بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم
الحمد لله، وسلام على عباده الذين اصطفى.
أما بعد:
فإن بعض الإخوان سأل عما وقع في ((العجالة)) لشيخنا الإمام سراج الدين ابن الملقن رحمة الله عليه حيث قال:
مخ ۱۳
فائدة: قال ابن حبان في ((صحيحه)): ذكر الأمر بركعتين بعد الوتر إن خاف أن لا يستيقظ للتهجد وهو مسافر.
ثم أخرج عن ثوبان رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فقال: ((إن هذا السفر جهد وثقل فإذا أوتر أحدكم فليركع ركعتين فإن استيقظ وإلا كانتا له)) انتهى.
ورغب إلي أن أتكلم على هذا الحديث تصحيحا وإعلالا، وعلى شرحه استنباطا واستدلالا، فاستعنت الله على ذلك، وانحصر الكلام فيه في فصول:
مخ ۱۴
الفصل الأول في حال الحديث
هذا الحديث على شرط الصحيح عند ابن حبان وعند شيخه ابن خزيمة، وقد أخرجاه وهما ممن لا يفرد نوع الحسن من الصحيح، بل كل ما يدخل تحت دائرة القبول عندهم يسمى صحيحا.
وأخرجه جماعة من الأئمة في تصانيفهم المبوبة وغيرها منهم:
مخ ۱۵
أبو محمد الدارمي، وأبو جعفر الطحاوي، وأبو الحسن الدارقطني، وأبو بكر البيهقي، وأبو بكر الرازي، وأبو القاسم الطبراني.
مخ ۱۶
أخرجوه كلهم من طريق معاوية بن صالح عن شريح بن عبيد عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه عن ثوبان.
وهذا الإسناد على طريقة من يفرد الحسن من الصحيح على شرط الحسن لا يرتقي إلى رتبة الصحيح. وعند من لا يفرده صحيح.
وبيان ذلك:
أن شرط الصحيح أن يكون كل من رواته في المرتبة العليا من الضبط والإتقان.
فمن قصر عنها منهم واتفق أن وافقه من هو مثله أو فوقه انجبر ذلك القصور بالمتابعة.
وكل من الأمرين مفقود في هذا الإسناد، لأنه تفرد به الرواة المذكورين.
ومنهم من اختلف فيه لقصوره عن درجة المتقنين، فإن كان ذلك القصور لا يحط حديثه إلى رتبة من لا يقبل تفرده.
مخ ۱۷
فإذا هذا الإسناد في أدنى درجات الصحيح، وأعلى درجات الحسن، فهو صالح للاحتجاج به على كل تقدير اتفاقا، إلا عند قوم من أهل التشديد كأبي حاتم الرازي، فإن شرطه في قبول الراوي للاحتجاج ما شرطه غيره في الصحيح، ويعد ما قصر عن الرتبة العليا إذا لم يرد ما يجبره منكرا.
وهذا شأن هذا الحديث لأنه تفرد به جبير بن نفير في روايته له عن ثوبان، وتفرد به شريح بن عبيد في روايته له عن عبد الرحمن بن جبير، وتفرد معاوية بن صالح به عن شريح ابن عبيد.
فأما جبير بن نفير فهو تابعي كبير ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولأبيه صحبة، وأرسل جبير عن النبي صلى الله عليه وسلم وليست له رؤية، وسمع من عمر بن الخطاب، وخالد بن الوليد، وأبي ذر، والمقداد، وغيرهم.
قال النسائي: ليس أحد من كبار التابعين أحسن رواية عن الصحابة من ثلاثة:
مخ ۱۸
قيس بن أبي حازم.
وأبي عثمان النهدي.
وجبير بن نفير.
وقال أبو عبد الله الآجري عن أبي داود: هو أجل تابعي بالشام. ووثقه أبو حاتم وآخرون من الأئمة.
مخ ۱۹
ومات سنة خمس وسبعين من الهجرة، ويقال سنة ثمانين. ومع ما وصف به لم أر له في ((صحيح البخاري)) رواية، وما أظن ذلك إلا من جهة الرواة عنه أو إليه.
وأما ولده عبد الرحمن، فوثقه أبو زرعة والنسائي وابن سعد وزاد: أن بعض الناس استنكر حديثه، وأرخ وفاته سنة ثماني عشرة ومائة، وماله في صحيح البخاري أيضا رواية.
