مقدمة
1 - انتقام الأرشيف
2 - من الذي يشتم مصر؟
3 - لعبة الأحياء والأموات
4 - ظروف العائلة أم اختيار مقصود؟
5 - التاريخ والحقيقة الضائعة
6 - ورثه مصر، ونسى!
7 - مع السادات على جناح واحد
8 - الجذور
9 - عمنا سام
10 - من الذي هدم الهيكل؟
مقدمة
1 - انتقام الأرشيف
2 - من الذي يشتم مصر؟
3 - لعبة الأحياء والأموات
4 - ظروف العائلة أم اختيار مقصود؟
5 - التاريخ والحقيقة الضائعة
6 - ورثه مصر، ونسى!
7 - مع السادات على جناح واحد
8 - الجذور
9 - عمنا سام
10 - من الذي هدم الهيكل؟
كم عمر الغضب؟
كم عمر الغضب؟
هيكل وأزمة العقل العربي
تأليف
فؤاد زكريا
مقدمة
قبل أن يظهر كتاب الأستاذ محمد حسنين هيكل المشهور «خريف الغضب» في الأسواق، نشر على هيئة سلسلة من المقالات في صحيفة «الوطن» الكويتية، وطوال الوقت الذي كانت تنشر فيه هذه المقالات، كانت سلسلة أخرى من الأفكار تتفاعل في ذهني وتتبلور يوما بعد يوم. كان كتاب هيكل، بغير شك، هو السبب المباشر في إثارة هذه الأفكار، ومع ذلك فقد كانت أصولها أبعد من ذلك وأعمق بكثير؛ إذ كانت في نهاية المطاف تأملات في تلك الأزمة العقلية الشاملة التي شوهت تفكيرنا، حكاما ومحكومين، في النصف الثاني من القرن العشرين. وحين اطلعت على ردود الفعل التي أثارها كتاب هيكل، أو ما نشر منه، في الأوساط الرسمية والإعلامية والثقافية المصرية، والطريقة التي استجاب بها الناس له، ما بين موافق ومخالف، ازدادت الأمور في ذهني وضوحا، وتبين لي أن المناخ السائد، الذي تولدت عنه هذه الأزمة العقلية، يلف الجميع، من مؤيدين ومعارضين، مهما بدا من اختلاف ردود أفعالهم في الظاهر، وكانت المهمة التي أخذتها على عاتقي هي أن أحدد أبعاد هذه الأزمة، وأثبت أن المشكلة ليست مشكلة هيكل وحده، أو مشكلة التضاد بين هيكل وتلك القوى التي وقفت تحتج وتعترض عليه، وإنما هي أوسع من ذلك وأخطر، فقد تشوهت أشياء كثيرة في عقولنا، بفعل فترة القمع الطويلة التي لم تسمح لفكرنا بأن ينمو ويتطور بحرية، وإذا كان هذا التشويه قد ظهر بوضوح كامل في معركة «خريف الغضب»، بين أنصار هيكل وخصومه، فإن هذه المعركة لم تكن في الواقع إلا مظهرا واحدا لداء أصبح متأصلا في عقولنا، ولطريقة في التفكير فرضت نفسها على مختلف أطراف الصراع السياسي والاجتماعي الراهن.
في ضوء هذه الفكرة المحورية سجلت آرائي في هذا الموضوع في عشر مقالات كتبتها في عشرة أيام، وإن كان مضمونها حصيلة تفكير طويل، وظهرت في صحيفتي «الوطن» الكويتية، و«الرأي» الأردنية في وقت واحد، ونشرت خلال شهري يونيو، ويوليو 1983م، وكانت ردود الفعل على هذه المقالات دليلا واضحا على صحة تشخيصي للأزمة، التي انتابت العقل العربي نتيجة لعهود القمع الطويلة.
منذ اللحظة الأولى اتخذت صحيفة «الوطن» الكويتية، موقفا مناوئا لي ومجاملا لصاحب «خريف الغضب»، وكان جزء من هذا الموقف راجعا إلى النفوذ الضخم، الذي يمارسه صاحب ذلك الكتاب على قطاعات هامة من الصحافة العربية، وجزء آخر راجعا إلى إحساس الكثيرين، من المسئولين عن النشر في تلك الصحف، بأن الأفكار التي أحللها وأنقدها تزعزع كثيرا من المعاني والقيم الراسخة في نفوسهم، وقد ظهر ذلك بوضوح صارخ فيما بعد، حين قامت هذه الصحيفة بحذف الجزء الأساسي من المقال التاسع، الذي يتناول علاقة هيكل الخاصة بأمريكا، وعنوانه: «عمنا سام». وكان المضحك المبكي في عملية الحذف هذه هو أن الجزء المحذوف، كان في معظمه اقتباسا طويلا من كتاب سابق لهيكل نفسه، وهو اقتباس يستطيع القارئ أن يستنتج منه بسهولة، أن أمريكا تتوقع من هذا الصحفي الكبير أن يلبي لها طلبات غير عادية، لا هدف لها سوى تحقيق المصالح الأمريكية الخاصة، ولم أكن في هذا الجزء بالذات إلا ناقلا لكلام هيكل ذاته، مع بعض التعليقات البسيطة، ومع ذلك فإن الصحيفة الناشرة كانت تخشى على هيكل من هيكل نفسه، فأدى بها حرصها على إرضائه إلى الامتناع عن نشر كلماته ذاتها!
على أن ردود فعل الجمهور على ما نشرت كانت تستحق التأمل؛ فقد وجد ما كتبته صدى طيبا لدى فئتين؛ فئة الشباب من جهة، وفئة الكبار الذين كان وعيهم السياسي والاجتماعي، قد بدأ يتبلور قبل ثورة 1952م من جهة أخرى. كان الشباب متحمسين لما كتبت؛ إذ كانوا يرون فيه طابعا غير مألوف، يستجيب لرغبتهم في نقد الأوضاع الفاسدة من الجذور، وكان النقد الحاد الذي وجهته إلى أسلوب التفكير السائد في عهد كامل، يتمشى مع ما يلمسونه حولهم كل يوم من مظاهر الانهيار الناجمة عن أخطاء ذلك العهد، ويتجاوب مع طموحهم إلى تشييد بناء جديد، مختلف بصورة جذرية عن الأوضاع القائمة والمتوارثة. أما الكبار فكانوا سعداء بما كتبت؛ لأنه يمثل خروجا عن الأطر الضيقة، التي ظل الفكر السياسي يدور فيها، حتى في كثير من أوساط المعارضة، طوال العقود الثلاثة الأخيرة.
أما الفئة التي وقفت موقف المعارضة مما كتبت، فكانت تنتمي إلى الجيل الأوسط، أعني ما يطلق عليه جيل الثورة، ولست أعني بذلك أن جميع أفراد هذه الفئة قد اتخذوا من كتابتي موقفا سلبيا؛ إذ إن الكثيرين منهم أبدوا تحمسا واضحا، ولكن ما أعنيه هو أن الجزء الأكبر من المعارضين كانوا ينتمون إلى هذه الفئة.
كان عدد غير قليل من هؤلاء المعارضين من ذوي الارتباطات السابقة بثورة 23 يوليو، وكان همهم الأكبر هو الدفاع عن هذه الارتباطات، وتلك في الواقع ظاهرة مؤسفة في حياتنا السياسية المعاصرة. فيكفي أن يكون المرء قد احتل يوما ما موقعا في الاتحاد الاشتراكي، أو منظمة الشباب، أو التنظيم الطليعي، حتى يهب لمهاجمة كل من يتصدى بالنقد لممارسات ثورة يوليو، وكأن هذا الناقد يوجه إليه هجوما شخصيا يتعين عليه أن يصده بهجوم مضاد، يدافع به عن ارتباطه السابق ويبرره، في ثنايا دفاعه عن النظام كله وتبريره. والأمر الذي فات هؤلاء هو أن المنظور الذي كتبت منه لا علاقة له بالأشخاص وانتماءاتهم، وإنما هو منظور أوسع من ذلك بكثير، يرصد التيارات والاتجاهات ويوضح جوانب القصور فيها، مستهدفا غاية أسمى بكثير من الانتقام من عهد معين أو تصفية الحساب مع المتعاونين معه. والأهم من ذلك أن التدهور الذي أصاب كافة جوانب حياتنا، كان كفيلا بأن يجعل أصحاب الارتباطات السابقة، ينسون أشخاصهم ويركزون تفكيرهم في أوضاعنا المتردية، وفي أفضل السبل لإنقاذ وطننا من الهاوية التي ينزلق إليها بسرعة رهيبة. ولكن يبدو أن الحرص على تبرئة الذات وتبرير تاريخها السابق، أهم لدى الكثيرين من مد يد المعونة إلى الوطن الغارق.
وهكذا اعتقد الناصريون أنني لم أقصد، من كل ما كتبت، سوى عبد الناصر، وأغمضوا عيونهم عن جميع الشواهد القاطعة، التي تدل على أنني تصديت لأسلوب في الحكم، لا لأشخاص، ولم أتعرض لعبد الناصر أو للسادات أو لهيكل، إلا بقدر ما كانوا يجسدون هذا الأسلوب في فكرهم أو ممارساتهم، واعتقد بعض اليساريين أن انتقادي لهيكل، في الوقت الذي كان يخوض فيه معركة ضد المؤسسة الساداتية، كان نوعا من السذاجة السياسية التي تؤدي موضوعيا إلى خدمة المعسكر الساداتي. ولو كان هؤلاء قد أمعنوا التفكير فيما كتبت؛ لتبين لهم أن النقد الذي وجهته إلى أسس النظام الساداتي كان أكثر فعالية بكثير من انتقادات هيكل؛ ذلك لأن صورة السادات عند هيكل تظل دائما مهتزة غير محددة المعالم؛ فهو يصوره مغامرا غير وطني في شبابه قبل الثورة، ثم واحدا من أقرب المقربين إلى زعيم وطني كبير، ثم رئيسا للبلاد أعطاه هيكل، خلال سنواته الأولى والحاسمة، كل تأييده، آملا أن «يمنحه فرصة» يمحو فيها تاريخه القديم المشين، ثم قائدا لا يعرف كيف يدير - سياسيا - معركته العسكرية الكبرى، ثم زعيما متهاونا ومستسلما أمام أعداء الوطن ... إنها صورة خالية من التماسك والاتساق، وما كان من الممكن إلا أن تكون على هذا النحو؛ إذ إن مواقف هيكل نفسه من السادات كانت أبعد ما تكون عن الاتساق، وكانت تتراوح بين التأييد المطلق والعداء المطلق، مع إنكار العداء السابق وقت التأييد، وإنكار التأييد السابق وقت العداء. وهكذا كان الاهتزاز في صورة السادات، كما رسمها هيكل، تعبيرا عن التذبذب الحاد في مواقف هيكل نفسه. فهل هذا الموقف الأعرج هو الذي يمكن الاعتماد عليه في نقد الظاهرة الساداتية؟ ألن يكون النقد المتسق، المتماسك، الصادر بدوافع موضوعية لا تشوهها ارتباطات أو تبريرات، هو الأقدر على كشف السمات الحقيقية لهذه الظاهرة؟
ولقد كان الوجه الآخر لهذه الرؤية الضيقة، هو تصدي بعض الناصريين للدفاع عن هيكل بوصفه رمزا للناصرية، ناسين تماما تلك المعركة التي خاضها بكل ضراوة، جنبا إلى جنب مع السادات، في عام 1971م، ضد الكتلة الرئيسية من الناصريين الذين أطلق عليهم اسم «مراكز القوى»، وتلك الخلافات الحادة التي نشبت بينه وبين أشد العناصر الناصرية إخلاصا لمبادئها، وذلك الدور الحاسم الذي لعبه في سنوات السادات الأولى، من أجل تهيئة عقول الناس للتحول الحاسم، الذي كان يخطط له بذكاء من أجل هدم دعائم أساسية للناصرية. •••
أعود فأقول إن ردود الأفعال هذه كانت دليلا آخر على صحة التشخيص، الذي قمت به في هذا الكتاب للتشويه الذي لحق عقولنا بعد سنوات طويلة من الممارسات الملتوية المقيدة بألف قيد، فقد ظهر لي بوضوح كامل أن عددا لا يستهان به من مثقفينا، ما زالوا يصرون على تصنيف المفكرين السياسيين، في إطار تلك الثنائية المحدودة؛ الناصرية أو الساداتية. فأنت في نظرهم لا بد أن تكون هذا أو ذاك، وإذا انتقدت أحدهما فلا بد - في رأيهم - أن يكون هذا النقد لحساب الآخر، أما أن يتخذ المفكر لنفسه موقعا خارج نطاق هذه الثنائية، ويقف من الطرفين معا موقفا ناقدا متحررا، كما حاولت أن أفعل في هذا الكتاب، فهذا ما يعجزون عن تصوره أو استيعابه.
