ـ[كشف غياهب الظلام عن أوهام جلاء الأفهام]ـ
المؤلف: سليمان بن سحمان
الناشر: أضواء السلف
الطبعة: الأولى
عدد الأجزاء: ١
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي]
ناپیژندل شوی مخ
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، ﷺ، وعلى آله وأصحابه، صلاة دائمة إلى يوم الدين. أما بعد، فإني رأيت نبذة ألفها رجل من أهل الشام يقال له "أحمد باشا العظمي" سلك فيها مسلك أهل الغواية والضلالة، ونهج فيها مناهج أهل الغباوة والجهالة، وأكثر فيها من الهمط بالكذب والظلم والعدوان، وقلد فيما يحكيه أهل الفرية والبهتان، وبسط لسانه بالوقاحة والهذيان، وعام في بحر الشبهات والشكوك والطغيان، وهام في أودية الجهالة والضلالات، وتاه في مهامه تلك الفلوات، بما لفق فيها من الهمط والخرط والتمويهات، وخزعبلات ذي الشقاشق والترهات، التي لا يصغى إليها إلا القلوب المقفلات ﴿أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًَا فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ﴾ وقد أقذع هذا الشامي في مسبة شيخ الإسلام وعلم الهداة الأعلام من أرشد الله تعالى بدعوته كثيرًا من العباد، وأهلك من رد عليه ذلك، وناد، فلم يوفق لدعوة المرشد إلى الرشاد المقيم من السنة لأحبها ونهجها، المقوم مائلها ومعوجها، ناهج منهج الصواب، الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى-، ومن حكمته سبحانه أن يبتلي خيار هذه الأمة بشرارها، ومؤمنيها بفجارها، وعلمائها بجهالها؛ وهذه سنة الله التي خلت من قبل، وامتحانه الذي يظهر به ميزان الترجيح
1 / 3
والعدل، وتتم به نعمته على أهل العلم والفضل، ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ﴾ فكان السبب الداعي إلى تحامل هؤلاء الضلال، وما لفقوه من الأكاذيب المخترعة والأوضاع المقترحة المبتدعة العضال، ما خصه الله ومنحه إياه من الدعوة إلى توحيد الله من بيان ما تستلزمه هذه الشهادة وتستدعيه وتقتضيه من تجريد المتابعة والقيام بالحقوق النبوية من الحب والتوقير والنصر والمتابعة والطاعة وتقديم سنته ﷺ كل سنة وقول، والوقوف معها حيث ما وقفت، والانتهاء حيث انتهت، في أصول الدين وفروعه، باطنه وظاهره، خفيه وجليه، كلية وجزئية، فلما اشتهر هذا منه، وظهر بذلك فضله، وتأكد علمه ونبله، وأنه سباق غايات وصاحب آيات، لا يشق غباره، ولا تدرك في البحث والإفادة آثاره، حسده أعداء الله ورسوله، حيث لم يدركوا هذه الفضيلة، ولم يصلوا إلى هذه المنقبة الجليلة، فرموه بهذه الشنعات الرذيلة وشمروا له عن ساق العداوة بكل مقدور وحيلة، فأبى الله إلا أن يظهر دينه على يد هذا الإمام، وأن ينصره على من ناوأه من سائر الأنام، وأن يظهر به شعائر الإيمان والإسلام، وأن أعداءه ومنازعيه، وخصومه في الفضل وشانئيه، يصدق عليهم المثل السائر، بين أهل المحابر والدفاتر:
حسدوا الفتى إذا لم ينالوا سعيه ... فالناس أعداء له وخصوم
كضرائر الحسناء قلن لوجهها ... حسدًا وبغيًا إنه لدميم
1 / 4
وله ﵀ في المناقب والمآثر، ما لا يخفى أهل الفضائل والبصائر، فلما اختصه الله بهذه الكرامة تسلط
أعداء الدين، وخصوم عباد الله المؤمنين، على مسبته والتعرض لبهته وعيبه، قال الشافعي رحمه الله تعالى: "ما أرى الناس ابتلوا بشتم أصحاب رسول الله ﷺ إلا ليزيدهم الله بذلك ثوابًا عند انقطاع أعمالهم" وأفضل الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر؛ وقد ابتلينا من طعن أهل الجهالة والسفاهة بما لا يخفى، ولما رأيت ما في هذه النبذة من البهت والكذب والزور، والكفر والزندقة والفجور، مما تنفر عنه طباع المؤمنين، وتستك عند ذلك أسماع الموحدين، استعنت الله تعالى على رد أباطيله؛ على وجه الاختصار والاقتصار، وترك ما لا يتعلق بنا من مباحثه وتفاصيله، إذ القصد بالأصالة بيان ما كان عليه شيخنا رحمه الله تعالى من الدعوة إلى دين الله ورسوله، وترك عبادة ما سواه، وتجريد متابعته الرسول ﷺ في كل أمره به ونهي عنه، وتقديم قوله على من خالفه كائنًا من كان، ونفي ما لفقه هؤلاء الجهلة المفترون، من الأكاذيب المخترعة، والأقوال المفترعة، التي لا يحكيها عن الشيخ إلا من أعمى الله بصيرة قلبه، وكان له نصيب وافر من قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾ والله المسؤول المرجو الإجابة، أن يجزل لنا الإثابة، وأن يمدنا بمعونته وتوفيقه للإصابة، فهو حسبنا ونعم الوكيل.
