بسم الله الرحمن الرحيم
صلى الله على مولانا محمد وآله وصحبه وسلم
رسالة الصاحب كافي الكفاة لأبي الحسين حمزة بن محمد الأصبهاني في كشف عيوب المتنبي
أما بعد: أطال الله مدتك، وأدام في العلوم رغبتك فالهوى مركب يهوي بصاحبه، وظهر يعير براكبه، وليس من الحزم أن يزري العالم على نفسه بالعصبية، ويضيع من علمه بالحمية، فالناس - مع اختلافهم وتباين أصنافهم - متفقون على أن تغلب الأهواء يطمس أعين الآراء؛ وأن الميل عن الحق يبهم سبيل الصدق.
وكنت ذاكرت بعض من يتوسم الأدب في الأشعار وقائليه والمجودين فيها، فسألني عن المتنبي فقلت: إنه بعيد المرمي في شعره،
1 / 29
كثير الإصابة في نظمه، إلا أنه ربما يأتي بالفقرة الغراء مشفوعة بالكلمة العوراء.
فرأيته قد هاج وانزعج، وحمى وتأجج، وادعى أن شعره مستمر النظام؛ متناسب الأقسام. ولم يرض حتى تحداني فقال: إن ما تذكره، لتصفحه العيون وتسبكه العقول. ففعلت، وإن لم يكن تطلب العثرات من شيمتي، ولا تتبع الزلات من طريقتي. وقد قيل: أي عالم لا يفهو، أي صارم لا ينبو، وأي جواد لا يكبو؟!!.
وإنما فعلت ما فعلت لئلا يقدر هذا المعترض أني ممن يروي قبل أن يروي، ويخبر قبل أن يختبر، فاسمع وأنصتن واعدل وأنصف، فما أوردت من كثير مما زل فيه إلا قليلا، ولا ذكرت من عظيم ما اختل فيه إلا يسيرا. وقد بلينا بزمان زمن يكاد المنسم فيه يعلو الغارب، ومنينا بأعيار أغمار اغتروا بممادح الجهال، لا يضرعون لمن حلب العلم أفاويقه والدهر أشطره؛ لا سيما علم؛ فإنه فويق الثريا
1 / 30
وهم دون الثرى، وقد يوهمون أنهم يعرفون، فإذا حكموا رأيت بهائم مرسله ونعائم مجفلة.
وهاأنذا منذ عشرين سنة أجالس الكبراء وأباحث العلماء وأكاثر الأدباء وأجاري
الشعراء،؛ بالجبال تارة وبالعراق مرة أخرى وآخذ من رواة محمد بن يزيد المبرد، وأكتب عن أصحاب أحمد بن يحيى ثعلب، فما رأيت من يعرف الشعر حق معرفته؛ وينتقده نقد جهابذته؛ غير الأستاذ الرئيس أبي الفضل بن العميد، أدام الله أيامه، وحصن لديه إنعامه، فإنه يتجاوز نقد الأبيات إلى نقد الحروف والكلمات، ولا يرضى بتهذيب المعنى حتى يطالب بتخير القافية والوزن. وعن مجلسه - أعلاه الله - أخذت ما أتعاطى من هذا الفن، وبأطراف كلامه تعلقت فيما أتحلى به من هذا الجنس.
وقد قال أبو عثمان الجاحظ: طلبت علم الشعر عند الأصمعي فألفيته لا يعرف إلا غريبة، فرجعت إلى الأخفش فوجدته لا يتقن إلا إعرابه، فعطفت على أبي عبيدة فرأيته لا ينقد إلا فيما اتصل بالأخبار وتعلق بالأيام والأنساب، فلم أظفر بما أردت إلا عند
1 / 31
أدباء الكتاب كالحسن بن وهب ومحمد بن عبد الملك الزيات. فلله أبو عثمان لقد غاص على سر الشعر واستخرج أدق من السحر.