والحق أن هذا الكتاب سيكون قد حقق الهدف، الذي يرمي إليه كاتبه لو استطاع أن يقنع القارئ بأن مصر أوسع وأرحب، من أن تختزل إلى هذه الثنائية الضيقة المحصورة في إطار ثورة يوليو، وبأن العهدين الناصري والساداتي، وإن اختلفا تماما في مضمونهما وأهدافهما، قد أخضعا مصر لأسلوب فردي في الحكم، كان هو المسئول عن القدر الأكبر من هذا التدهور، الذي نلمسه في كل جوانب حياتنا، وهذا الانهيار القاتل في معنويات الإنسان، ولو لم يدرك القارئ عن وعي طبيعة المنظور الاستقلالي الذي كتبت به هذه الصفحات، لأفلت منه الخيط الأساسي الجامع بينها، وعجز عن فهم الهدف الحقيقي الذي يرمي إليه كاتبها.
فؤاد زكريا
أبريل 1984م
الفصل الأول
انتقام الأرشيف
لن أكون قد أضفت جديدا لو قلت إن هيكل، في «خريف الغضب » قد قال الكثير، ولكن الجديد الذي أود أن أضيفه هو أن ما لم يقله هيكل أهم وأخطر بكثير مما قاله.
لقد أثارت المعلومات الهائلة التي فجرها هيكل في كتابه، والتي لم يكن أحد غيره يستطيع أن يصل إليها أو يعبر عنها بمثل هذه الدقة، عاصفة عاتية في مصر، سرعان ما امتدت إلى سائر البلاد العربية. كان هيكل هنا يكتب، لأول مرة، «بصراحة»، ولم يكن من العسير على القارئ الواعي أن يدرك أنه تخلى، في «خريف الغضب»، عن الأسلوب الدبلوماسي الحذر، وعن طرق التعبير غير المباشر التي كانت تميز «صراحاته» في معظم الأحيان. كان هيكل هنا، لأول مرة، في مواجهة حقيقية أمام حاكم كان نظامه لا يزال، بعد موته، يحتفظ بالكثير من أعراض الحياة، بل كانت روحه لا تزال - في رأي البعض - ترفرف بقوة على معظم جوانب الحياة الرسمية في مصر، وجاءت المواجهة قاسية، مريرة، نافذة بضرباتها إلى الصميم.
وحين بدأت المعركة الحامية حول الكتاب، كانت تحمل سمة فريدة يقف أمامها الفكر الواعي حائرا؛ فقد كانت، بالنسبة إلى الغالبية الساحقة من المصريين، معركة ضد شبح مجهول، كانت الردود تتوالى، بعضها مؤيد ومعظمها معارض، دون أن يكون أحد قد عرف عن موضوع المعركة وأسبابها إلا معلومات أولية، نقلتها حلقات قليلة جدا من الكتاب، وتسربت إلى الجمهور قبل أن يصدر قرار المنع، ومع ذلك فقد استمرت المعركة بعد المنع، وضد هذا الشبح المجهول، بكل حدتها وعنفوانها، وكانت تلك المعركة ذاتها من أبرز أعراض ذلك المرض، الذي عانى منه المصريون مرارا طوال الأعوام الثلاثين الأخيرة، أعني أن يروا أجهزة إعلامهم تمتشق سيوفها بكل الحماسة والغضب، ضد عدو لم تتح لهم فرصة معرفته.
في هذه المعركة كان الاستقطاب واضحا؛ فقد أعطاها أنصار هيكل وخصومه طابع الصراع بين عهد السادات وعهد عبد الناصر، كان المصفقون المتحمسون لما كتبه هيكل هم أنصار عبد الناصر، بحيث لم يقتصر إعجابهم بالكتاب على ما حواه من فضائح تمس العهد الساداتي، بل كان من أهم أسباب ترحيبهم به ما احتواه من دفاع، صريح تارة وضمني تارة أخرى، عن العهد الناصري. ومن جهة أخرى فقد كان الناقدون الناقمون على الكتاب هم، بلا استثناء تقريبا، من مؤيدي سياسة السادات، فلم يقتصروا في هجومهم على تبرير تلك السياسة، وإنما اغتنموا الفرصة لكي يجروا مقارناتهم المألوفة بين العهدين، ويثبتوا (على طريقتهم الخاصة) إلى أي حد تمكن العهد اللاحق من إصلاح ما أفسده العهد السابق.
وهكذا كان هيكل، في نظر البعض، شاهد صدق فضح عهدا فاسدا بأدلة لا تنكر، وكان في نظر البعض الآخر مفتريا على الحق، مختلقا للأكاذيب، ناشرا للباطل. ولم يكن أمام الجمهور إلا أن يختار بين هذين الطرفين: فأنت إما مع هيكل، فتصدق كل ما كتب، وإما ضده، فتكذب كل ما قال.
أما كاتب هذه السطور فيؤمن إيمانا راسخا، بأن هذا الاستقطاب للجماهير بين ناصريين وساداتيين، وهذا الاختيار المفروض عليهما بين التصديق المطلق والتكذيب المطلق، ما هو إلا مظهر خطير لضيق الأفق السياسي، الذي فرض نفسه على عقولنا في العقود الأخيرة، فالقضايا الحقيقية التي تثيرها عملية «الفضح» في كتاب هيكل، لا تؤدي أبدا إلى الاختيار بين عهدين، وإنما تؤدي إلى إلقاء ظلال من الشك على مرحلة بأكملها، تشمل العهدين معا، ويمكن أن تشمل غيرهما أيضا، أما الاختيار الآخر بين التصديق والتكذيب، فلا بد للعقل الواعي أن يتجاوزه، والموقف الذي أدافع عنه هو أن في وسع المرء، أن يصدق الكثير جدا مما قاله هيكل، دون أن يكون مع ذلك مؤيدا لهيكل.
هذا الكلام قد يبدو لغزا غير قابل للفهم، ولكن المعنى المقصود يظهر بوضوح من مثال بسيط: لو فرضنا أن أحد أفراد عصابة «المافيا»، قد انشق عن الجماعة وأفشى أسرارها للمحقق، هل سيكون هذا المحقق ملزما، إذا صدقه فيما أدلى به من معلومات، بأن يؤيده وينحاز إليه؟ إنني لا أود أن يؤخذ هذا التشبيه بحرفيته، ولكن كل ما قصدته منه هو أن أضرب مثلا لتلك الحالات، التي يمكن أن يكون فيها أحد طرفي النزاع صادقا، ومع ذلك لا يستحق التأييد ولا التمجيد، وهذا المعنى الأخير هو الذي يلخص موقفي من كتاب هيكل، الذي أصدق الكثير مما احتواه، وأرحب به؛ لأنه قدم إلي معلومات ما كانت لتصلني لولا هيكل، ولكني في الوقت ذاته لا أؤيد صاحبه ولا أشعر بتقدير كبير للبواعث التي دعته إلى تأليفه.
إن ما يهمني، منذ البداية، هو أن يكون موقفي واضحا كل الوضوح، ولست أطالب القارئ، منذ هذه اللحظة، بأن يقتنع برأيي؛ لأن هذا الاقتناع - إذا حدث - سوف تنسج خيوطه ببطء وتدرج خلال حلقات متتابعة من حديث طويل، ولكن ما أطالب به وأصر عليه هو ألا يكون هناك أي لبس في الموقف الذي سأتخذه. فالقضايا الحقيقية التي يثيرها كتاب هيكل هي، كما قلت، تلك التي لم يصرح بها، أو تلك التي تؤدي إليها كتاباته دون أن يقصد. والمشكلة التي تطل علينا من بين غلافي هذا الكتاب أوسع من أن تكون مشكلة هيكل وحده، أو السادات وحده، أو عبد الناصر وحده، إنها مشكلة أسلوب كامل في الحكم، كانت القضايا التي أشار إليها هيكل (ببراعة ودقة) مجرد عرض من أعراضه، وعلى الرغم من أنني سأشير في كثير من الأحيان إلى ما قاله هيكل في «خريف الغضب» فإن هدفي الحقيقي ليس التعليق على كتاب أو نقد مؤلفه، بل إن هدفي هو الكشف عن تلك الظروف والأوضاع التي جعلت الكاتب، والكتاب، والرؤساء الذين يتحدث عنهم، على ما هم عليه.
ولكي يزداد موقفي وضوحا، فإني أود أن أعلن منذ البداية أنني أؤيد هيكل في الكثير مما قال، ولكنني أستنتج من كل ما قاله أمورا مختلفة كل الاختلاف، تجعلني معارضا لاتجاهاته العامة في معظم الأحيان، ولست أود أن يستنتج الساداتيون من معارضتي لاتجاهات هيكل أنني أقف معهم على أي أرض مشتركة، بل إنني أرفض على نحو قاطع أية محاولة منهم لاستغلال انتقاداتي لهيكل من أجل دعم موقفهم؛ فأنا، بلا مواربة، معارض للساداتية بكل قوة، ولكن هذا لا يعني أنني أنحاز إلى الطرف الآخر في الاستقطاب السائد في هذه الأيام، بل إنني أكتب من منظور أوسع من هذا الاستقطاب بكثير، ولا أقبل أن يجرني أحد إلى طرف من أطرافه.