فصل:
قال الملحد المعترض: أما بعد أيها الإخوان المتلقبون بالمتنورين، أراكم تدعون الناس لبدعة الاجتهاد في الدين وغيرها من البدع التي جرت دعاتها قبلكم إلى ما لا نرضاه لكم، زين لهم الشيطان أعمالهم فظنوا أنهم من
1 / 5
المهتدين. نحن وأنتم متفقون بالشهادتين، مقرون بالأركان لا نختلف بأصول الإيمان، ولا ننكر أركان الإسلام، غير أننا نقول بالمحكم، ونرجع إليه، وأنتم تتبعون المتشابه وتعولون عليه، نحن نحتاط بما لا نرتاب، وأنتم لا تخرجون مما يريب، نحن ننتمي الإجماع والجماعة وأنتم تترخصون بالإنفراد والتأويل بالرأي، قمتم بعد أن ذهب الله بزعمًا. تلك المذاهب والنحل، وانتشرتم بعد أن طوى دعاة تلك البدع تدعون الناس لما لا ينفعهم في الدنيا، ولا ينجيهم في الآخرة إلى آخر ما حكاه من الهذيان العاري عن التحقيق، بل هو ليس على منهج مستقيم ولا على أقوم طريق.
والجواب: ومن الله أستمد الصواب. إنا لا ندري ولا نعرف من هؤلاء المتلقبون بالمتنورين، فإذا كانوا على منهج قويم وصراط مستقيم، وعلى خلاف ما عليه أصحاب الجحيم، وكانوا متمسكين بدين الله ورسوله، متشرعين به داعين إليه، فسيجيبونكم على هذه الخرافات، وينفون ما تنسبون إليهم من هذه الترهات، التي لا يصغي إليها إلا القلوب المقفلات، ويتحلى بها أهل الجهالة والضلالات، وإن كانوا على غير ذلك فلا حاجة بنا إلى الجواب عنهم، وحسبنا أن نجيب على ما تنسبون إلينا من هذه المفتريات، وما تلبسونه به الحق بالباطل منن تلك الضلالات، وعلى ما تنتحلونه من البدع والمكفرات، وتدعون أن ذلك هو دين الله ورسوله، من غير إقامة حجة، ولا إيضاح محجة، وإنما تعتمدون في ذلك على أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرًا وضلوا عن سواء السبيل، وهم قد نهجوا في تلك الطريق منهجًا وعرًا، ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم وأتوا زورًا وبهتانًا وهجرًا وزين لهم الشيطان أنهم ينالون بذلك أجرًا، ويحوزون به عزًا وفخرًا، فأركبهم مراكب الأسلاف قسرًا، وأمطى كواهلهم في ذلك السنن قهرًا، وحسن لهم أن الآباء بحقيقة الحق أدرى،
1 / 6
وأنهم ينهج منهج الشريعة أحرى، فعدلوا إلى عبادة الأولياء والصالحين، وخلعوا ربقة التوحيد والدين، فجوا في الاستغاثة بهم في النوازل والحوادث، والخطوب المعضلة الكوارث، وأقبلوا عليهم في طلب الحاجات وتفريج الشدائد والكربات، من الأحياء منهم والأموات، وكثير منهم يعتقد النفع والإضرار في الجمادات، كالأحجار والأشجار، ويتناوبون ذلك في أغلب الأزمان والأوقات، ولم يكن لهم إلى غيرها إقبال ولا التفات، فهم على تلك الأوثان عاكفون، ولها في كثير من الأحايين ملازمون ﴿نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ فسلكتم على طريقة هؤلاء القوم الضلال تهرعون، وبأخلاقهم وأفعالهم متمسكون، تقولون إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون، فهذه هي حالكم في اعتقاداتكم وديانتكم، التي بها تدينون، ولك نبأ مستقر وسوف تعلمون، ﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ﴾ .
فصل: مبدأ دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب قال المعترض: مذهب الوهابية كان الناس في اختباط وتردد من حقيقة مذهب الوهابية ومقولاتهم بسبب ما كانوا يتسترون به، من مظاهر التوحيد وادعاء التمسك بالكتاب والسنة حتى طغوا وبغوا وتغلبوا على الحجاز، وناظرهم العلماء فكشف الله الستر عنهم وسلط عليهم إبراهيم باشا المصري فكاد يفنيهم ويقطع دابرهم، لكن إرادة الله في بقاء جرثومة من هذه الطائفة في بلاد نجد، وقد تصدى لتحرير مذهبهم، وتقرير مقولاتهم، والرد عليهم جمهور من علماء الحجاز، منهم أحمد بن زين الملقب بدحلان نزيل مكة المكرمة، المتوفى في المدينة المنورة سنة ٣٣ وبسط ذلك في تاريخه المسمى خلاصة الكلام، في أمراء،
فصل: مبدأ دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب قال المعترض: مذهب الوهابية كان الناس في اختباط وتردد من حقيقة مذهب الوهابية ومقولاتهم بسبب ما كانوا يتسترون به، من مظاهر التوحيد وادعاء التمسك بالكتاب والسنة حتى طغوا وبغوا وتغلبوا على الحجاز، وناظرهم العلماء فكشف الله الستر عنهم وسلط عليهم إبراهيم باشا المصري فكاد يفنيهم ويقطع دابرهم، لكن إرادة الله في بقاء جرثومة من هذه الطائفة في بلاد نجد، وقد تصدى لتحرير مذهبهم، وتقرير مقولاتهم، والرد عليهم جمهور من علماء الحجاز، منهم أحمد بن زين الملقب بدحلان نزيل مكة المكرمة، المتوفى في المدينة المنورة سنة ٣٣ وبسط ذلك في تاريخه المسمى خلاصة الكلام، في أمراء،
1 / 7
البلد الحرام، وأنا إن شاء الله آخذ عنه ما يتعلق بموضوعنا مختصرًا بدون تصرف، وبالله المستعان.
