي أصبح كهلا، ومع ذلك يحتفظ بطفولته وسذاجته ومكره، وكان توفيق الحكيم ماكرا مثل معظم الفنانين الحقيقيين، ذلك المكر النابع من دهاء الفن وذكاء الإبداع، وكان يحكي علينا الحكايات مثل شهرزاد في ذكائها ومحولتها ترويض السلطة المطلقة لشهريار، كان يحكي لنا النكت السياسية التي تنقد السلطة المطلقة للحكم دون أن يتعرض لمضايقات رجال الأمن، وكان مثل الأطفال يضحك على النكتة قبل أن يحكيها لنا، بل كثيرا ما كانت سخريته تمتد من السلطة المطلقة فوق الأرض إلى السلطات المطلقة في السماوات وإلى الفراعنة الآلهة في مصر القديمة.
وكم أود لو عندي الوقت أن أكتب كتابا كاملا عن توفيق الحكيم؛ كإنسان وفنان وصاحب فكر وفلسفة، ربما نشرت بعض الكتب عن توفيق الحكيم، لم أقرأها ربما، إلا أن ما قرأته عن توفيق الحكيم قد سقط عنه أهم عناصر توفيق الحكيم الفكرية أو الفنية أو الإنسانية.
وفي هذا المقال الموجز عن توفيق الحكيم، وفي ذكراه الخامسة عشر أود أن أناقش فكرة واحدة من أفكاره، وهي فكرته عن تحقيق السلام فوق الكرة الأرضية، هذه الفكرة شغلت المفكرين من النساء والرجال منذ نشوء العبودية وحتى اليوم، انشغل الفلاسفة من الرجال والنساء بهذه الفكرة منذ عصور الفراعنة في مصر القديمة وحتى اليوم.
ونحن نعيش اليوم هذه المشكلة الكبيرة المتعلقة بمشروع السلام أو عملية السلام الممطوطة بين دول إسرائيل والشعب الفلسطيني، وكيف يذبح هذا الشعب أمام عيوننا كل يوم تحت اسم السلام، وهذه الكلمة «السلام» أصبحت مراوغة وثعبانية ومفزعة ومرعبة أكثر من كلمة «الحرب»، بل قد تبدو كلمة «الحرب» أحيانا بريئة وإنسانية إلى جانب كلمة السلام.
وما أحوجنا اليوم إلى إعادة قراءة أفكار توفيق الحكيم وغيره من المفكرين والمفكرات عن كيف يمكن للسلام الحقيقي أن يتحقق في عالمنا، الذي يسير نحو مزيد من الحروب والدمار الشامل. (2) وماذا يقول توفيق الحكيم عن تحقيق السلام؟
كان توفيق الحكيم متحمسا شديد الحماس لفكرة تحقيق السلام في عالمنا البشري كله، وليس فقط في عالمنا العربي، كان مثل «أرسطو» الذي انشغل طوال حياته بالفكرة ذاتها، وكيف يتحقق السلام فوق الكرة الأرضية، إلا أن أرسطو عاش في العصر اليوناني العبودي (384-222ق.م) وكان جزءا من هذا العصر، وحين يكون الإنسان جزءا من شيء فإنه لا يرى إلا هذا الشيء أو لا يراه كله، العين لا ترى نفسها، رغم أنها الجهاز الذي يرى، وهذه مشكلة تعترض جميع الفلاسفة من الرجال والنساء هناك قول قديم يقول: إن آلهة السماء أعطوا المعرفة للعميان، وأكثر الفلاسفة في الريف المصري كانوا من العميان، ومن أشهر الفلاسفة في مصر «طه حسين» وكان لا يرى بعينه، ولكن بالعقل والفكر والبصيرة.
ليس معنى ذلك أنني أدعو المفكرين والمفكرات في بلادنا إلى خلع عيونهم؛ ولكني أود أن أقول إن العين لا ترى نفسها، هذه بديهية تغيب عن عقولنا ضمن بديهيات أخرى كثيرة وبسيطة، ولأنها بسيطة فإنها تفوت علينا ونحن نبحث عن المعقد والمركب، وهذه عادة فلسفية سيئة، إذ نتصور أن الفكرة المعقدة المركبة هي الفلسفة، في حين أن الفلسفة الحقيقية هي الواضحة البسيطة بساطة الحياة والطبيعة والجمال الطبيعي وضوء الشمس.
من الأشياء الواضحة أننا لا نرى ظهورنا على نحو كامل كما يراها الآخرون والأخريات، وكم نحاول من خلال المرآة أن نرى ظهورنا دون جدوى، وهذه حقيقة شغلتني في أول الشباب، كنت أحس نظرات الآخرين والأخريات فوق ظهري بعد أن أستدير، وأدرك (بغيظ شديد) أنهم الغرباء عني أقدر على رؤية ظهري أكثر مني.
وهي مشكلة فلسفية أزلية، تعرض لها أرسطو، وغيره من الفلاسفة، وقد عاش أرسطو القيم العبودية (أو القيم الطبقية الأبوية) ورضعها من أمه في طفولته، دخلت هذه القيم والأفكار إلى عقله وجسده مع لبن الأم؛ ولهذا عجز أرسطو عن رؤية النقص بعض خرافاته العبودية تسربت إلى فلسفته، ومنها فكرة أن الله خلق العبيد والنساء من أجل الخدمة والأعمال الجسدية، أما الأعمال الفكرية فهي من اختصاص الأسياد من طبقة النبلاء ومنهم أرسطو.
ناپیژندل شوی مخ