إن هيكل يقوم في هذا الكتاب بمحاولة مستحيلة، هي أن يقتطع عهدا من سياقه الكامل، ويعزله عن سوابقه، وأية نظرة مدققة إلى تاريخ العقود الثلاثة الأخيرة في مصر، تقنعنا باستحالة فصل قطعة من هذا التاريخ عن مقدماتها الضرورية. فلنسلم منذ البدء بأن لكل نظام في الحكم شكلا وموضوعا، أما المضمون فهو اتجاه السياسات التي يتبعها، وأما الشكل فهو الأسلوب الذي يطبقه من أجل تنفيذ هذه السياسات، وإذا كان من المسلم به أن مضمون العهد الساداتي مختلف اختلافا كبيرا عن مضمون العهد الناصري، فإن من الحقائق التي ينبغي ألا تغيب عن الأذهان أن «شكل» الحكم، أي أسلوبه، كان متشابها إلى حد كبير وبعيد طوال ثورة 23 يوليو، ويحمل معظم ملامحه الأصلية حتى اليوم. ولقد تحدث هيكل أساسا عن الاختلاف - الذي ينبغي الاعتراف به - بين الاتجاهات السياسية عند عبد الناصر والسادات، ولكنه كاد أن يغفل تماما الحديث عن التشابه بين أسلوب الحكم في كلا العهدين، وفي هذا الجانب الأخير يعد السادات امتدادا لمنهج في الحكم أرست قواعده ثورة 23 يوليو، ويجوز أنه أضاف إليه اجتهاداته «وابتكاراته» الخاصة هنا أو هناك، ولكن جوهر الأسلوب واحد من البداية إلى النهاية، وأعني به الحكم الفردي الذي يؤمن بحقيقة واحدة، هي ما يعبر عنه الحاكم، ويقمع كل ما عداها.
وهكذا فإن كل إشارات هيكل إلى أخطاء ممارسات الحكم الساداتية قد تكون صائبة، ولكن الأمر الذي يغفله هو أن من المستحيل فصل النتيجة عن السبب، وأن الصورة تكون ناقصة نقصا خطيرا، لو اكتفينا بمظهرها الأخير وتجاهلنا امتداداتها السابقة. ومجمل القول أن هيكل كان على حق عندما كشف العيوب الخطيرة للنظام الساداتي، ولكنه كان مقصرا تقصيرا مخلا حين عزل هذا النظام عن سياقه، ولم ينظر إليه على أنه جزء من ظاهرة أوسع منه بكثير - مع اعترافنا الكامل بأن هذه الظاهرة بلغت قمتها المأساوية في العهد الساداتي على وجه التحديد.
أما الخطأ الرئيسي الثاني الذي اتسم به موقف هيكل، والذي يعد بدون مبالغة عرضا من أعراض مرض أوسع نطاقا، فهو أنه استثنى نفسه تماما من اللوم، وصب اتهاماته على الغير، وكأنه كان طوال الوقت مشاهدا محايدا، أو ناصحا أمينا لا يستمع إليه أحد. ولقد بحثت طوال الصفحات التي قاربت الستمائة في كتاب هيكل، عن سطر واحد من النقد الذاتي، فلم أجد، وكان أقصى ما قاله عن نفسه هو أنه تصور أن السادات سيفعل كذا أو كذا ولكن تصوراته لم تتحقق، ويكون المعنى الضمني دائما هو أن الخطأ في عدم تحققها، يرجع إلى أن الطرف الآخر لم يستمع إلى نصحه، أو لم يفعل ما كان هيكل يأمل أن يفعله. وكل من عاش هذه الفترة وتابعها بوعي، ولم يفقد ذاكرته تحت وطأة الدعايات المتلاحقة، التي تتخذ كل يوم موقفا مناقضا لليوم السابق، يعلم حق العلم أن هيكل كان جزءا لا يتجزأ من معظم الأخطاء التي يعيبها على السادات، وأن دوره قد بلغ ذروة التأثير في سنوات التكوين الأولى، التي تشكلت فيها معالم السياسة الساداتية الجديدة، والتي ترجع إليها معظم التطورات اللاحقة. هذه حقيقة لا بد أن يثبتها التاريخ على نحو قاطع، ومع ذلك فإن من يبحث عند هيكل عن كلمة واحدة تعبر عن تأنيب الضمير أو مراجعة النفس، أو نقد الذات على ممارسات غرست البذرة الأولى والأساسية للشجرة، التي نمت معوجة فيما بعد، سيكون بحثه قد ضاع هباء.
عند هذه النقطة لا يملك المرء إلا أن يتساءل: ما الذي أتاح لهيكل كل هذه الفرصة التي مكنته من أن يوجه نقدا موجعا للعهد الساداتي، إذا كان هو ذاته قد أعطى هذا العهد، بجهوده الواعية والمتعمدة، معالمه الأولى التي حددت قسماته وملامحه لوقت طويل فيما بعد؟ هنا لا يملك المرء إلا أن يفكر مليا في قول هيكل، في مستهل كتابه، إن فكرة الكتاب قد طرأت على ذهنه، منذ اللحظة الأولى لدخوله المعتقل في سبتمبر 1981م، ثم قوله في الفصول الأخيرة من الكتاب، إنه لم يكن يتصور أن السادات سيقدم على اعتقاله، على الرغم من كل ما بينهما من خلافات.
لقد كان لدى هيكل سلاح جبار يخشاه الجميع، وهذا السلاح هو الذي جعله واثقا من أنه لن يعتقل، فلما تجاوز السادات الحد، في لحظة يأس لم يترك فيها اتجاها من اتجاهات الفكر والسياسة والعقيدة في مصر إلا واعتقل أهم ممثليه، قرر هيكل أن يصوب إلى السادات طلقات سلاحه الجبار: الأرشيف.
لقد كان هذا السلاح، منذ البداية، نتاجا لظاهرة الحكم الفردي التي ازدهر في ظلها هيكل، فمن خلال صلته الوثيقة بعبد الناصر، كانت الأسرار والوثائق الخطيرة تأتيه وحده دون غيره، وكان هو ذاته يحرص على تسجيل كل صغيرة وكبيرة تدور حوله، مدركا بذكاء أن كل كلمة تسجل، يمكن أن تكون مصدر قوة له في يوم من الأيام.
ولم تكن البراعة الصحفية وحدها، ولا الذكاء الشخصي وحده، هما اللذان أتاحا له هذه الفرص، بل إن انعدام الديمقراطية وسيادة جو التكتم والقرار الفردي المفاجئ، جعل من الضروري أن يضيق نطاق المطلعين على الأسرار إلى أبعد حد. وهكذا اطلع هيكل على ما لم يكن متاحا للآخرين، أو مطروحا على الناس، وهداه ذكاؤه إلى أن يسجل أولا بأول كل ما هو «خفي» و«ممنوع». ومنذ أن تبين له أن الناس يتلهفون على قراءة الأسرار، التي لا يعرفها أحد صباح يوم الجمعة، أدرك هيكل أهمية «سلاح الأرشيف» من حيث هو مصدر قوة وحماية له في نفس الوقت.
بل إن أحد الكتاب الساداتيين، ممن كانوا على صلة وثيقة بهيكل،
1
يذهب إلى أن سلاح المعلومات كان يستخدم عند هيكل في العطاء أيضا، فهو يرى أن من أهم أسباب المكانة الخاصة التي اكتسبها هيكل لدى عبد الناصر، منذ أول سنوات الثورة، أنه كان يزود زعيم الثورة بقدر هائل من المعلومات، التي تتجمع لديه من قراءاته الواسعة، والتي كان عبد الناصر - وهو لا يزال ضابطا حديث العهد بالحكم - في أشد الحاجة إليها. وهكذا بدأ هيكل بالعطاء، وفيما بعد سددت له هذه الديون أضعافا مضاعفة، عن طريق فتح خزائن الأسرار كلها له . وهكذا كان «سلاح الأرشيف» ذا حدين: يعطي أولا، ثم يأخذ بعد ذلك بلا حدود.
ولكن على الرغم من كل هذه الفرص الاستثنائية التي أتيحت لهيكل وحده، في ظل أسلوب حكم فردي مطلق، وكشفت له عن القوة الهائلة التي تكمن في «سلاح الأرشيف»، فإن المرء لا يملك إلا أن يشعر بوجود سر خفي في تلك المقدرة الهائلة على جمع المعلومات واختزانها وإعادة استخدامها واستثمارها في الوقت المناسب. لقد سخر هيكل من الضباط الذي قلبوا بيته الريفي، وقت اعتقاله الأخير، بحثا عن أوراقه السياسية، مؤكدا لهم أن الرئيس ذاته يعلم أنه (أي هيكل) لا يحتفظ بشيء من أوراقه في بيته، وأنه يبعث بها أولا بأول إلى خارج البلاد. وهكذا كان الأرشيف بالنسبة إلى هيكل، بالإضافة إلى كونه مصدر قوة، تأمينا على الحياة، وضمانا ضد أي شكل من أشكال الاضطهاد؛ فهو يحمل معه أسرار الجميع، بالوثائق، ويوم يمسه سوء ستعلن هذه الأسرار وتفضح كل شيء، ومن هنا كان الحرص على أن تظل خارج البلاد. ولكن يظل السؤال قائما: هل يستطيع فرد واحد، مهما كان ذكاؤه وتشعب قدراته، أن يجمع كل هذه المعلومات، ويرتبها بهذه الدقة، ويبعث بها أولا بأول إلى الخارج؟ لست أدري، ولكنني كلما أمعنت الفكر في هذه الظاهرة، بدا لي أنها أعقد وأوسع نطاقا من إمكانات أي فرد، بل من إمكانات أي جهاز في دولة متخلفة، وخيل إلي أننا نجد أنفسنا هنا على مستوى، يكاد يصل إلى مستوى أجهزة المخابرات في الدول الكبرى.
وهكذا فإن هيكل عندما وجد نفسه معتقلا، وحين تبين له أن السادات تجاوز الحدود وتحدى قدراته، سلط عليه أرشيفه الجبار، وحقق لنفسه انتقامه الشخصي من حاكم كان بيته بالفعل من الزجاج، وكان متهورا ويائسا عندما اختار هيكل بالذات ليكون واحدا ممن يرميهم بالحجارة.