والجواب: أن يقال: لا غرو من هذا ولا بدع، فإن الناس من أهل الريب والالتباس كانوا من أمر الشيخ وحاله في اختباط وتخليط من حقيقة ما كانوا عليه الشيخ ﵀ على قدر أغراضهم وشهواتهم وإراداتهم الباطلة فرموه بالأمور العظيمة، من الأقوال الشنيعة الذميمة، وعادوه وآذوه، وأخرجوه من بلده لما دعاهم إلى توحيد الله، بإخلاص العبادة وترك عبادة ما سواه كما قال ورقة بن نوف لرسول الله –ﷺ "يا ليتني فيها جذعًاَ إذ يخرجك قومك" قال: "أو مخرجي هم؟ " قال: "نعم إنه لم يأت أحد بمثل ما أتيت به إلا أوذي وعودي وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا" فهذه حال الرسل وأتباعهم على الحقيقة في كل زمان ومكان، وأما من هداه الله لدين الإسلام، وشرح صده للإيمان به وتوحيده، فإن لم يتخبط في حال الشيخ، ولم يتردد فيه كما تردد وتخبط فيه من أعمى الله بصيرة قلبه، لأنه قد كان من المعلوم عند عاقل خبر الناس وعرف أحوالهم، وسمع شيئًا من أخبارهم وتواريخهم، أن أهل نجد وغيره ممن تبع دعوة الشيخ، واستجاب لدعوته من سكان جزيرة العرب كانوا على غاية من الجهالة والضلالة، والفقر والعالة، لا يستريب في ذلك عاقل، ولا يجادل فيه عارف، كانوا من أمر دينهم في جاهلية، يدعون الصالحين، ويعتقدون في الأشجار والأحجار والغيران، يطوفون بقبور الأولياء، ويرجون الخير والنصر من جهتها، وفيهم من كفر الاتحادية والحلولية، وجهالة الصوفية، ما يرون أنه من الشعب والإيمانية، والطريقة المحمدية، وفيهم من إضاعة الصلوات، ومنع الزكاة، وشرب المسكرات، ما هو معر وف ومشهور، فمحى
1 / 8
الله بدعوته شعار الشرك ومشاهده، وهدم بيوت الكفر والشرك ومعابده، وكبت الطواغيت والملحدين، وألزم من ظهر عليه من البوادي وسكان القرى، بما جاء به محمد –ﷺ من التوحيد والهدى، وكفر من أنكر البعث واستراب فيه من أهل الجهالة والجفاء، وأمر بإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وترك المنكرات والمسكرات، ونهى عن الابتداع في الدين، وأمر بمتابعة السلف الماضين، في الأصول والفروع من مسائل الدين، حتى ظهر دين الله، واستعلن واستبان بدعوته منهاج الشريعة والسنن، وقام قائم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحدت الحدود الشرعية، وعزرت التعازير الدينية، وانتصب علم الجهاد، وقاتل لإعلاء كلمة الله أهل الشرك والفساد حتى سارت دعوته، وثبت نصحه لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، وجمع الله به القلوب بعد شتاتها وتألفت بعد عداوتها، وصاروا بنعمة الله إخوانًا، فأعطاهم الله بذلك من النصر والعز والظهور، ما لا يعرف مثله لسكان تلك الفيافي الصحور، وفتح عليهم الحسا والقطيف، وقهروا سائر العرب من عمان إلى عقبة مصر، ومن اليمن إلى العراق والشام، ودانت لهم عربهم وأعطوا الزكاة، فأصبحت نجد تضرب إليها أكباد الإبل في طلب الدنيا والدين، وتفتخر بما نالها من العز والنصر والإقبال والسنا كما قال عالم صنعاء وشيخها في ذلك الوقت.
قفي واسألي عن عالم حل سوحها ... به يهتدي من ضل عن منهج الرشد
محمد الهادي لسنة أحمد ... فيا حبذا الهادي ويا حبذا المهدي
لقد سر في جاءني من طريقه ... وكنت أرى هذي الطريقة لي وحدي
وقال عالم الإحساء وشيخها:
لقد رفع المولى به رتبة الهدى ... بوقت به يعلو الضلال ويرفع
1 / 9
تجر به نجد ذيول افتخارها ... وحق لها بالألمعي ترفع
وهذه في أبيات لا نطيل بذكرها وقد شهد غيرهما بمثل ذلك واعترفوا بعلمه وفضله وهدايته.
