وهنا يجب علينا أن ننظر إلى هذا الوضع من الناحية العملية، فهل يتمكن اليهود من المحافظة على الأراضي التي اغتصبوها؟ وهل تغطي موارد دولة إسرائيل من فلسطين فقط موازنة حكومتها وجيشها؟ إن اليهود بدون مساعدة العرب لا يمكنهم أن يحيوا في بقعة محصورة بين أربع دول عربية، وإن الإعانات التي تجمعها الحكومة الإسرائيلية من العالم اليهودي لا يمكن أن تدوم، ولم يسمع في يوم من الأيام أن دولة من الدول تأسست بالأموال المجموعة من الاستجداء إلا دولة إسرائيل. فهل تقدر هذه الدولة على الحياة من أموال الاستجداء وحدها يا ترى؟
ولا أدري هل يقدر الشعب اليهودي أن يداوم على جمع الأموال لتسليح الجيش الصهيوني مدة طويلة؟ كل هذا مثير للتفكير. إن بعض الأحزاب اليهودية تظن أن الصهيونيين قادرون على ذلك، والبعض من هذه الأحزاب يعلقون آمالهم على إقامة أواصر التعاون بين اليهود والعرب، ويرون أن الاعتصام بالقوة أمر لا يمكن أن يدوم طويلا، وعلى الحالين فإن بقاء اليهود في فلسطين أو إخراجهم منها إنما يتوقف تقريره علينا نحن العرب، فإذا عرفنا كيف نحزم أمورنا ونحكم خطانا ونوحد أعمالنا، وكيف نقاوم الخطط اليهودية بخطط أكثر إحكاما وأشد ضبطا، فإن جميع الآمال الصهيونية ستخيب، وأحلامهم ستتبدد، وجميع الصروح التي بنوا عليها أوهامهم ستنهار، وسيجلون عن فلسطين عاجلا أو آجلا كما جلوا قبل ألفي عام.
إن هذا سيتحقق إذا قاوم العرب الخطط الصهيونية بالفعل، لا بالقول والاحتجاجات والمظاهرات. (9-1) الخطاب الأول
الذي ألقاه بن غوريون رئيس الوزارة أمام الضباط الذين تخرجوا من المدرسة الحربية بتاريخ 7 حزيران 1949: «ستخرجون من هنا لتصبحوا ضباطا في الجيش الإسرائيلي، وفي هذا شرف عظيم، ولكنه ينطوي على المسئولية الكبرى أيضا؛ إذ إنكم ستكونون قوادا لذلك الجيش الذي خرج إلى النور منذ سنة بعد أن نفض عنه ثوب المقاومة السرية. إن جيشنا بشكله الحالي لم يتم تدريبه ولم يجمع أسلحته إلا بعد الخامس عشر من أيار؛ أي بعد قيام الدولة، ولكن هذا لا يخجلنا أمام الجيوش العربية السبعة المدربة. جيشنا جند ونظم خلال إعصار الحرب معهم، واجتاز اختبار الدم والحديد بتفوق مشرف، فالعمليات الحربية أمثال «تخشون» والأيام العشرة، ومعارك النقب والساعات الستون في الجليل دلائل واضحة على قوتنا. لقد أصبحت انتصاراتنا جزءا من تاريخنا، ولكنا لم نصل بعد إلى غايتنا، أي إلى النصر النهائي؛ فنحن لم نحرر حتى الآن من بلادنا تحريرا كاملا غير قسم واحد فقط، وأما الأقسام الباقية فسيكون مصيرها مصير القسم الذي تسيطر قواتنا الباسلة عليه الآن.