على أن الأمر الملفت للنظر، والذي تتجلى فيه سخرية الأقدار بحق، هو أن «سلاح الأرشيف»، مثلما أنه مصدر قوة هيكل، هو أيضا مكمن الضعف فيه؛ ذلك لأن من يستخدم هذا السلاح يستطيع بأكثر الإمكانات تواضعا ، أن يصيب هيكل في مقتل . ويكفي أن يرجع بانتظام إلى قائمة كتاباته في أواخر الأربعينيات، ثم في مختلف مراحل الخمسينيات والستينيات، وأخيرا في أوائل السبعينيات، ويكفي أن يقارن هذه الكتابات بعضها ببعض، أو بما يظهر منها في المرحلة الراهنة؛ لكي يجد لديه مادة هائلة تستخدم ضد هيكل بسهولة تامة. وحسبنا أن نضرب لذلك مثلا واحدا مما نشر في الصحف المصرية أخيرا. فها هو ذا كاتب يتجاسر فيقول: «إن تاريخ الأستاذ محمد حسنين هيكل صفحة سوداء في تاريخ مصر، لقد اتهمه الرئيس محمد نجيب بالخيانة لحساب دولة أجنبية، وكتب ذلك في كتابه «كلمتي للتاريخ»، كما اتهمه مايلز كوبلاند في كتابه «بغير عباءة أو خنجر» بأنه كان عميلا مخلصا، كما اتهمه خروشوف بنفس التهمة، وذكر له قيمة المبالغ والشيكات التي تسلمها من وكالة المخابرات المركزية، وكان ذلك عندما سافر سيده (يقصد عبد الناصر) إلى روسيا، واصطحبه معه في هذه السفرة، فلما واجه نيكيتا خروشوف بهذه الفضيحة المرة، اضطر أن يسافر في اليوم التالي عائدا إلى مصر.»
2
هنا نجد «سلاح الأرشيف» يستخدم ضد أبرع من أتقنوا استخدامه، وإذا كنا لا نملك الحكم على مدى صحة الوقائع الواردة في هذا الكلام، فإن الاتهامات التي تحدث عنها الكاتب، قد وجهت بالفعل إلى هيكل، على أيدي نجيب وكوبلاند وخروشوف، وكل ما فعله الكاتب هو أنه رجع إلى الوراء قليلا، مقلبا صفحات الجرائد في السنوات الماضية. وما هذا إلا مثل واحد يكشف عن الوجه الآخر لسلاح الأرشيف، عندما يسدد إلى عنق صاحبه.
الفصل الثاني
من الذي يشتم مصر؟
أثار كتاب هيكل، أو على الأصح الجزء الضئيل الذي نشر منه في مصر، عاصفة عاتية من ردود الفعل، وفي رأيي أن دراسة ردود الفعل هذه، باتجاهاتها المختلفة وتشعباتها الكثيرة، تزودنا بذخيرة هائلة نستطيع من خلال تحليلها المتعمق، أن نفهم الكثير عن طبيعة التشويه الفكري الذي أصبحت بلادنا تعانيه، وعن شكل التضليل الإعلامي الذي يسلط على عقولنا ليل نهار، ففي ردود الفعل هذه تتحدد مواقف كثيرة، وتنكشف وتظهر حقيقة الأفكار التي ظلت كامنة، مستترة، مغلفة بشتى أنواع الأقنعة الخداعة، ومن خلال ردود الفعل هذه يتضح اتجاه المصالح الحقيقية في مصر؛ إذ كان معظم المدافعين عن السادات من المنتفعين منه، أو من أصحاب المصالح التي ازدهرت في عهده، وإن لم يمنع ذلك من وجود بعض المتأثرين بطوفان الإعلام، ومن خلالها ينكشف تهافت وتناقض الشخصيات، التي كان لها دور مصيري في تاريخ مصر، ودور أساسي في تشكيل عقلها، وهو حكم لا أستثني منه هيكل نفسه. ومن خلالها تظهر للعيان جريمة الحكم الفردي التي لا تغتفر، إذ يتبين لنا بوضوح مدى التزييف الذي طرأ على الوعي السياسي المصري، متمثلا في عدد غير قليل من كبار مثقفيه، بعد ثلاثين عاما من حكم يفترض أنه ثورة تستهدف، على وجه التحديد، تحرير الوعي من أوهامه.
وأخيرا، فمن خلال ردود الفعل نستطيع أن ندرك إن كان عهد السادات قد انتهى حقا، أم أن آثاره ما زالت تدب فيها الحياة بكل عدوانية وتحفز.
إن دراسة العقل المصري وتحليل سماته كما تتمثل في اتجاهات ردود الفعل على هيكل، هي في نظري أهم الأهداف. ولم يكن كتاب هيكل في هذه الحالة، إلا فرصة لكشف أساليب التفكير المستورة، التي تظل في حالة كتمان حتى تطرأ أزمة أو محنة تفجرها، وهكذا سوف أتوقف طويلا عند ردود الفعل، وأخضعها لتحليل سأحاول أن يكون دقيقا، آملا أن أتمكن عن طريقها من إلقاء الضوء على بعض سمات العقل المصري - التي تجمعها روابط مشتركة كثيرة مع العقل العربي بوجه عام - بعد ثلاثين سنة حكم ثورة 23 يوليو.
هذا الرجل (السادات) قد اخترناه جميعا زعيما لهذا البلد، واختيار زعيم فيه تجسيد للشعب الذي اختاره، وبالتالي فإن كل ما يقال عن هذا الزعيم يعتبر في حقيقته نيلا من الشعب الذي اختاره.
قائل هذه الكلمات أستاذ كبير في القانون، في اجتماع للمجلس الأعلى للصحافة خصص لمناقشة كتاب هيكل، ونشرته جريدة «الأهرام» في 29 أبريل 1983م، والأساس الذي يبنى عليه تفكير أستاذ القانون هو أن الحاكم تجسيد لبلده، ما دامت قد اختارته بإرادتها، ومن ثم فإن أي هجوم من هيكل أو غيره على السادات هو هجوم على مصر كلها.
هذا النوع من التفكير بلغ، في السنوات الأخيرة، من الانتشار حدا يحتم علينا أن نتوقف طويلا عنده، فما من أحد منا إلا وتعرض مرارا لتلك التجربة المثيرة والمستفزة، تجربة المناقشة مع شخص يؤكد أن أي نقد للحاكم، هو انتقاص من قدر بلاده، وأن الوطنية الحقة تحتم على المرء ألا يسيء إلى الحكام.
ولا شك أن عبارة أستاذ القانون، السابقة، هي تعبير نموذجي عن وجهة النظر هذه: (أ)
فهو يستخدم لفظ «الزعيم» مرتين، وهي نفس الكلمة التي كان يطلقها النازيون على هتلر (الفوهرر)، والفاشيون على موسوليني (الدوتشي). وليس هذا استخداما اعتباطيا؛ إذ كان يمكنه أن يقول: الحاكم، أو رئيس الدولة، ولكن إصراره على لفظ «الزعيم» هو جزء لا يتجزأ من العقلية التي توحد على نحو مطلق بين شخص الحاكم وبلده. (ب)
وهو يرى هذا الزعيم «تجسيدا» للشعب، ولم يقل «رمزا»؛ لأن الرمز لا يتعين أن يكون مشابها لما يرمز إليه (اللون الأخضر رمز لإمكان مرور السيارات مثلا) بل تفصل بينهما مسافة ما، أما التجسيد فهو اندماج كامل، بل إن الزعيم يصبح في هذه الحالة «خلاصة» شعبه وأنقى تعبير عنه، وهذا يفترض، بطبيعة الحال، أن الشعب كتلة متجانسة لا تمايز فيها، ولا اختلاف ولا تباين في الرأي أو الاتجاه، حتى يستطيع شخص واحد أن يكون تجسيدا له، ومن هنا فمن المؤكد أن الإنكليز، مثلا لا بد أن يسخروا ممن يرى في «تاتشر» تجسيدا لهم، إذ إنها حتى لو كانت تجسد المحافظين، فماذا تقول عن العمال والأحرار؟ وفضلا عن ذلك فإن الزعيم الذي يجسد شعبه هو، بحكم تعريفه، غير قابل للتغيير، وإلا فكيف نتصور أن يتخلص شعب ممن يجسده؟ (ج)
وأخيرا، فإن أستاذ القانون الكبير يتحدث أربع مرات، في أقل من ثلاثة أسطر، عن «اختيار» الشعب للزعيم، وهكذا فإنه، بكل وقار القانون وهيبة الأستاذية، يعلن ثقته المطلقة وتصديقه الكامل لاستفتاءات 99,9٪، ويرى فيها أساسا يسمح للمرء بأن يقول باطمئنان تام وبضمير مستريح: «هذا الرجل قد اخترناه جميعا.»
هذه الكوارث أو الفواجع الفكرية تتجمع كلها في أقل من ثلاثة أسطر، وتعبر بوضوح صارخ عن تدني مستوى الوعي السياسي والاجتماعي، عند من يفترض فيهم أن يكونوا معلمين ومرشدين لغيرهم في هذا الميدان، وهي في واقع الأمر أبلغ دليل على نوع العقول التي توحد بين الحاكم وبلده، وترفض أي نقد للحاكم، بحجة أن هذا النقد إهانة لوطنه ونيل منه. •••
على أن لهذا اللون من التفكير، أعني التوحيد بين الحاكم والوطن، وجها آخر ربما كان أشد حدة، هو ذلك الذي يشيع بين المصريين المغتربين على وجه التخصيص، فظروف الاغتراب تزيد من قوة التوحيد بين البلد وحاكمها، ومن هنا كان من ردود الفعل الأكثر شيوعا، بين المصريين العاملين في البلاد العربية بوجه خاص، استنكار ما كتبه هيكل باعتباره «شتيمة لمصر».
هذه ظاهرة لم تتمثل في حالة هيكل وحده، بل تعرض لها كل من يكتب كتابة نقدية عن الأوضاع المصرية في إحدى الصحف العربية، كما أن من يستخدمون هذه الحجة ليسوا هم المواطنين المغتربين العاديين فحسب، بل إن المرء يجدها تتردد على أعلى المستويات، وأستطيع، من تجربتي الشخصية، أن أؤكد أن النسبة الغالبة من أساتذة الجامعات المصريين العاملين في بلد كالكويت، تحتج بشدة على أي مقال يوجه نقدا لحاكم مصر أو حكومتها، باعتباره هجوما على مصر. وهكذا فإن شيوع هذه الحجة بين المغتربين يفوق بكثير انتشارها داخل مصر ذاتها؛ ولذا كانت تحتاج إلى وقفة متأنية تناقش الأسس التي ترتكز عليها بهدوء. (1)
أول أساس لهذه الحجة هو ذلك الذي أوردناه من قبل، وأعني به أن الحاكم تجسيد لبلده، ويزداد الحرص على فكرة التجسيد هذه عندما يكون الشخص مغتربا، بحيث تتضاعف حساسيته إزاء أي نقد يوجه إلى الحاكم، وكم من مصري مغترب ينتقد كتاب هيكل - على سبيل المثال - انتقادا مريرا، لا لأنه غير مقتنع بما يتضمنه من وقائع؛ بل لأنه حتى لو كانت كل كلمة فيه صحيحة، يسيء إلى صورة «مصر».