وأما قوله: من حقيقة الوهابية ومقولاتهم بسبب ما كانوا يتسترون به من مظاهر التوحيد وادعاء التمسك بالكتاب والسنة.
فالجواب أن يقال: حقيقة ما عليه الوهابية هو ما كان عليه رسول الله –ﷺ وسلف الأمة وأئمتها في باب معرفة الله وإثبات صفات كماله، ونعوت جلاله، التي نطق بها الكتاب العزيز وصحت بها الأخبار النبوية، وتلقتها أصحاب رسول الله –ﷺ بالقبول والتسليم، كما سيأتي بيان ذلك قريبًا فيما بعد إن شاء الله تعالى. قال شيخنا الشيخ عبد اللطيف رحمه الله تعالى:
فصل: شيء من سيرة الشيخ رحمة الله ونقص عليك شيئًا من سيرة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ونذكر طرفًا من أخباره وأحواله، ليعلم الناظر فيها حقيقة أمره، فلا يروج عليه تشنيع من استحوذ عليه الشيطان وأغراه، وبالغ في كفره واستهواه، فنقول: قد عرف واشتهر واستفاض من تقارير الشيخ ومراسلاته ومصنفاته المسموعة والمقروءة عليه، وما ثبت بخطه وعرف واشتهر من أمره ودعوته وما عليه الفضلال النبلاء من أصحابه وتلامذته، أنه على ما كان عليه السلف الصالح وأئمة الدين أهل الفقه والفتوى في باب معرفة الله وإثبات صفات كماله ونعوت جلاله التي نطق بها الكتاب العزيز، وصحت به الأخبار النبوية، وتلقتها أصحاب رسول الله –ﷺ بالقبول والتسليم، يثبتونتها ويؤمنون بها، ويمرونها، كما جاءت من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، وقد درج على هذا من بعدهم من
فصل: شيء من سيرة الشيخ رحمة الله ونقص عليك شيئًا من سيرة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ونذكر طرفًا من أخباره وأحواله، ليعلم الناظر فيها حقيقة أمره، فلا يروج عليه تشنيع من استحوذ عليه الشيطان وأغراه، وبالغ في كفره واستهواه، فنقول: قد عرف واشتهر واستفاض من تقارير الشيخ ومراسلاته ومصنفاته المسموعة والمقروءة عليه، وما ثبت بخطه وعرف واشتهر من أمره ودعوته وما عليه الفضلال النبلاء من أصحابه وتلامذته، أنه على ما كان عليه السلف الصالح وأئمة الدين أهل الفقه والفتوى في باب معرفة الله وإثبات صفات كماله ونعوت جلاله التي نطق بها الكتاب العزيز، وصحت به الأخبار النبوية، وتلقتها أصحاب رسول الله –ﷺ بالقبول والتسليم، يثبتونتها ويؤمنون بها، ويمرونها، كما جاءت من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، وقد درج على هذا من بعدهم من
1 / 10
من التابعين وتابعيهم من أهل العلم والإيمان وسلف الأمة وأئمتها، كسعيد بن المسيب وعروة بن الزبير، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله، وطلحة بن عبيد الله، وسليمان بن يسار، وأمثالهم، ومن الطبقة الأولى مجاهد بن جبر، وعطاء بن أبي رباح، والحسن البصري، وابن سيرين؛ وعامر الشعبي، وجنادة بن أبي أمية، وحسان بن عطية، وأمثالهم. ومن الطبقة الثانية علي بن الحسين، وعمر بن عبد العزيز، ومحمد بن مسلم الزهري، وحماد بن زيد، والفضيل بن عياض، وعبد الله بن المبارك؛ وأبي حنيفة النعمان بن ثابت، ومحمد بن إدريس، وإسحاق بن إبراهيم، وأحمد بن حنبل، ومحمد بن إسماعيل البخاري، ومسلم بن الحجاج القشيري، وإخوانهم وأمثالهم ونظراؤهم من أهل الفقه والأثر في كل مصر وعصر. وأما توحيد العبادة والإلهية فلا خلاف بين أهل الإسلام فيما قاله الشيخ، وثبت عنه من المعتقد الذي دعا إليه، يوضح ذلك أن أصل الإسلام وقاعدته شهادته أن لا إله إلا الله وهي أصل الإيمان بالله وحده، وهي أفضل شعب الإيمان، وهذا الأصل لا بد فيه من العلم والعمل والإقرار بإجماع المسلمين، كائنًا من كان، وهذا هو الحكمة التي خلقت لها الإنس والجن، وأرسلت لها الرسل، وأنزلت بها الكتب، وهي تتضمن كمال الذل والحب وتتضمن كمال الطاعة والتعظيم، وهذا هو دين الإسلام الذي لا يقبل الله دينًا غيره، لا من الأولين، ولا من الآخرين، فإن جميع الأنبياء على دين الإسلام، وما يتضمن الاستسلام لله وحده، فمن استسلم له ولغيره كان مشركًا، ومن لم يستسلم له كان مستكبرًا عن عبادته قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةً رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللهَ
1 / 11
وَاجْتَنِبُوا الْطَّاغُوتَ﴾ وقال تعالى عن الخليل: ﴿إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ، وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾، وقال: ﴿أفرأيتم ما كنتم تعبدون، أَنْتُمْ وَآبَاؤكُمْ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌ إِلَّا رَبَّ الْعَالِمِينَ﴾، وقال تعالى: ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءَاءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَحْدَهُ﴾، وقال تعالى: ﴿وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الْرَّحَمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ﴾ وذكر عن رسله نوح وهود وصالح وشعيب وغيرهم أنهم قالوا لقومهم ﴿اُعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ﴾ وقال عن أهل الكهف ﴿إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدَى وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قُامُوا فَقَالُوا رُبُّنَا رَبُّ الْسَّمَاوَاتِ وَالْأَرضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلَهًَا لَقَدْ قُلْنَا إِذًَا شَطَطًَا هُؤلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِبًَا﴾، وقال تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَغْفَرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾ في موضعين من كتابه، وقال تعالى: ﴿إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ الْنَّارَ﴾ قال –﵀: والشرك المراد بهذه الآيات ونحوها، يدخل فيه شرك عباد القبور وعباد الأنبياء والملائكة والصالحين فإن هذا هو شرك جاهلية العرب الذين بعث فيهم عبد الله ورسوله محمد –ﷺ فإنهم كانوا يدعونها ويلتجئون إليها ويسألونها على وجه التوسل بجاهها وشفاعتها، لتقربهم إلى الله زلفى كما قد حكى الله عنهم في مواضع من كتابه كقوله تعالى: ﴿وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعَهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤلَاءِ شُفَعَاؤنَا عِنْدَ اللهِ﴾ وقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دونِ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى﴾ وقال تعالى:
1 / 12
﴿فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ قُرْبَانًَا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكَهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ قال –﵀ ومعلوم: أن المشركين لم يزعموا أن الأنبياء والأولياء والصالحين والملائكة شاركوا الله في خلق السماوات والأرض أو استقلوا بشيء، والتدبير والتأثير والإيجاد، ولو في خلق ذرة من الذرات، قال تعالى: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ الْسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولَنَّ اللهُ، قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ أَرَادَانِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِيَ اللهُ بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسكَاتِ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللهُ عَلَيِهِ فَلْيَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِلُونَ﴾ فهم معترفون بهذا مقرون به لا ينازعون فيه، ولذلك حسن موقع الاستفهام وقامت الحجة بما أقروا به من هذه الجمل وبطلت عبادة من لا يكشف الضر ولا يمسك الرحمة ولا يخفي ما في التنكير من العموم والشمول المتناول لأقل شيء وأدناه من ضر أو رحمة. وقال تعالى: ﴿قُلْ لِمَنْ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ إلى قوله ﴿فَأَنَّى تُسْحَرُونَ﴾ وقال تعالى: ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرَهُمْ بَالَلهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾ ذكر فيه السلف كابن عباس وغيره إيمانهم هنا بما أقروا به من ربوبيته وملكه وفسر شركهم بعبادة غيره. قال –﵀: وقد بين القرآن في غير موضع أن من المشركين من أشرك بالملائكة ومنهم من أشرك بالأصنام وقد رد عليهم جميعهم وكفر كل أصنامهم، كما قال تعالى: ﴿وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالْنَّبِيِينَ أَرْبَابًَا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾، وقال تعالى: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًَا مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ ...﴾ الآية، وقال: ﴿لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًَا لله وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ﴾ ونحو ذلك في القرآن كثير وبه يعلم المؤمن أن عبادة الأنبياء والصالحين كعبادة
1 / 13
الكواكب والأصنام من حيث الشرك والكفر بعبادة غير الله قال –﵀: وهذه العبادات التي صرفها المشركون لآلهتهم هي أفعال العبد الصادرة منه كالحب والخضوع والإنابة والتوكل والدعاء والاستعانة والاستغاثة والخوف والرجاء والنسك والتقوى والطواف ببيته رغبة ورجاء وتعلق القلوب والآمال بفيضه ومده وإحسانه وكرمه فهذه الأنواع أشرف أنواع العبادة وأجلها بل هي لب سائر الأعمال الإسلامية وخلاصتها وكل عمل يخلو منه فهو خداج مردود على صاحبه وإنما أشرك وكفر من كفر من المشركين بقصد غير الله بهذا وتأهيله لذلك قال تعالى: ﴿أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ﴾، وقال تعالى: ﴿أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ﴾، وقال تعالى: ﴿وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ﴾ الآية وحكي عن أهل النار أنهم يقولون لآلهتهم التي عبدوها مع الله ﴿تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ، إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ ومعلوم أنهم ما سووهم به في الخلق والتدبير والتأثير، وإنما كانت التسوية في الحب والخضوع والتعظيم والدعاء ونحو ذلك من العبادات. قال –﵀: فجنس هؤلاء المشركين وأمثالهم ممن يعبد الأولياء والصالحين نحكم بأنهم مشركون ونرى كفرهم إذا قامت عليهم الحجة الرسالية وما عدا هذا من الذنوب التي دونه في الرتبة والمفسدة لا نكفر بها ولا نحكم على أحد من أهل القبلة على أحد من أهل القبلة الذين باينوا لعباد الأوثان والأصنام والقبول بمجرد ذنب ارتكبوه وعظيم جرم اجترحوه وغلاة الجهمية والقدرية والرافضة ونحوهم ممن كفرهم السلف لا نخرج فيهم عن أقوال أئمة الهدى والفتوى من سلف هذه الأمة ونبرأ إلى الله مما أتت به الخوارج. وقالته في أهل الذنوب من المسلمين. قال –﵀: ومجرد الإتيان بلفظ