وفي طبقته عبد الرحمن بن جبير الراوي عن عبد الله بن عمرو بن العاص، ويفرق بينهما بأن هذا مصري وعبد الرحمن بن جبير بن نفير حمصي وبأن المصري أقدم وفاة من الحمصي.
مخ ۲۰
قال ابن يونس: مات سنة سبع أو ثمان وتسعين من الهجرة ووثقه النسائي وهو من رجال مسلم.
وأما شريح بن عبيد وهو بالشين المعجمة والحاء المهملة فهو حمصي كثير الرواية لكنه يرسل عن جماعة من الصحابة.
قال محمد بن عوف: ما أظنه سمع من أحد من الصحابة ولا يقول في شيء من ذلك سمعت وهو ثقة.
مخ ۲۱
ووثقه أيضا النسائي ودحيم وغيرهما، وعاش إلى قريب سنة عشر ومائة، وهو من أقران شيخه في هذا الحديث عبد الرحمن بن جبير، وماله في الصحيحين رواية. وأما معاوية بن صالح فهو أشعري النسب، حمصي البلد، مختلف في توثيقه، وقد أخرج له مسلم، ولم يخرج له البخاري، قال ابن معين في رواية: ثقة.
وقال في رواية: ضعيف.
وقال في رواية: ليس بمرضي.
وقال في أخرى: كان يحيى بن سعيد القطان لا يرضاه، وكان عبد الرحمن بن مهدي يوثقه.
مخ ۲۲
وقال يعقوب بن شيبة: حمل عنه الناس، ومنهم من يضعفه ومنهم من يرى أنه وسط.
وقال ابن عدي: له أحاديث صالحة، وما أرى بحديثه بأسا، إلا أنه يقع له إفرادات.
ووثقه مطلقا النسائي والعجلي وآخرون.
مخ ۲۳
وقال ابن يونس وغيره: قدم مصر سنة خمس وعشرين ومائة، وخرج إلى الأندلس ثم أرسله عبد الرحمن بن معاوية لما غلب على الأندلس في أمور تتعلق به، فحج فسمع منه جماعة بمصر ثم بالحجاز ثم بالشام والعراق فحدث بها أيضا، ثم رجع إلى الأندلس، فولاه عبد الرحمن قضاء الجماعة، ومات هناك سنة ثمان وخمسين ومائة وذكر أبو مروان ابن حيان مؤرخ الأندلس أنه عاش إلى سنة اثنتين وستين فالله أعلم.
مخ ۲۴
الفصل الثاني في بيان ما قع في إسناده من الاختلاف
وقع في رواية بعض من ذكرنا في جميع الإسناد بالعنعنة، وفي رواية بعضهم بتصريح التحديث.
فالحاصل أنه لا تدليس فيه ولا إرسال خفي.
ولكن وقع في رواية ابن حبان عن عبد الرحمن بن جبير عن ثوبان، سقط منها عن أبيه بين عبد الرحمن وثوبان، وقد راجعته من عدة نسخ فلم أره فيه، ولا بد منه، فإن عبد الرحمن بن جبير لم يلق ثوبان، والذي يظهر أنه سقط من بعض النساخ، لأن ابن حبان أخرجه عن محمد بن الحسن بن قتيبة عن حرملة بن يحيى عن عبد الله بن وهب عن معاوية بن صالح.
مخ ۲۵
وقد وقع لنا في ((فوائد حرملة)) رواية أبي بكر محمد بن إبراهيم بن علي بن عاصم بن المقري عن محمد بن الحسن بن قتيبة شيخ ابن حبان فيه بإثبات قوله في الإسناد عن أبيه.
وكذلك أخرجه ابن خزيمة عن أحمد بن عبد الرحمن ابن وهب عن عمه، وكذا أخرجه الدارمي عن مروان بن محمد الدمشقي عن ابن وهب، وكذلك أخرجه بقية الأئمة الذين قدمت ذكرهم من طرق متعددة إلى أبي صالح عبد الله بن صالح كاتب الليث عن معاوية بن صالح بإثباته.
مخ ۲۶
ثم اتفق جميع من ذكرنا على تخريجه من رواية ابن وهب أو عبد الله بن صالح كلاهما عن معاوية بن صالح، ولم أره من طريق ثالث عن معاوية بن صالح، ولعله لم يحدث به إلا بمصر، فإن ابن وهب وابن صالح مصريان.