إن قليلا من التفكير يقنعنا بأن الحريص حقا على سمعة بلاده، هو الذي لا يوحد بينها وبين حاكمها، وفي حالة بلد كمصر يكون من المخجل حقا، أن يساوي المرء بين ذلك التاريخ العريق والحضارة الأصيلة، بين بلد النيل والأهرام والأزهر، وبين تصرفات حكام أفراد يمكن أن يكون الكثيرون منهم مصابين بجنون العظمة، أو داء الاستبداد والبطش والادعاء. إن من يعتز ببلده وتاريخه حقا، هو ذلك الذي يعلن في كل مكان، وأمام الجميع، أن مصر ليست مسئولة عن أخطاء حكامها، وينزه بلده عن تلك النقائص التي يمكن أن يتصف بها هذا الحاكم أو ذاك، أما ذلك الذي ينصب نفسه محاميا عن كل خطأ يرتكبه الحاكم، متوهما أنه يدافع على هذا النحو عن وطنه، فهو في الواقع الذي يسيء إلى هذا الوطن أبلغ إساءة، ولو اتخذت مسألة التوحيد بين الحاكم والوطن قاعدة عامة، لكان علينا جميعا أن نحمل بلدا كمصر أخطاء فاروق والخديوي توفيق والحاكم بأمر الله وقراقوش. (2)
ولكن أصحاب هذا الموقف يلجئون، عادة، إلى إضافة حجة أخرى، هي الإشارة إلى الفارق بين النقد داخل الوطن والنقد خارجه، ففي استطاعتك أن تنقد الأوضاع كما تشاء ما دمت في بلدك، أما إذا كنت في بلد آخر فإن الواجب يقضي عليك بأن تمتنع عن النقد، بل تتصدى له بكل قوة، حتى لا تترك «للغرباء» فرصة «الشماتة» في وطنك. ويشارك الحاكم ذاته في هذه الحجة؛ فهو يهاجم بكل العنف أولئك الذين «يشتمون مصر» في الخارج، وربما استخدم التعبير المألوف «نشر الغسيل»، ويجد هذا الرأي صدى لدى الكثيرين ممن يتقبلون ما يقرءونه أو يسمعونه بلا تفكير، ولكن الأمر المؤسف هو أن الأمر لا يقتصر على هؤلاء، بل إن نسبة كبيرة من المثقفين الذين يشغلون مراكز علمية واجتماعية مرموقة، تردد في كل مناسبة هذا المبدأ: «انتقد بلدك في الداخل كما تشاء، ولكن عليك في الخارج أن تدافع عنها (والمقصود هنا بالطبع: تدافع عن حكامها) بالحق أو بالباطل، ولا تسمح لأحد بمهاجمتها (والمقصود: مهاجمة حكامها).»
فلنناقش إذن هذا المبدأ الخطير، المنتشر على أوسع نطاق بين أوساط المصريين المغتربين على مختلف مستوياتهم:
أولا:
هذا المبدأ يفترض أن العرب، الذين يقيم هؤلاء المصريون في بلادهم، هم بالنسبة إليهم «غرباء»، والأمر الملفت للنظر حقا هو أن نفس هؤلاء الذين يفكرون بهذا المنطق، يمكن أن يتحدثوا باستفاضة، في مجال آخر، عن وحدة العروبة والمصير المشترك، والحواجز المصطنعة بين الأقطار في الوطن العربي الواحد، ولا يدركون التناقض الصارخ بين حديثهم المتحمس هذا، وبين نظرتهم إلى العرب على أنهم «غرباء»، لا ينبغي أن تطرح مشاكل مصر الداخلية أو الخارجية أمامهم، ولا ينبغي أن تتاح لهم فرصة «الشماتة» في مصر. فكيف يسمح هؤلاء لأنفسهم بأن يكونوا إقليميين إلى أقصى حد في جانب، ووحدويين متحمسين في جانب آخر؟ أليس من الواضح أن الإيمان الحقيقي بوحدة العروبة، يحتم على المرء ألا يجد فارقا بين المصري وأي عربي، في نقد الممارسات الخاطئة لأي نظام من الأنظمة، سواء أكان هذا النظام مصريا أم لم يكن؟
إن العرب، من غير المصريين، لا يهتمون بأوضاع مصر من أجل «الشماتة»، كما يتصور قصار النظر هؤلاء، بل إن ما يحدث في مصر من مد وجزر، ومن تقدم أو تخلف، هو الشغل الشاغل لكل عربي لسبب بسيط: هو أنه لا بد، عاجلا أو آجلا، أن ينعكس على بلاده إيجابا أو سلبا، وما من عربي مستنير إلا ويتابع سياسة مصر بكل ما يملك من ترقب واهتمام؛ لأنه يعلم أن مفتاح المنطقة كلها هناك؛ ولأنه يخشى على بلده من أن يلحقها أي مكروه يصيب مصر قبلها، وهكذا فإن الاهتمام الزائد الذي يبديه أي عربي بأوضاع مصر، يظل في واقع الأمر اعترافا بمكانة مصر الرئيسية في الوطن العربي، حتى لو اتخذ شكل انتقاد مرير لأوضاعها، فلماذا لا يبدي أحد اهتماما بانتقاد ما يحدث داخل موريتانيا أو جيبوتي مثلا، حتى لو تراكمت الأخطاء في ممارسات حكام هذين البلدين؟
ثانيا:
يفترض هذا المبدأ أن فرص النقد مكفولة داخل مصر، ولكن أصحابه يخدعون أنفسهم، في الواقع، خداعا مكشوفا حين يتظاهرون بالوطنية فيقولون: انتقد حكام مصر في داخلها كما تشاء، أما في خارجها فلا. من الذي يستطيع أن ينتقد حكام مصر في داخلها «كما يشاء»؟ لقد ظل كتاب مصر ومثقفوها الذين يحملون هموم مصر على أكتافهم يحاورون ويناورون، لمدة ثلاثين عاما، كلما وجدوا أمامهم ممارسات خاطئة، وكم من نقد كان يمكن أن ينقذ البلاد من كوارث رهيبة، عوقب موجهه أو أرغم على السكوت، أو اضطر - على أحسن الفروض - إلى التعبير عنه بحذر والتواء، حتى يمكن أن يجد طريقه إلى الناس وسط الرقابة الصارمة، فلماذا نغالط أنفسنا، ونتصور أن من ينتقد في الخارج يفعل ذلك طواعية، وأنه كان يستطيع أن ينقد في الداخل ولكنه اختار - لمصالح خاصة - منبرا للتعبير خارج بلاده؟
ثالثا:
من الممكن أن يدرك المرء، حين يعمل فكره قليلا، أن معظم أصحاب هذا المبدأ، يقومون بعملية إسقاط لخلافاتهم الصغيرة في العمل، ومنافساتهم الشخصية مع جنسيات عربية أخرى في نطاق العلاقات الفردية الضيقة، على موقفهم السياسي العام، فكل منهم يتصور أن ظهور نقد للأوضاع المصرية في جريدة صباحية، سيجعل زميله أو رئيسه العربي في المكتب أو المصنع، يكسب نقطة على حسابه حين يفتح الجريدة، وينتهز الفرصة للتشفي منه، وهذه نظرة طفولية ضيقة، تخلط بين العلاقات الشخصية والشئون الوطنية العامة، وإن كانت للأسف واسعة الانتشار، حتى على أعلى المستويات.
إن هذا الخلط بين المستوى الشخصي للسلوك، وبين تقييم العمل السياسي العام، هو آفة من أخطر الآفات في تفكيرنا المعاصر، وهو علامة واضحة على أن تربيتنا السياسية بعيدة كل البعد عن ذلك النضوج، الذي لا بد منه لقيام نهضة حقيقية، وسوف تتاح لنا، خلال معالجتنا لجوانب الموضوع الذي نتناوله في هذه الدراسة، فرص كثيرة لرؤية أمثلة أخرى لهذا الخلط، ويكفي أن نقول الآن إن الكلام عن «التشفي» أو «الشماتة»، حين يكون الأمر متعلقا بالسياسة العامة لبلد من البلاد، هو مظهر للبدائية في التفكير، أما «نشر الغسيل» وهو للأسف تعبير ما زال يستخدمه مسئولون كبار - فهو تعبير مضحك ومؤسف في آن واحد، وليقل لي هواة هذه التعبيرات: هل سمع أحد منكم واحدا من أنصار ريجان أو ميتران يتحدث، في معرض تقييمه لسياسة بلاده، عن «الغسيل»؟
إن الفكرة الكامنة من وراء هذا هي فكرة «الستر»، وهي مبدأ أخلاقي مذموم حتى على المستوى الفردي، ففي أخلاقنا الشعبية نزوع شديد إلى التغطية على العيوب، إلى درجة أن افتضاح هذه العيوب ومعرفة الآخرين بها هو في نظرنا شر يفوق العيوب نفسها، وكثيرا ما نتصرف بحيث نتغاضى عن أخطر أنواع الآثام ما دامت «مستورة»، ومن هنا كان «الستر» أمنية غالية في تعبيراتنا الشعبية المألوفة، ولكن الخطأ الفكري والأخلاقي يتضاعف، حين ننقل هذا المبدأ إلى ميدان السياسة، فندعو مواطنينا إلى السكوت على أوضاع جائرة، حتى لا تفتضح أمام الآخرين، ونطالبهم بألا «ينشروا الغسيل»، بدلا من أن نطالب أنفسنا بأن نبقي غسيلنا نظيفا على الدوام.
وهكذا تكشفت ردود الفعل على كتاب هيكل، عن أخطاء فكرية فادحة، ترسخت في عقولنا وسرت فيها مسرى البديهيات التي لا تناقش، ويتبين لنا أن توحيدنا بين تصرفات الحاكم وبين سمعة بلاده، هو أبلغ دليل على أن لعبة الحاكم الفرد لا تقتصر على من يمارسها بنفسه، بل إن الذين تمارس عليهم هذه اللعبة قد اندمجوا فيها، وانتقلت عدواها إليهم دون أن يشعروا، وأن الخاضع للاضطهاد قد تقمص الكثير من أفكار من يضطهده، وأن الطغيان أصبح جزءا من تكوين المحكوم، لا الحاكم وحده، إلى حد أنه أصبح يوحد نفسه، وبلده، وكرامته ومكانته، مع شخص الحاكم المطلق، ويقدم بتفكيره الخاص، أقوى دعامة لذلك الاستبداد الذي يكتوي بناره ليل نهار.
الفصل الثالث
لعبة الأحياء والأموات
حين نمضي في رحلة الكشف عن مظاهر تزييف الوعي، وانهيار العقل والمنطق، كما تمثلت في ردود الفعل على كتاب هيكل، ستظهر لنا أمثلة أخرى مؤسفة لذلك الخلط، الذي أصبح سائدا على كافة الأصعدة، بين أساليب الناس في التعامل معا على المستوى الشخصي، وأساليبهم في النظر إلى أمور المجتمع العامة على المستوى السياسي، ولكنا سنكتشف أيضا أن قدرة المزيفين على الخداع، وصلت إلى حد من الجراءة، بل من الصفاقة، يفوق كل تصور، وأنهم ما كانوا ليبلغوا هذا المدى، لو لم يكونوا قد اعتادوا النظر إلى الجمهور على أنه قطيع ينقاد، بلا عقل، في أي اتجاه يفرض عليه، وهذا التعالي على الناس، والاعتقاد بأن أية أكذوبة يمكن أن تمر عليهم، ليس إلا النتيجة الطبيعية لجو القهر المخيم منذ أمد بعيد، والذي أشاعه عهد لا يجعل للجمهور من دور سوى التصفيق والتصديق.
لنستمع إلى كاتب كبير كان له يوما دور بارز في الحركة الوطنية المصرية، ولكنه انجرف في تيار التضليل السياسي منذ السبعينيات، يعلق على كتاب هيكل فيقول: «لقد اغتالوا حياته في 6 أكتوبر، عيد انتصاره الحربي، وفي 25 أبريل عيد انتصاره السلمي يحاولون اغتيال سمعته ... إننا نصغر في عيون الآخرين، ويبدو بعض كتابنا بلا وفاء، يحركهم الانتقام وتضطرب في أيديهم الموازين. إن ما كتبه هيكل ليس تحليلا، إنما هو التشهير بعينه، هو الاعتداء على حرمة رئيس مات، وعلى سمعة وطن بأسره. من قال إن كاتب التاريخ من حقه أن يهدر الحرمات، ويشهر بسمعة الرجال والنساء بلا دليل؟ من قال إن كتابة التاريخ تعني العدوان على سمعة الذين هم في ذمة التاريخ؟ ومتى كانت كتابة التاريخ تمزيقا للأشلاء؟»
1
ولنستمع، بعد ذلك، إلى أستاذ مرموق في الطب، وأمين عام لنقابة الأطباء، وهو يهاجم الصحيفة التي نشرت مقالات هيكل الأولى قبل أن تصادر، فيقول: «هذه الصحيفة صدرت في ظل الحريات، وقانون الأحزاب التي أرسى قواعدها من أرادوا نهش لحمه حيا وميتا، لا لشيء إلا لأنه اتخذ موقف الصدق مع شعبه، واستجاب لمطلب أمته وأعلن عداءه للشيوعية ...»
ويواصل الطبيب الكبير كلامه قائلا: «لا أظن أن مصريا لم يتابع جنازة السادات، ولم تدمع عيناه، ولم يكتو قلبه لوعة وحزنا على النهاية، التي أودت بحياة رئيس مصر ورمزها ...» ثم يقول: «لقد بلغ به الغضب قمته عندما رأى من مد يديه إليهم بالخير، وفتح لهم أبواب الحرية، وسمح لهم بالتعبير عما يجيش في صدورهم من رأي، يمدون إليه أيديهم بالشر وأقلامهم بالقذف.»
2
وأخيرا، يتخيل كاتب لم يشأ ذكر اسمه أن السادات قد تولى الرد على هيكل ، فيتحدث بلسانه قائلا: «كرهت لإنسان أن ينزع مثلي من منامه فأوقفت زوار الفجر، ومقت لآمن انتهاك حرمته، فأحرقت أشرطة الأسرار ومنعت التسجيل والتصنت، وتصديت لشريعة الغاب فأغلقت المعتقلات، وآمنت بحق الدفاع عن النفس فأعليت سيادة القانون ... واغفروا لي إن كان قد دفعني بعض الأبناء، إلى ما لا يمكن أن يحبه ويرضاه أب لكل الأبناء.»
3
نماذج ثلاثة لم أخترها لكي أناقش أصحابها أو أرد عليهم، بل لكي يفتح القارئ عينيه، من خلالها، على الانهيار الفكري الذي تولده عهود الانفراد بالسلطة والرأي الواحد، فما هي العيوب الفكرية التي تكشف عنها هذه النماذج؟
أولا:
حين يتحدث النموذج الأول عمن يكتبون بلا وفاء، فإنه يسقط الاعتبارات الأخلاقية الشخصية على التقييم السياسي، وكأن المؤرخ ملزم، من أجل الوفاء للحاكم، إذا كان قد أسدى إليه خدمات معينة، بأن يغمض عينيه عن عيوب هذا الحاكم، ويغش جمهوره عندما يصدر حكما عليه، ثم يزداد الخلط والتشويش (الذي لا أظنه كله متعمدا، بل هو يعبر عن الطريقة التي أصبح يفكر بها الكاتب نفسه) حين يتحدث عن «سمعة الوطن»، واهدار الحرمات، والتشهير بالرجال والنساء، ويصل الضباب الفكري إلى ذروته، عندما يستخدم الكاتب تعبيرات إنشائية، لا مجال لها على الإطلاق في السياق الذي يتناوله، وكل ما تؤدي إليه هو إيجاد جو من التعاطف مع «الضحية»، أو جو من النفور من «المعتدي»، مثل «العدوان على سمعة الذين هم في ذمة التاريخ» أو «تمزيق الأشلاء»، هكذا أصبح للتاريخ «ذمة»، وهذه الذمة تحمي الحاكم من أي نقد، وتجعل من يمس الحكام اللاجئين إليها «ممزقا للأشلاء»!
ثانيا:
أما النموذج الثاني فأمره أغرب، إنه يؤكد ببساطة شديدة أن السادات، حين أعلن عداءه للشيوعية، إنما اتخذ موقف الصدق مع شعبه واستجاب لمطلبه، وهكذا يقرر الطبيب المرموق أن مطلب الشعب المصري ليس المعيشة الآدمية، ولا المواصلات السهلة، ولا المسكن المعقول، ولا الخبز الضروري، وإنما هو العداء للشيوعية. ولا يخجل الكاتب من أن ينسب اللوعة والحزن إلى المصريين جميعا في تلك الجنازة التي شهد الأمريكان أنفسهم بأنها قوبلت من الشعب بعدم اكتراث كامل. وأخيرا، فإن الكاتب ينظر إلى الحاكم على أنه ولي النعم، ويصل به تقديس الفرد، واحتقار الجماهير، إلى حد القول إنه هو الذي يمد يديه بالخير، وهو الذي يفتح أبواب الحرية، وهو الذي يسمح للناس بالتعبير، ويرى هذا كله وضعا طبيعيا يدافع عنه بحرارة، وفي مقابل ذلك فإن المعارضين الجاحدين، لا يردون على هذا الخير الذي يتصدق عليهم الحاكم به إلا بالشر والقذف.
إن مستوى الوعي السياسي هو الذي يهم في الموضوع كله؛ فها هو ذا إنسان لا بد أنه سافر مرارا إلى الخارج، وقرأ ذلك الكم الرهيب من «الشر والقذف» الذي تحتشد به صحف حزب العمال ضد تاتشر أو صحف الديجوليين ضد ميتران، ورأى نماذج لا حصر لها للمعارضة القاسية الضارية، التي تتقبلها الحكومات بكل ترحيب، ومع ذلك فهو لا يقبل لبلده إلا أسوأ نموذج؛ ذلك الذي يكون فيه الحاكم مانحا للحرية، والمعارض الناقد معتديا أثيما.
أنقول إنها عقلية عصر الانفتاح، منعكسة على ضمائر أقطاب العهد؟ أنقول إن الطبيب الكبير يدافع عن عهد، يتيح له أن يتقاضى عن المريض الواحد، في كشف يستغرق دقائق قليلة، مقدار ما يتقاضاه خريج الجامعة الحديث، إذا عين موظفا حكوميا، ليعيش به في شهر كامل؟ لست أدري، وكل ما أعرفه هو أنها محنة فكرية، قبل أن تكون أزمة في الضمائر.
ثالثا وأخيرا:
فإن النموذج الثالث، الذي يقدم إلينا حديثا متخيلا بلسان السادات، يكرر بلا مواربة أفكار النموذج الثاني عن الحاكم من حيث هو «ولي النعم»، ويقدم مجموعة غريبة من الأحكام لا تصدر إلا عن شخص يفترض أن قراءه قد ألغيت عقولهم وحرموا حاسة الفهم، يؤمن بأن قارئه قد نسي تماما، أن عهد السادات كان فيه أيضا زوار للفجر، وأن كثيرا من القضايا السياسية قدمت فيه بناء على شهادة أجهزة تجسس وتنصت، وأن سيادة القانون كانت تخرق حتى على مستوى أعضاء مجلس الشعب، ولكنه يستدرك بعد ذلك، فيستخدم لغة «الآباء والأبناء» في وصف حركة اعتقالات سبتمبر 1981م، ويصور المسألة كما لو كان الأب الحنون، كبير الأسرة الواحدة، قد اضطر متألما إلى أن يكون صارما مع بعض أبنائه من أجل صالحهم.
إن جرأة الإعلام على التزييف والمغالطة، حين تصل إلى هذا الحد، فلا بد أن يكون في الأمر كله خطأ فادح، صحيح أن الإعلام في العالم كله يبالغ، ويخرج عن الحقائق هنا وهناك، غير أن ثمة حدا أدنى من الاحترام لعقول الناس، ولكن هذا الحد الأدنى لا أثر له للأسف، في إعلام عهود الحكم الفردي المطلق، ومن ثم فإن الكاتب يستبيح لنفسه أن يلوي الحقائق كما يشاء، ما دام يؤمن بأن عقول الناس قد ألغيت منذ أمد بعيد.
ومع هذا كله، فإن هناك ما هو أفدح وأخطر، وأعني به الحديث المتكرر عن «نبش القبور»، والسؤال الذي أصبح التفكير السياسي القاصر في هذه الأيام؛ يطرحه كما لو كان قضية بالغة الأهمية، وأعني به: هل ينبغي أن ينقد الحاكم حيا أم ميتا؟
لقد رأينا في النماذج الثلاثة السابقة إشارات متكررة إلى استنكار الهجوم على الحاكم بعد موته، ولكن لا بد أن نقدم نماذج أخرى لهذا الاستنكار، حتى يدرك القارئ مدى انتشار هذا اللون من التفكير؛ فالكاتب موسى صبري، وهو من أكبر الدعاة الساداتيين، يتحدث حديثا طويلا عن «حرمة الموت والموتى»، وعن «نبش القبور» و«انتهاك الحرمات»،
4
ولكن الأخطر من ذلك بيان نقابة الصحفيين في مصر تعقيبا على كتاب هيكل: «إن ما نشر يعد اعتداء على حرمة الموتى وتعرضا لحياتهم الخاصة ومخالفا لتقاليد المجتمع الدينية والأخلاقية.»