ولا تنسوا أيها الضباط أن الدسائس والمؤامرات السياسية ما تزال تحاك هنا وهناك ضدنا، مما لا شك فيه أن الصعوبات الكثيرة ستكتنف طريقنا، إلا أن استقلالنا وحريتنا وإمكانيات الهجرة والاستعمار وتقرير مصير دولتنا الكبرى؛ هذا كله رهين بقوة جيشنا؛ فلا يجوز أن نركن إلى الراحة، وأن نكتفي باحتلالاتنا وانتصاراتنا التي انتزعها جيشنا. إنه لم ينته بعد من إبلاغ رسالته، وما زلنا ننتظر يوما بعد يوم استخدام قوة هذا السلاح ومضاء عزيمته في إنقاذ أراضي الآباء والأجداد.
إن الجيش الإسرائيلي سيتحسن كثيرا من الناحية العسكرية، وإن العمل الذي يتم لخيرنا في جيل كامل علينا أن ننجزه في سنة كاملة لا غير.
إن واجب القائد أن يعرف أن مؤهلات الجيش وكفاءته ليست رهينة باستعداده لخوض المعارك وحماسته لها فحسب، بل هي رهينة أيضا بالإدارة الحازمة والتنظيمات المستقيمة وصيانة الأمتعة، فالنصر لا يكتب ببذل النفس فقط، والتنظيم الجيد الدقيق حتى في أبسط تفصيلاته هو ثلاثة أرباع سر الانتصار.
وأمامنا الآن مشكلة عسكرية فريدة في بابها، فنحن الآن أقلية، وحولنا أعداء ألداء هم الأكثرية، يسعون الآن لضرب كماشة خانقة علينا، ولكن تفوقنا بالقوة ساعدنا على الوقوف في وجههم حتى الآن، وسيساعدنا على الوقوف كذلك في المستقبل، إنهم يستعدون الآن للجولة الثانية بعد أن خسروا الأولى، ولكننا سنفوز عليهم بفضل تفوقنا في القوة والخلق والعقل، بالإضافة إلى النظريات العملية التي يجب أن نقتبسها عن الجيوش الأخرى، وأن نحسنها برقينا العقلي وإبداعنا الفكري ما استطعنا إلى ذلك سبيلا. إن جيشنا الذي شاءت الظروف الماضية أن يكون جيشا صغيرا سيكون في المستقبل في طليعة الجيوش الممتازة، سواء من الناحية التقليدية الروحية أو الصناعية الفنية.
فموقفنا الراهن يطوق أعناقنا بهذه المسئولية، ثم إن من واجبنا الاهتمام بالتدريب الجسماني، وإعدادنا لتحمل المشاق وإرهاف حواسنا وتهذيب طاقتنا الميكانيكية، والتدريب على جميع آلات القتال الفتاكة الحديثة، والتمرن على نظام الحركة الفذة في إدارة المعارك واستغلال كل جديد في ميادين العلم والفن والتطبيق وتنظيم المواصلات لإمداد المؤن والذخائر ... وهذه الأمور مع أهميتها لا تفي بالمراد، فكل ما يجيء به العلم الحديث لا يكفي وحده، ولن تكون الكلمة الأخيرة للدبابة ولا للمدفع أو الطائرة المقاتلة لكسب الحرب، إنما تكون للإنسان الذي يسخر هذه الوسائل لإرادته، فيسخرها كيفما شاء وأينما أراد.
ولن يتفوق المحارب اليهودي على خصمه العربي لمتانة عضلاته أو تفوقه الفني، فهذه الخصائص مع أهميتها الفائقة ليست شيئا مذكورا، فقوى المحارب اليهودي العقلية والنفسية، وفهمه وإدراكه ومضاء عزيمته ومثابرته وإخلاصه وثباته أمام المصاعب والأخطار وسعة حيلته، وغيرها من الخصائص هي التي تلزم له للتفوق في معارك الحرب الطاحنة مع العرب. وهناك سلاحنا السري، الذي هو بالحقيقة الروح العالية التي يتمتع بها محاربنا، وبهذا السلاح السري نقف في وجه الأخطار التي تسوقها الحرب، والتي لا بد منها.
ناپیژندل شوی مخ