1 / 14
الشهادة من غير علم بمعناها ولا عمل بمقتضاها لا يكون به المكلف مسلمًا بل هو حجة على ابن آدم خلافًا لمن زعم أن الإيمان مجرد الإقرار كالكرامية ومجرد التصديق كالجهمية وقد أكذب الله المنافقين فيما أتوا به وزعموه من الشهادة وسجل على كذبهم مع أنهم أتوا بألفاظ مؤكدة منن التأكيدات. قال تعالى: ﴿إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ﴾ فأكدوا بلفظ الشهادة وإن المؤكدة واللام والجملة الاسمية فأكذبهم الله وأكد تكذيبهم بمثل ما أكدوا به شهادتهم سواء بسواء وزاد التصريح باللقب الشنيع الفظيع، وبهذا تعلم أن تسمى الإيمان لا بد فيه من الصدق والعمل من شهد أن لا إله إلا الله وعبد غيره فلا شهادة له وإن صلى وزكى وصام وأتى بشيء من أعمال الإسلام. قال تعالى لمن آمن ببعض الكتاب ورد بعضًا: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾، الآية، وقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا﴾، الآية قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ﴾ الكفر ونوعان مطلق ومقيد، فالمطلق أن يكفر بجميع ما جاء به الرسول، والمقيد أن يكفر ببعض ما جاء به الرسول حتى إن بعض العلماء كفر من أنكر فرعًا مجمعًا عليه كتوريث الجد والأخت وإن صلى وصام فكيف بمن يدعو الصالحين ويصرف لهم خالص العبادة ولبها، وهذا مذكور في المختصرات من كتب المذاهب الأربعة بل كفروا ببعض الألفاظ التي تجري على ألسن بعض الجهال، وإن صلى وصام ومن جرت على لسانه. قال –﵀: والصحابة كفروا من منع الزكاة وقاتلوهم
1 / 15
مع إقرارهم بالشهادتين والإتيان بالصلاة والصوم والحج. قال –﵀: واجتمعت الأمة على كفر بني عبيد القداح مع أنهم يتكلمون بالشهادتين ويصلون ويبنون المساجد في قاهرة مصر وغيره، وذكر أن ابن الجوزي صنف كتابًا في وجوب غزوهم وقتالهم سماه النصر على مصر قال: وهذا يعرفه ممن له أدنى إلمام بشيء من العلم والدين، فتشبيه عباد القبور بأنهم يصلون ويصومون ويؤمنون بالبعث مجرد تعمية على العوام وتلبيس لينفق شركهم، ويقال بإسلامهم وإيمانهم ويأبى الله ذلك ورسوله والمؤمنون، وأما مسائل القدر والجبر والإمامة والتشيع ونحو ذلك من المقاولات والنحل، فهو أيضًا فيها على ما كان عليه السلف الصالح وأئمة الهدى والدين، يبرأ مما قالته القدرية النفاة والقدرية المجبرة وما قالته المرجئية والرافضة وما عليه غلاة الشيعة والناصبة يوالي جميع أصحاب رسول الله –ﷺ ويكف عما شجر بينهم، ويرى أنهم أحق الناس بالعفو عما يصدر منهم وأقرب الخلق إلى مغفرة الله وإحسانه لفضائلهم وسوابقهم وجهادهم وما جرى على أيديهم من فتح القلوب بالعلم النافع والعمل الصالح وفتح البلاد ومحو آثار الشرك وعبادة الأوثان والنيران والأصنام والكواكب ونحو ذلك مما عبده جهال الأنام، ويرى البراءة مما عليه الرافضة وأنهم سفهاء لئام، ويرى أن أفضل الأمة بعد نبيها أبو بكر فعمر فعثمان فعلي –﵃ أجمعين- ويعتقد أن القرآن الذي نزل به به الروح الأمين على قلب سيد المرسلين وخاتم النبيين، كلام الله غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، ويبرأ من رأي الجهمية القائلين بخلق القرآن، ويحكي تكفيرهم عن جمهور السلف أهل العلم والإيمان، ويبرأ من رأي الكلابية أتباع عبد الله بن سعيد بن كلاب القائلين بأن كلام الله هو المعنى القائم بنفس الباري، وأن ما نزل به جبريل
1 / 16
حكاية أو عبارة عن المعنى النفسي، ويقول هذا من قول الجهمية وأول من قسم التقسيم هو ابن كلاب وأخذ عنه الأشعري وغيره كالقلانسي، ويخالف الجهمية في كل ما قالوه وابتدعوه في الدين ولا يرى ما ابتدعه الصوفية من البدع والطرائق المخالفة لهدي رسول الله –ﷺ وسنته في العبادات والخلوات والأذكار المخالفة للمشروع، ولا يرى ترك السنن والأخبار النبوية لرأي فقيه ومذهب عالم خالف ذلك باجتهاده بل السنة أجل في صدره وأعظم عنده من أن تترك لقول أحد كائنًا من كان، قال: عمر بن عبد العزيز لا رأي لأحد مع سنة سنها رسول الله –ﷺ نعم عند الضرورة وعدم الأهلية والمعرفة بالسنن والأخبار وقواعد الاستنباط والاستظهار يصار إلى التقليد لا مطلقًا فيما يتعسر ويخفى ولا يرى إيجاب ما قاله المجتهد إلا بدليل تقوم به الحجة من الكتاب والسنة خلافًا لغلاة المقلدين، ويوالي الأئمة الأربعة ويرى فضلهم وإمامتهم وأنهم من الفضل والفضائل في غاية ورتبة يقصر عنها المتطاول، ويوالي كافة أهل الإسلام وعلمائهم من أهل الحديث من أهل الفقه والتفسير وأهل الزهد والعبادة ويرى المنع من الانفراد عن أئمة الدين من السلف الماضين برأي مبتدع أو قول مخترع فلا يحدث في الدين ما ليس له له أصل يتبع وما ليس من أقوال أهل العلم والأثر، ويؤمن بما نطق به الكتاب وصحت به الأخبار وجاء الوعيد عليه من تحريم دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم ولا يبيح من ذلك إلا ما أباحه الشرع وأمر به الرسول –ﷺ.