وفي هذا النمط ما حدثني محمد بن يوسف الحمادي قال: حضرت مجلس عبيد الله بن عبد الله طاهر وقد حضره البحتري، فقال: يا أبا عبادة أمسلم أشعر أم أبو نواس، فقال: بل أبو نواس؛ لأنه يتصرف في كل طريق، ويتنوع في كل مذهب، إن شاء جدا وإن شاء هزلا، ومسلم يلزم طريقًا واحد لا يتعداه، ويتحقق بمذهب لا يتخطاه. فقال له عبيد الله: أن أحمد بن يحيى ثعلبًا لا يوافقك على هذا، فقال: أيها الأمير ليس هذا من علم ثعلب وأضرابه، لأنه ممن يحفظ الشعر ولا يقوله، وإنما يعرف الشعر من دفع إلى مضايقه، فقال: وريت بك زنادي يا أبا عبادة؛ إن حكمك في عميك أبي نواس ومسلم وافق حكم أبي نواس في عميه جرير والفرزدق؛ فإنه سئل عنهما ففضل جريرًا، فقيل له أن أبا عبيدة لا يوافقك على هذان فقال: ليس هذا من علم أبي عبيدة، وإنما يعرفه من دفع إلى مضايق الشعر.
ومن أحسن ما قيل في انتقاد الأشعار ما أنشدنيه أبو الحسن
1 / 32
علي بن هارون المنجم قال: أنشدني عمي أبو أحمد يحيى بن علي النديم لنفسه:
رب شعر نقدته مثلما ي ... قد رأس الصيارف الدينارا
ثم أرسلته فكانت معان ... هـ وألفاظه معًا أبكارا
لو تأتي لقالة الشعر ما أس ... قط منه حلوا به الأشعار
إن خير الكلام ما يستعير الن ... اس منه ولم يكن مستعارا
وأنشدني في معنى خبر أبي عبادة مع عبيد الله عبد الرحمن بن أبي عبد الرحمن الأهوازي لنفسه في معلم زري على شعره:
يعيب الأحمق المطرور شهري ... وهجوي في بلادته كثير
ويزعم أنه نقاد شعر ... هو الحادي وليس له بعير
والأصل في هذا قول بعضهم:
زوامل للأشعار لا علم عندهم ... يجيدها إلا كعلم الأباعر
لعمرك ما يدري البعير إذا غدا ... بأوساقه أو راح - ما في الغرائر
وفي اشتمال الشعر على الفاخر والرذل قول ابن الرومي، أنشدنيه أبو الحسن بن حاجب النعمان قال: أنشدني أبو عثمان الناجم قال: أنشدني علي بن العباس لنفسه
يا عائب الشعر مهلا ... فعيبك الشعر عيب
1 / 33
الشعر كالشعر فيه ... مع الشبيبة شيب
وأنا أقدم شذورًا سمعتها من الأستاذ الرئيس أدام الله علوه في نقد الشعر تدل على ما بعدها وتنبئ عما قبلها، وأين من يفهم عن هذه الإشارة ويعلم ما وراءها من النكت الدالة.
أنشدت يومًا بحضرته كلمة أبي تمام التي أولها:
شهدت لقد أقوت مغانيكم بعدي ... وسحت كما سحت وشائع من برد
حتى انتهيت إلى قوله:
كريم متى أمدحه أمدحهُ والورى ... معي ومتى ما لمته لمته وحدي
فقال لي: هل تعرف في هذا البيت عيبًا؟ فقلت: بلى؛ قابل المدح باللوم فلم يوف التطبيق حقه، إذ حق المدح أن يقابل بالهجو أو الذم، على أنه قد روي:
. . . . . . . . . ومتى ما ذمته وحدي
فقال - أيده الله -: غير هذا أردت، فقلت: ما أعرف، قال: أعلم أن أحد ما يحتاج إليه في الشعر سلامة حروف اللفظ من الثقل، وهذا التكرير في أمدحه أمدحهُ مع الجمع بين الحاء والهاء مرتين
1 / 34
- وهما من حروف الحلق - خارج عن حد الاعتدال نافر كل النفار، فقلت له: هذا لا يدركه ولا يعلمه إلا من انقادت وجوه العلم له، وأنهضه إلى ذراها طبعه.
وكنا يومًا نتذاكر في مجلسه أعلاه الله إلى أن جرى ذكر قول الشاعر:
نعتبكم يا أم عمرو بحبكم ... إلا إنما المقلي من لا يعاتب
فاستحسنه الحاضرون وأعجبوا به وأثنوا على قائله، فقال - أيده الله -: إن من انتقاد الشعر أن ينقد ما في القافية من حركة وحرف، فقلت: كره سيدنا السناد في تغير حركة الإشباع إذ جاءت فتحة وهي في سائر الأبيات كسرة، فقال: ما أردت غيره.