واتفق كل من حدث به عن أبي صالح على ما وصفت، وكذلك من حدث به عن ابن وهب، إلا ما وقع عند الطبراني في ((المعجم الأوسط)) فإنه قال فيه: حدثنا محمد بن عبد الله بن عرس ثنا هارون بن سعيد الأيلي نا عبد الله بن وهب عن معاوية بن صالح عن أبي الزاهرية عن جبير بن نفير عن ثوبان.
فأسقط من السند شريح بن عبيد وعبد الرحمن بن جبير، وذكر بدلهما أبا الزاهرية.
ثم قال الطبراني: لا يروى عن ثوبان إلا بهذا الإسناد، تفرد به ابن وهب.
مخ ۲۷
وعليه في هذا الحصر مؤاخذة، فإن المعروف عن ثوبان الإسناد الذي تقدم.
وقد أخرجه هو في ((مسند الشاميين)) عن بكر بن سهل عن عبد الله بن صالح كرواية الجماعة.
فإن كان الإسناد الذي ساقه محفوظا، ورد على حصره الإسناد الذي ساقه في ((مسند الشاميين)).
وأما قوله تفرد به ابن وهب فيحتمل أن يريد تفرد به على الكيفية المذكورة في ((الأوسط)) لا مطلقا، ويحتمل أن يريد مطلقا فيرد عليه رواية ابن صالح.
وفي الجملة فالذي يظهر أنه لما ساقه في ((الأوسط)) لم يستحضر الطريق الأخرى التي في ((مسند الشاميين))، ولما ساقه في ((مسند الشاميين)) لم يستحضر أيضا الطريق التي في ((الأوسط)) لأنه أغفلها فيه مع كونها على شرطه.
مخ ۲۸
وأظن الوهم الذي في الإسناد الذي في ((الأوسط)) من الطبراني أو من شيخه، أما هارون بن سعيد الراوي له عن ابن وهب فهو ثقة من رجال مسلم.
فإن لم يكن وهما، فلعله كان عند ابن وهب بإسنادين عال ونازل فحدث بهما ابن وهب في وقتين، فحدث ابن وهب عنه تارة بهذا وتارة بهذا، وما سمع منه عبد الله بن صالح إلا أحدهما.
ويبعد هذا كون ابن وهب لم يحدث بالإسنادين معا ولا مرة واحدة وقد قدمت أن شريح بن عبيد وعبد الرحمن بن جبير قرينان.
وقد أخرج مسلم من رواية معاوية بن صالح عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير حديثا غير هذا، أخرجه من رواية ابن وهب عن معاوية عن عبد الرحمن عن أبيه عن النواس بن سمعان في البر والإثم.
مخ ۲۹
وفيه دلالة على أن معاوية بن صالح لم يكن مدلسا لإدخاله شريح بن عبيد بينه وبين شيخه عبد الرحمن بن جبير في حديث ثوبان.
وأما أبو الزاهرية الذي وقع في الرواية التي في ((الأوسط)) فاسمه حدير بمهملات تصغير واسم أبيه كريب وهو حمصي أيضا، لقي جماعة من الصحابة وأرسل عن كثير من قدمائهم كحذيفة وجل روايته مع ذلك عن التابعين، وسماعه من جبير بن نفير صحيح. وقد وثقه ابن معين والنسائي وآخرون.
مخ ۳۰
وقال أبو حاتم والدراقطني، لا بأس به، زاد الدارقطني: إذا روى عن ثقة، فاحترز بذلك عن رواية الضعفاء عنه، لأن غالب الرواة عنه كذلك.
وتأخرت وفاته عن شريح بن عبيد على الصحيح، وقيل مات قبله والله أعلم.
مخ ۳۱
الفصل الثالث في بيان ما وقع في ألفاظ المتن من اختلاف الرواة،
وشرح مفرداته
قوله: ((إن هذا السفر)).
كذا هو عند جميع من خرج الحديث، بفتح المهملة والفاء، إلا الدارمي، فوقع لي في روايته السهر بالهاء بدل الفاء.
قال الدارمي بعد تخريجه: ويقال السمر -أي بالميم بدل الهاء- قال: وأنا أقوله السهر -أي بالهاء-.
مخ ۳۲