ومن نسب إليه خلاف هذا فقد كذب وافترى، وقال ما ليس له به علم وسيجزيه الله ما وعده به أمثاله من المفترين وأبدى –﵀ من التقارير المفيدة والأبحاث الفريدة على كلمة الإخلاص والتوحيد شهادة أن لا إله إلا الله ما دل عليه الكتاب المصدق والإجماع المستبين من نفي استحقاق العبادة والإلهية
1 / 17
عما سوى الله وإثبات ذلك لله سبحانه على وجه الكمال المنافي لكليات الشرك وجزئياته، وأن هذا هو معناها وضعًا ومطابقة خلافًا لمن زعم غير ذلك من المتكلمين كمن يفسر ذلك بالقدرة على الاختراع أو بأنه تعالى غني عما سواه مفتقر إليه ما عداه فإن هذا لازم المعنى إذ الإله الحق لا يكون إلا قادرًا غنيًا عما سواه، وأما كون هذا هو المعنى المقصود بالوضع فليس كذلك، والمتكلمون خفي عليهم هذا وظنوا أن تحقيق توحيد الربوبية والقدرة هو الغاية المقصودة والفناء فيه هو تحقيق التوحيد، وليس الأمر كذلك، بل هذا لا يكفي في الإيمان وأصل الإسلام إلا إذا أضيف إليه واقترن به توحيد الإلهية، وإفراد الله بالعبادة والحب والخضوع والتعظيم والإنابة والتوكل والخوف والرجاء وطاعة الله وطاعة رسوله هذا أصل الإسلام وقاعدته والتوحيد الأول توحيد الربوبية والقدرة والخلق والإيجاد هو الذي بني عليه توحيد العمل والإرادة وهو دليله الأكبر وأصله الأعظم كما قال تعالى: ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ إلى آخر الآيات قال العلامة ابن القيم –﵀ شعرًا:
إن كان ربك واحدًا سبحانه ... فاخصصه بالتوحيد مع إحسان
أو كان ربك واحدًا أنشأك لم ... يشركه إذ أنشاك رب ثان
فكذلك أيضًا وحده فاعبده لا ... تعبد سواه يا أخا العرفان
وهذه الجمل منقولة عن السلف والأئمة من المفسرين وغيرهم من أهل اللغة إجمالًا وتفصيلًا، وقد قرر –﵀ على شهادة أن محمدًا رسول الله من بيان ما تستلزمه هذه الشهادة وتستدعيه وتقتضيه من تجريد المتابعة والقيام بالحقوق النبوية من الحب والتوقير والنصرة والمتابعة والطاعة وتقديم سنته –ﷺ على كل سنة وقول والوقوف معها حيث ما وقفت والانتهاء حيث انتهت في أصول الدين
1 / 18
وفروعه باطنه وظاهره خفيه وجليه كلية وجزئية ما ظهر به فضله وتأكد علمه ونبله وأنه سباق غايات وصاحب آيات لا تشق غباره ولا تدرك في البحث والإفادة آثاره إلى أن قال –﵀: "وما حكيناه عن الشيخ حكاه أهل المقالات عن أهل السنة والجماعة مجملًا ومفصلًا، وهذه عبارة أبي الحسن الأشعري في كتابه مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين، قال أبو الحسن الأشعري جملة ما عليه أصحاب الحديث وأهل السنة الإقرار بالله وملائكته، وكتبه ورسله وما جاء من عند الله وما رواه الثقات عن رسول الله –ﷺ لا يردون من ذلك شيئًا، والله تعالى إله واحد فرد صمد لم يتخذ صاحبة ولا ولدًا وأن محمدًا عبده رسوله وأن الجنة حق والنار حق وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور وأن الله تعالى على عرشه كما قال ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ وأن له يدين بلا كيف كما قال: ﴿لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾، وكما قال: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾ وأن له عينين بلا كيف وأن له وجهًا جل ذكره كما قال تعالى: ﴿وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ﴾ وأن أسماء الله تعالى لايقال إنها غير الله كما قالت المعتزلة والخوارج وأقروا أن لله علمًا كما قال ﴿أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ﴾ وكما قال: ﴿وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ﴾، وأثبتوا السمع والبصر ولم ينفوا ذلك كما نفته المعتزلة، وأثبتوا لله القوة كما قال ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً﴾ وقالوا إنه لا يكون في الأرض من خير ولا شر إلا ما شاء الله وأن الأشياء تكون بمشيئة الله تعالى كما قال: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ﴾ وكما قال المسلمون ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وقالوا إن أحدًا لا يستطيع أن يفعل شيئًا قبل أن يفعله أو يكون أحدًا يقدر على أن يخرج عن علم الله وأن يفعل شيئًا علم الله أنه لا يفعله، وأقروا أنه لا خالق إلا الله وأن أعمال العباد يخلقها الله وأن العباد لا يقدرون أن يخلقوا شيئًا وأن