فهذا قول من له بكل طرف من أطراف الفضل طرف موكل وناظر متفقد.
وكنت أقرأ عليه شعر ابن المعتز متخيرًا الأنفس، فابتدأت قصيدة على المديد الأول، فرسم تجاوزها، وقدرته يحفظها ولا يرضاها، فسألته عنها فقال: هذا الوزن لا يقع عليه للمحدثين جيد الشعر، فتتبعت عدة فصائد على هذا الضرب فوجدتها في نهاية الضعف.
وجرى حديث أبي عبادة البحتري - وهو يوفيه حقه الذي
1 / 35
استوجبه بجزالة لفظه، وتشابه نسجه وغزارة طبعه وحلاوة شعره - فذكر القاضي أبو بكر الجعابي سقطًا استدركه في شعر البحتري وأنفذه إلى أبي عمر قاضي القضاة؛ وطعن فيه على البحتري، وذكر أنه ينقبض عن إظهار لكلف سيدنا بأشعار، فقال الأستاذ: نحن وإن كنا نعرف للبحتري فضله فما ندعي العصمة لهن وفي شعره الكسر والإحالة واللحن. ثم أقبل علي فقال: هل تعرف ما خرج فيه عن الوزن؟ فقلت: بلى؛ أنشدني أبو الحسن بن المنجم قال: أنشدني أبو الغوث لأبيه من قصيدة له يقول فيها:
وأحق الأيام أن يؤ ... ثر فيه يوم المهرجان الكبير
فقال سيدنا: أردت غير هذان فقلت: لا أعرف، فأنشد قصيدته التي أولها:
ظلم الدهر فيكم وأساءا ... فعزاءً بني حميد عزاءا
إلى أن انتهى منها إلى قوله:
ولماذا تتبع النف شيئًا ... جعل الله الفردوس منه جزاءا
فقلت: هو كما قال سيدنا؛ لأن البيت من الخفيف؛ وفيه زيادة سببن فقال: ننشده: (جعل الله الخلد منه جزاءا) فيستقيم.
1 / 36
ثم ابتداء بذكر سقطات البحتري، فعد ما حرت فيه وعجزت عن استيعاب حفظه وتقصيه، فما علق بنفسي أن أنشد قصيدته التي أولها:
متى تسألي عن عهده تجديه
حتى انتهى إلى قوله فيها
أبا غالب بالجود تذكر واجبي ... إذا ما غبي الباخلين نسيه
فإن قوله: نسيه مختل الإعراب بعيد من الصواب.
وذكر من قصيدته التي أولها:
عذيري من نأى غدا وبعاد
وركاكة قوله:
على باب قنتسرين والليل لاطخ ... جوانبه من ظلمة بمداد
وأنشد من قصيدته التي أولها
وجوه حسادك مسودة ... أم لطخت بعدي بالزاج
1 / 37
فإن هذين التشبيهين غير رائعين ولا بارعين.
وقال في أثناء هذا المجلس: ما علمت أن في طبع البحتري تكلفا إلى أن قرأت قصيدته في صفة الإيوان:
صنت نفسي عما يدنس نفسي
وسمعته - أيده الله - ينشد شعر أبي تمام الذي افتتاحه:
أما وقد ألحقتني بالموكب
وأنشد قوله فيها:
أبرزت لي عن صفحة الماء الذي ... قد كنت أعهده كثير الطحلب
فقلت: زين سيدنا هذا الشعر بإقامته الصفحة مقام (الجلدة)، فقال: كذا يلومنا لمثل أبي تمام إذا أمكن إصلاح بيت بلفظه؛ وتهذيب قصيدة بكلمة. وسمعته أيده الله يقول: أن أكثر الشعراء لا يدرون كيف يجب أن يوضع الشعر ويبتدأ النسج، لأن حق الشاعر أن يتأمل الغرض الذي قصده؛ والمعنى الذي اعتمده، وينظر في أي الأوزان يكون أحسن استمرارًا؛ ومع أي القوافي يحصل أجمل اطرادًا، فيركب مركبًا لا يخشى انقطاعه؛ ويتيقن الثبات عليه.