ولقد استنكر هيكل - وكان على حق في ذلك - استخدام رهبة الموت وقدسيته، من أجل تبرئة الحكام وإبعادهم عن النقد، فقال: «ومع ذلك فمن المصريين من يطالب بمصادرة حقنا في أن نناقشه، هل من المعقول أن يأتي كل حاكم ويفعل ما يشاء، ثم يذهب فلا نناقشه في حياته، ولا نناقشه بعد مماته؟ أهذا معقول؟»
5
هذا كلام رائع بغير شك؛ فكل من يستنكرون مهاجمة الحكام بعد موتهم إنما يهدفون، في حقيقة الأمر، إلى مصادرة حق الناس في توجيه أي نقد إلى الحاكم، سواء خلال حياته أو بعد مماته؛ ذلك لأنهم هم أنفسهم الذين يشاركون في قمع حريات المعارضين والتنكيل بهم، واتهامهم بالعمالة والخيانة لو انتقدوا الحاكم حيا، وهم الذين يتمسحون بالفضيلة والأخلاق وتقاليد المجتمع والدين لو وجدوا من يهاجم الحاكم ميتا، وهكذا فالنقد أثناء الحياة ممنوع، وبعد الموت عيب وحرام، فهل هذا - كما قال هيكل بالضبط - معقول؟
ولكن المهزلة الكبرى تتمثل في أن هيكل نفسه، الذي يتلفت الآن حواليه ببراءة ويتساءل: أهذا معقول؟ كان هو نفسه من أهم من استخدموا هذه الحجة المتهافتة، وكان من أقوى الناس نقدا لمن يهاجمون الحكام بعد موتهم، وهكذا نجد أنفسنا إزاء «لا معقول» آخر، غير ذلك الذي يمثله خصوم هيكل، هو «لا معقول» هيكل نفسه.
فلنبدأ بتأمل رأي قريب العهد لهيكل. لقد نشرت الصحف في مصر والكويت، الرسالتين المتبادلتين بين توفيق الحكيم وهيكل، فماذا نجد في هاتين الرسالتين بشأن الموضوع الذي نتحدث عنه الآن؟ قال توفيق الحكيم مخاطبا هيكل: «إن حالتي تشبه حالتك؛ فأنت كتبت كتابا «خريف الغضب» اعتبر هجوما ضد السادات بعد موته، وأنا كتبت كتابا هو «عودة الوعي» اعتبر هجوما على عبد الناصر بعد موته.» ولكن هيكل يرفض هذا التشبيه بين الكتابين، ويهمنا في رفضه السبب الثاني الذي قدمه للاختلاف بينهما: «لم أكتب بعد موت أحد، كتبت في حياته رأيي، وكتبت بعد موته نتائج دراستي لما حدث.» وهو يؤكد في موضع آخر أن الحكيم ألف كتابه «بعد ثلاث سنوات من رحيل عبد الناصر»، على حين أنه هو ذاته نقد السادات منذ فبراير 1974م.
علام يدل هذا الحرص على نفي فكرة نقد الحاكم بعد موته؟ على شيء واحد، هو أن هيكل يقف على نفس الأرض التي يقف عليها خصومه، ويفكر بنفس منطقهم، ويتبنى نفس قيمهم؛ فالمعنى الضمني لديه هو أن نقد الحاكم بعد موته جبن، أو عمل غير أخلاقي، ومن هنا كان حرصه على تأكيد أنه نقد السادات حيا، ولم ينتظر ثلاث سنوات كما فعل توفيق الحكيم، وكل ما فعله بعد موت السادات هو أنه «كتب نتائج دراسته لما حدث».
ولكن، لنترك المعاني المفهومة ضمنا وننتقل إلى الكلام الصريح، فقد نشر هيكل مقالا بجريدة «الوطن» الكويتية
6
بعنوان: «ما أكثر الشجاعة هذه الأيام على الغائبين!» وهو في ذاته عنوان بالغ الدلالة، يتهم فيه هيكل من ينقدون الأموات بالجبن؛ لأنهم لم يمارسوا «شجاعتهم» إلا على الغائبين، في هذا المقال يروي لنا هيكل قصة عتابه لعبد الناصر على قيامه باعتقال شخصية من الشخصيات المرتبطة بصحيفة «الأهرام»، ثم يعلق قائلا: «لا أسمح لنفسي أن أقص عليك ما قلته له، ذلك الآن تجاوز لا يليق، لو كان حيا واقتضت الظروف أن أروي الحديث كله لرويته، ولكنه لم يعد بيننا؛ ولهذا لا أستبيح لنفسي أن أدعي الشجاعة على غائب، ما أكثر الشجاعة هذه الأيام على الغائبين! الفئران كلها تعربد في غياب القطط، ولم يكن جمال عبد الناصر قطا، وإنما كان أسدا مهيبا وشامخا.»
وهكذا يصف هيكل توجيه النقد للحكام بعد موتهم بأنه عربدة فئران في غياب القطط، ولا يدري أنه بعد أعوام قلائل من حديثه ذاك، سيجد بدوره من يشبهه بنفس التشبيه، بعد أن مارس هو أيضا شجاعته على حاكم غائب، والمفارقة الساخرة أن قائل هذا الكلام هو نفسه الذي يهتف في أيامنا هذه باستنكار: هل من المعقول أن يفعل الحاكم ما يشاء فلا نناقشه في حياته، ولا نناقشه بعد مماته؟
وهكذا فإنه، عندما كان الأمر متعلقا بنقد تصرفات لعبد الناصر، وجد هيكل في مهاجمة الأموات جبنا، وعندما أصبح متعلقا بالهجوم على السادات، استنكر عدم مناقشة الحاكم بعد مماته (ولاحظ أنه استخدم في هذه الحالة الأخيرة عبارة «كل حاكم» أي أنه كان يصدر حكما منطبقا على جميع الحالات)، هذا التناقض يدل على أن هيكل وخصومه يقفون جميعا على أرض واحدة، ويؤمنون بمجموعة واحدة من الأفكار الباطلة، التي ترتكز على نزعة أخلاقية زائفة تخاطب عواطف الناس لا عقولهم، وتخلط بين الموت من حيث هو كارثة إنسانية شخصية، وبين التقييم السياسي من حيث هو ممارسة لا صلة لها بالموتى أو الأحياء.
إن الجميع في الوهم والضحالة الفكرية سواء، والكل نشئوا في مناخ سياسي لا يسمح بالموضوعية ولا يترك مجالا للنقاش المنطقي المجرد عن الأهواء، فالساداتيون يقولون: لقد نبشتم قبر السادات، وهنا يرد الناصري: وأين كنتم عندما نبش قبر عبد الناصر؟ أنتم فئران! ولكنه حين ينبش هو نفسه قبر السادات، ويهاجمه خصومه لهذا السبب، يتساءل في براءة: هل من المعقول أن يمنعونا عن نقد «كل حاكم» حيا أو ميتا؟
إنها أرجوحة شيطانية، يتراقص فيها الجميع سكارى بخمر الأفكار الزائفة والقيم المضللة، ويثبتون بها، على نحو قاطع، طفولية الفكر السياسي بين جميع أطراف اللعبة بعد ثلاثين عاما من ثورة، أعلنت أن هدفها تحرير الفكر وتصحيح مسار القيم.
تظل هناك، بعد ذلك، نقطة واحدة يمكن أن يلجأ إليها هيكل في دفاعه، وهي أن نقده للسادات بدأ أثناء حياته، هذا صحيح، ولكن ليقل لي الأستاذ هيكل «بصراحة»: لو كان السادات لا يزال حيا، أكان يستطيع أن يتكلم عن «ست البرين» وعن «المجعراتي المتسول» وكأس الفودكا الذي يؤخذ بعد كل غداء؟ ليجب بصراحة أيضا عن هذا السؤال: ما دام هو نفسه صاحب منطق القطط والفئران، فأين يضع نفسه، في هذه النقطة بالذات، بين هاتين الفئتين؟
إن المسألة كلها خلط مركب، فالكلام عن الأحياء والأموات، والتفرقة بينهم في النقد، أمر لا معنى له في ظل أي وعي سياسي سليم، ومبدأ «اذكروا محاسن موتاكم» ينطبق على الأقارب أو الجيران أو الشركاء، ولكنه خارج عن مجال الكتابة التاريخية والسياسية، ولو صح هذا المبدأ في تلك الميادين الأخيرة، لما استطعنا كتابة التاريخ، ولكان الموت هو شهادة البراءة لكل حاكم ظالم أو فاسق أو طاغية، ولأصبح كل مؤرخ، بحكم مهنته ذاتها، نباشا للقبور، ولكن الناس الذين اعتادوا على مدى سنوات طويلة، أن يحصروا تفكيرهم في شخص الحاكم، والذين عجزوا عن أن يتصوروا أية حقيقة تتجاوزه، هم الذين يصبغون السياسة بهذه الصبغة الشخصية، ويحكمون على تصرفات الحكام مثلما يحكمون على سلوك «كبار العائلة»، وينسون المسئوليات الخاصة «لرجل الدولة »، التي تحتم علينا أن نحاسبه على كل شيء ، وفي أي وقت نشاء.
هذا الذي قلناه على الموضوع كله، من حيث المبدأ، وفي ظل أي نظام، حتى النظام الديمقراطي، أما النظام الدكتاتوري - الذي تدور في ظله كل مناقشات هيكل وخصومه - ففيه يصبح الموقف أوضح، فالنظام الدكتاتوري لا يسمح بمناقشة الحاكم «إلا» بعد وفاته، وما دام النظام الدكتاتوري تحكمه أسود مهيبة وشامخة، فمن الطبيعي أن يكون على الطرف الآخر، فئران - وإلا فعلى أي شيء يستأسد الأسود؟
إن الناقد الذي يهاجم أي حاكم فردي مطلق بعد مماته، إنما يتصرف تصرفا طبيعيا لا مفر منه، لو قيل له: إنك خائف، لكان رده: نعم، إنني لم أتكلم إلا الآن؛ لأنني كنت خائفا، ولي كل الحق في أن أخاف، وحتى لو ادعى هيكل الشجاعة فأكد أنه انتقد السادات في حياته، فإن هذه ليست قاعدة يمكن أن تسري على الجميع، فهيكل قد استطاع أن يختلف مع السادات في سنواته الأخيرة؛ لأنه هيكل، بكل ما يحمله من نفوذ وما لديه من اتصالات عالمية، وما يحتفظ به من أسرار تبعث الرعب في قلوب أقوى الأقوياء - وهذه كلها إمكانات لا تتوافر لأي كاتب آخر، حتى لو كان في منزلة توفيق الحكيم، ومع كل ذلك فإن هيكل عندما هاجم الحاكم الفرد في حياته لم يكن يمسه إلا مسا رقيقا، واضطر - بكل سلطته ونفوذه وإمكاناته - أن ينتظر حتى يموت لكي يغوص في الأعماق.