1 / 19
الله تعالى وفق المؤمنين لطاعته وخذل الكافرين بمعصيته ولطف للمؤمنين ونظر لهم وأصلحهم وهداهم ولم يلطف للكافرين ولا أصلحهم ولا هداهم ولو أصلحهم لكانوا صالحين ولو هداهم لكانوا مهتدين، وأن الله تعالى يقدر أن يصلح الكافرين ويلطف لهم حتى يكونوا ولكنه أراد أن يكونوا كافرين كما علم وخذلهم وأضلهم وطبع على قلوبهم، وأن الخير والشر بقضاء الله وقدره، ويؤمنون بقضاء الله وقدره خيره وشره حلوه ومره ويؤمنون أنهم لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًا إلا ما شاء الله كما قال، ويلجئون أمرهم إلى الله ويثبتون الحاجة إلى الله في كل وقت والفقر إلى الله في كل حال، ويقولون إن القرآن كلام الله غير مخلوق الكلام في الوقف واللفظ من قال باللفظ أو بالوقف فهم مبتدع عندهم لا يقال اللفظ بالقرآن مخلوق ولا يقال غير مخلوق، ويقولون الله تعالى يرى بالأبصار يوم القيامة كما يرى القمر ليلة البدر ويراه المؤمنون ولا يراه الكافرون لأنهم عن الله محجوبون قال الله تعالى: ﴿كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ﴾ وأن موسى سأل الله سبحانه الرؤية في الدنيا، وأن الله تعالى تجلى للجبل فجعله دكًا فأعلمه بذلك أنه لا يراه في الدنيا، بل يراه في الآخرة، ولم يكفروا أحدًا من أهل القبلة بذنب يرتكبه كنحو الزنا والسرقة وما أشبه ذلك من الكبائر، وهم بما معهم من الإيمان مؤمنون وإن ارتكبوا الكبائر.
والإيمان عندهم هو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وبالقدر خيره وشره وحلوه ومره وأن ما أخطأهم لم يكن ليصيبهم وأنما أصابهم لم يكن ليخطئهم؛ والإسلام هو أن يشهد أن لا إله إلا الله على ما جاء في الحديث، والإسلام عندهم غير الإيمان ويقرون بأن الله مقلب القلوب، ويقرون بشفاعة
1 / 20
رسول الله –ﷺ وأنها لأهل الكبائر من أمته وبعذاب القبر وأن الحوض حق والمحاسبة من الله للعباد حق والوقوف بين يدي الله حق. ويقرون بأن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص ولا يقولون مخلوق ولا غير مخلوق ويقولون أسماء الله هي الله، ولا يشهدون على أحد من أهل الكبائر بالنار ولا يحكمون بالجنة لأحد من الموحدين حتى يكون الله تعالى أنزلهم حيث شاء ويقولون أمرهم إلى الله إن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم ويؤمنون بأن الله تعالى يخرج قومًا من الموحدين من النار على ما جاءت به الروايات عن رسول الله –ﷺ وينكرون الجدل والمراء في الدين والخصومة في القدر والمناظرة فيما يناظر فيه أهل الجدل ويتنازعون فيه من دينهم بالتسليم للروايات الصحيحة، ولما جاءت به الآثار التي رواها الثقات عدلًا عن عدل حتى ينتهي ذلك إلى رسول الله –ﷺ، ولا يقولون كيف ولا لم؛ لأن ذلك بدعة، ويقولون إن الله لم يأمر بالشر بل نهى عنه وأمر بالخير ولم يرض بالشر وإن كان مريدًا له ويعرفون حق السلف الذين اختارهم الله لصحبة نبيه –ﷺ، ويأخذون بفضائلهم ويمسكون عما شجر، ويقرون أنهم الخلفاء الراشدون والمهديون وأنهم أفضل الناس كلهم بعد النبي –ﷺ ويصدقون بالأحاديث التي جاءت عن رسول –ﷺ ويأخذون بالكتاب والسنة كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾ ويرون اتباع من سلف من أئمة الدين ولا يبتدعون في دينهم ما لم يأذن به ويقرون أن الله تعالى يجئ يوم القيامة كما قال: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا﴾ وأن الله تعالى يقرب من خلقه كيف يشاء كما قال تعالى: ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ ويرون العيد والجمعة والجماعة خلف كل
1 / 21