1 / 38
فقلت: لو مثل سيدنا هذا لكان أقرب إلى القلب وأوقع في النفس؟.
قال: نعم؛ هذا البحتري) أراد مدح أبي الخطاب الطائي؛ وقد كان ابن بسطام أحسن إلى أبي عبادة بمائتي دينار فجعلها أبو الخطاب آلافًا؛ وأضعفها وجازي ابن بسطام بها، فنظر البحتري وقد جازاه أضعافًا؛ وجعل مائنيه آلافًا، وقد كان يكفي
أن يزيده إلى الآحاد أنصافًا، فبنى قصيدته على هذه القافية حتى اتسق له ما أحب؛ وبلغ ما طلب فقال:
قضيت عني ابن بسطام صنيعته ... عندي وضاعفت ما أولاه أضعافًا
وكان معروفه قصدًا لدي وما ... جازيت عني تبذيرًا وإسرافًا
مئون عينا توليت الثواب بها ... حتى انثنت لأبي العباس آلافا
قد كان يكفيه فيما قدمت يده ... ربًا يزيد على الآحاد أنصاف
وذكر أيده الله يومًا الشعر فقال: إن أول
1 / 39
ما يحتاج إليه فيه حسن المطالع والمقاطع؛ حتى قال: وإن فلانًا أنشدني في يوم نوروز قصيدة أولها بقبر، فتطيرت من افتتاحه بالقبر، وتنغصت باليوم والشعر.
فقلت: كذا كانت حال ابن مقاتل لما مدح الداعي الحسن بن زيد بن محمد فقال:
لا تقل بشرى ولكن بشريان ... غرة الداعي ويوم المهرجان
فنفر من قوله: لا تقل بشرى أنشد نفار؛ وقال: أعمى ويبتدئ بمثل هذا في يوم مهرجان.
لو تتبعت ما علقت وحفظت عن لأستاذ الرئيس في هذا الباب لاحتجت إلى عقد كتاب مفرد، ولعلي أفعل ذلك فيما بعد. وهو - مع هذا الفضل الباهر والعلم الزاخر - يرى قليل الآداب في غيره كثيرًان بل لا يرى قليلا، وبحسبك أنه ذكر يومًا أستاذنا أبا بكر بن الخياط النحوي فقال: أفادني في نقد الشعر فنا لم يكن عندي، وذلك انه جاءني يومًا باختيارات له، فكنت أرى المقطوعة بعد،
1 / 40
الأخرى لا تدخل في مرتضى الشعر؛ فأعجب من إيراده لها واختياره إياها، فسألته عنها فقال: لم يقل في معناها غيرها فاخترتها لانفرادها في بابها.
وذكر - أيده الله - اختيارات الشعر فقال: ليس فيها أحسن من كتاب الحماسة، ولقد نظرت في الدواوين لأجد ما يلحق لكل باب منه فلم أر ما يستحق الإضافة
إليه. قال: وخير الاختيارات بعدها اختيارات المفضل بإسقاط قصيدتي المرقش.
1 / 41
والآن حين أعود إلى ذكر المتنبي فأخرج بعض الأبيات التي يستوي الريض والمرتاض في المعرفة بسقوطها، دون المواضع التي تخفى على كثير من الناس لغموضها.
فأما السرقة فما يعاب بها؛ لاتفاق شعراء الجاهلية والإسلام عليها، ولكن يعاب أنه كان يأخذ من الشعراء المحدثين كالبحتري وغيره جل المعاني ثم يقول: لا أعرفهم ولم أسمع بهم، ثم ينشد أشعارهم فيقول: هذا شعر عليه أثر التوليد.
ولا عجب فهذا الصولي كان كثير الرواية حسن الأدب إلا أنه ساقط الشعر؛ يقول في كتاب الخلفاء - وقد حشاه بشعره -: إنما أثبت شعري ليعلم الناس أن في زمانهم من إن لم يسبق البحتري انتصف منه.
وليس في الإعجاب بالنفس نهاية، وكان بعض الناس يقول: أجاري البحتري وأباريه؛ وأناقضه وأساويه، فأملى الأستاذ الرئيس في ذلك قوله:
1 / 42
البحتري يروم غاية شعره ... من لا يقيم لنفسه مصراعًا
أنى يروم مناله من لو بغى ... تقويم قافية له ما اسطاعا
جذب العلاء بضبعه فأحله ... بين المجرد والسماك رباعا
وغدوت ملتزم الحضيض فكلما ... رفع الورى باعًا هبطت ذراعا
والله ولي التوفيق.
1 / 43
فأول حديث المتنبي أن لا دليل أدل على تفاوت الطبع من جمع الإحسان والإساءة في بيت واحد كقوله:
بليت بلى الأطلال أن لم أقف بها
وهذا كلام مستقيم لو لم يعقبه ويعاقبه بقوله:
وقوف شحيح ضاع في الترب خاتمه
فإن الكلام إذا استشف جيده ووسطه ورديئه كان هذا من أرذل ما يقع لصبيان الشعراء وولدان المكتب الأدباء.
وأعجب من هذا هجومه على باب قد تداولته الألسنة وتناولته القرائح واعتورته الأفكار وهو التشييب بإساءة لا إساءة بعدها، ثم أتي بما لا شيء أرذل منه سقوط لفظ وتهافت
1 / 44
معنى، فليت شعري ما الذي أعجبه من هذا النظم وراقه من هذا السبك؛ لولا اضطراب في النقد وإعجاب بالنفس.
ومن شعره الذي يتناهى له بالسلاسة؛ مع خلوه من الشراسة الموجودة في طبعه بيت رقية العقرب أقرب إلى الإفهام منه؛ وهو قوله:
نحن من ضايق الزمان له في ... ك وخانته قربك الأيام
فإن قوله: له فيك لو وقع في عبارات الجنيد أو الشبلي لتنازعته الصوفية دهرًا طويلا
ولقد مررت على مرثية له في أم سيف الدولة تدل مع فساد الحس على سوء أدب النفس، وما ظنك بمن يخاطب ملكًا في أمة بقوله:
بعيشك هل سلوت فإن قلبي ... وإن جانبت أرضك غير سالي
1 / 45
فيتشوق إليه، ويخطئ خطأ لم يسبق إليه، وإنما يقول مثل ذلك من يرثي بعض أهله، فأما استعماله إياه في هذا الموضع فدال على ضعف البصر بمواقع الكلام.
وفي هذه القصيدة:
رواق العز فوقك مسبطر ... وملك علي ابنك في كمال
ولعل لفظة الاسبطرار في مراثي النساء من الخذلان الصفيق الدقيق المغير نعم وهذه القصيدة يظن المتعصبون له إنها من شعره نهاية كقوله ﷿: يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وكقوله: (فاصدع بما تؤمر)
وفيها يقول:
هذا أول الناعين طرًا ... لأول ميتة في ذا الجلال
ومن سمع باسم الشعر؛ عرف تردد في انتهاك الستر
1 / 46
ولما أبدع في هذه المرثية واختراع قال:
صلاة الله خالقنا حنوط ... على الوجه المكفن بالجمال
وقد قال لي بعض من يغلو فيه: هذه استعارة، فقلت: صدقت ولكنها استعارة حداد في عرس فلا أدري هذه الاستعارة أحسن؛ أم وصفه وجه والدة ملك يرثيها بالجمال؛ أم قوله في وصف قرابتها وجواريها:
أتتهن المصائب غافلات ... فدمع الحزن في دمع الدلال
ولما أحب تقريظ المتوفاة؛ والإفصاح عن أنها من الكريمات، أعمل دقائق فكره، واستخراج زبدة شعره، فقال:
ولا من جنازتها تجار ... يكون وداعهم نفض النعال
ولعل هذا البيت عنده وعند كثير ممن يقول بإمامته أحسن من قول القائل:
1 / 47
أرادوا ليخفوا قبره عن عدوه ... فطيب تر إي القبر دل على القبر
وكان الناس يستبشعون قول مسلم:
سلت وسلت ثم سل سليلها ... فأتى سليل سليلها مسلولا
حتى جاء هذا المبدع بقوله
وأفجع من فقدنا من وجدنا ... قبيل الفقد مفقود المثال
وأظن المصيبة في الراثي أعظم منها في المرثي.
ومن أطم ما يتعاطاه التفاصح بالألفاظ والكلمات الشاذة؛ حتى كأنه وليد خباء وغذي؛ ولم يطأ الحضر؛ ولم يعرف المدر، فمن ذلك قوله يرثي طفلا
1 / 48