إن القضية كلها - أعني الكتابة عن الحكام أحياء أم أمواتا - هي في رأينا قضية ما كان ينبغي أن تثار، وليس الاهتمام المفرط الذي أبداه أطراف النزاع بها إلا دليلا على قصور شديد في الوعي السياسي لدى الجميع، والمسألة ببساطة استغلال لعاطفية الجماهير واستغفال لعقولها من أجل الحيلولة دون نقد الحاكم حين لا يعود الناس خائفين، بعد أن كان نقده ممنوعا عندما كانوا خائفين، والخطأ الحقيقي الذي ارتكبه هيكل، لا يكمن في أنه انتظر حتى يموت السادات ثم فجر قنابل المعلومات على قبره؛ إذ إن الدكتاتور لا يمكن نقده إلا بهذه الطريقة، وإنما يكمن خطأ هيكل في أنه لم يكن يدرك هذه الحقيقة طوال الوقت، بل عاش الجانب الأكبر من حياته واقعا في وهم «القطط والفئران» والشجاعة على الحاضرين والجبن على الغائبين.
الفصل الرابع
ظروف العائلة أم اختيار مقصود؟
تظل ردود الفعل على كتاب هيكل مصدرا مفيدا غاية الفائدة؛ لتحليل أساليب التفكير المشوهة، التي أصبحت سائدة في عالمنا العربي بعد سنوات طويلة من القمع، وتتعمق دلالة هذا التشويه حين ندرك أن الكاتب الذي أثار ردود الفعل هذه، لم يسلم هو ذاته، في كثير من الأحيان، من الوقوع في أخطاء نقاده نفسها، بحيث يشعر المرء بأن المسألة في حقيقتها لا ينبغي أن تناقش على مستوى أطراف النزاع، ولا ينبغي أن تنحصر في البحث عن المصيب والمخطئ بين هذه الأطراف، وإنما المشكلة الحقيقية تكمن في ذلك الجو الفكري المزيف الذي طغى تأثيره على الجميع ولم يسلم منه أي طرف.
كان هيكل، بغير شك، مبالغا في حديثه عن العوامل الفردية والعائلية التي تحكمت في نشأة أنور السادات، وصبغت شخصيته فيما بعد بصبغتها المميزة، صحيح أنه، حين يكون الحكم فرديا مطلقا، تلعب شخصية الحاكم وأهواؤه، وربما نزواته، دورا لا يستهان به، يمكن أن ينعكس حتى على قراراته المصيرية، ولكن المشكلة هي أن العوامل الشخصية تقبل أشد التفسيرات تنوعا: فالابن الذي يضطهده أبوه أو يسيء معاملته، مثلا، يمكن أن يتحول إلى إنسان منحرف يضطهد الآخرين عندما يكبر، ويكون انحرافه هذا رد فعل على نشأته الأولى، ولكنه يمكن أيضا أن يكون إنسانا حنونا عطوفا على الآخرين، لا يريد لهم نفس المحنة التي مر هو ذاته بها، ويكون هذا أيضا رد فعل على نشأته الأولى. وهكذا فإن الحديث عن العقد النفسية للطفولة، وتأثيرها في الإنسان البالغ، هو دائما حديث محفوف بالمخاطر، يقبل أشد التأويلات تناقضا.
خذ مثلا فكرة الأصل المتواضع، والحياة الصعبة التي كانت تحياها أسرة السادات، هذا شيء يقبل تفسيرات شديدة التنوع، فكم من زعيم أسدى لشعبه أعظم الخدمات، وكان أصله المتواضع هو الحافز له على أن يفني حياته من أجل الشعب الذي يشعر دائما بانتمائه إليه! وإذا كان السادات قد أغرق نفسه في البذخ، بصورة مبتذلة، في حياته المتأخرة، فإن هذا اختيار واع من جانبه، وانتماء وانحياز منه إلى طبقة محددة، وليس مجرد عقدة نفسية عبرت عن نفسها بصورة عكسية، فلماذا لم تؤد عقدة الفقر بهوشي منه أو لومومبا مثلا إلى اختيار حياة القصور والاستراحات؟ ألم يكن جمال عبد الناصر نفسه فقيرا؟
1
بل إن مثل هذا التفسير يمكن أن يستخدم ضد هيكل نفسه، وقد أشار موسى صبري بوضوح مقزز إلى أصول هيكل العائلية ولمح إلى ما يسميه: خوفه من إظهار أبيه في الأماكن العامة، بل إن كاتبا قدم عملا روائيا ومسرحيا مشهورا، تضمن إشارات مماثلة تتعلق بشخصية من شخصيات الرواية، رأى كثير من النقاد أنها ربما كانت تعبيرا عن شخصية هيكل نفسه.
2
هذه أمثلة لا أذكرها إلى لكي أنقدها، وأبين أنها مبنية على فهم باطل من أساسه، لعملية تفسير مسلك رجل الدولة، ومع ذلك فقد تورط هيكل فيها، خلال فصوله الأولى، أكثر مما ينبغي، ولا شك أن نوعية الجمهور الذي وجه إليه الكتاب أصلا، وهو الجمهور الأمريكي، كانت مسئولة إلى حد بعيد عن هذا التورط، فالأمريكيون مصابون بهوس العقد النفسية والتفسيرات السيكولوجية الرخيصة، وهم ينفقون على العلاج النفسي ما يغطي ميزانيات عدة دول من العالم الثالث، دون أن يجنوا من ذلك إلا مزيدا من السلوك غير السوي. وهكذا خاطب هيكل جمهوره الأمريكي باللغة التي تروق له، ولكنها للأسف لغة لا تفسر شيئا، بل تزيد الأمور تعقيدا.
خذ مثلا مشكلة اللون، لقد كان هيكل - للإنصاف - واضحا في هذه المسألة، فأكد أن السادات كان معقدا من لونه «بلا داع»، وفي كل مرة كان يكرر أنه لم يكن هناك ما يدعو إلى هذا التعقيد اللوني، ولكن مجرد الإشارة إلى اللون كانت كفيلة بإثارة ردود فعل غاضبة لدى كثير من الناس، وكان من أطرف ردود الفعل هذه، ما كتبه مستشار سوداني احتج بشدة على ما ذكره هيكل عن عقدة اللون عند السادات، الذي يحبه المصريون ويفخرون به ، وذاهبا إلى أن هذه إساءة إلى الشعب السوداني تعرقل مسيرة التكامل بين البلدين «في ظل قيادة الرئيس نميري»، ورأى المستشار فيما قاله هيكل تفرقة عنصرية، ومؤامرة مشتركة مع القذافي لعرقلة التكامل بين الشعبين، ولم ينس المستشار أن يشير إلى أسماء عدد من الشخصيات المصرية المشهورة التي كانت من أب سوداني أو أم سودانية، كمحمد نجيب، وعبد الله النجومي، وعلي عبد اللطيف، ولم يمنعهم ذلك من دخول التاريخ،
3
هذا رد فعل مبالغ فيه بغير شك، وربما كان طائشا، نتج عن فهم قاصر لإشارة هيكل إلى لون السادات، ولكن الموضوع بأكمله ما كان ينبغي أن يثار؛ لأن أخطاء الحكام، وخاصة حين تكون فادحة، أعقد من أن تفسر بمثل هذه العوامل.
ولكن لنتوقف وقفة أطول عند صفة أخرى أكدها هيكل بإلحاح، وأثارت ضده موجة من ردود الفعل العنيفة، وأعني بها نشأة السادات الفقيرة، التي أدت - وفقا لتفسيرات هيكل النفسية - إلى رد فعل في الاتجاه العكسي لدى السادات عندما أتيحت له فرص الإثراء، ولما كان هدفنا الدائم هو التوصل إلى أنماط الفكر التي أصبحت سائدة في أيامنا هذه، والتي تشهد على الانهيار العقلي المميز لعهود القهر والكبت، فسوف نبدأ بضرب أمثلة لردود الفعل التي لا يكاد يتصورها العقل، على ما قاله هيكل عن فقر السادات في حداثته: فالكاتب الذي اقتبسنا عنه من قبل، والذي تحدث بلسان السادات، ردا على هيكل، دون أن يذكر اسمه، يقول: «صدقوا فيما يقولون، نشأتي عقدتني، ذقت الفقر وقسوته فحاولت أن أجنب غيري تذوق مرارته، تملكتني عقدة الرخاء، وكانت أغلى أماني أن يوفقني الله إلى حماية من عنده لكل مصري ومصرية من مواجهة لا ترحم مع شيخوخة أو عجز أو عوز، وأن يقدرني على طلب الطعام من الصحاري لكل فم، وحق العلاج والدواء لكل عليل، وتوفير البيت لكل عروس، ويشهد الله والشعب الوفي الذي لا ينسى، أنني سعيت وحاولت قدر طاقتي.»
ويستنكر زعيم يمني سابق على هيكل أنه يعير السادات بفقره، فيذكر القراء بأن الله قد اختار أنبياءه من الفقراء ، وقال لرسوله:
فأما اليتيم فلا تقهر * وأما السائل فلا تنهر * وأما بنعمة ربك فحدث ، ثم يعلق الزعيم السابق المشهور قائلا: «ولم نسمع أن السادات قهر يتيما، ولا نهر سائلا، وكان بنعمة ربه يحدث.»
4
والنموذج الثالث شهادة سريعة لموسى صبري، يكرر فيها قصة عن السادات الذي أصر على أن يقرأ بنفسه شكوى رجل فقير بعد أن حاول سكرتيره الخاص أن يعالج الموضوع دون تدخل من الرئيس، ثم قال السادات لهذا السكرتير: «أنت يا فوزي لم تعان الفقر كما عانيته.»
5
هذه الأمثلة تكفي للدلالة على التدهور الخلقي والفكري، الذي يمكن أن يصل إليه الإعلام في ظل القمع، فكاتب العبارة الأولى، على سبيل المثال، لا يخجل من الحديث عن رحمة الرئيس بالفقراء، ويتوهم أن الوعي لدى الجماهير قد انعدم إلى حد نسيان مجموعة المليونيرات التي أحاطت بالرئيس السابق وصاهرته، وتلك التي أعطيت لها كل الفرص لنهب أموال الشعب في ظل الانفتاح، ولا يتورع الكاتب عن الحديث عن شقة لكل عروس، في الوقت الذي تشهد به تجربة الناس اليومية، أن أسعار المساكن الخيالية، وصلت إلى أرقام، لم تعد تقدر عليها إلا عروس واحدة بين كل ألف عروس، وهو لا يستحي من الحديث عن الطعام لكل فم وسط الغلاء الطاحن، ولا عن الدواء لكل مريض وسط الإهمال الكاسح لعلاج الشعب، والارتفاع الصاروخي لأسعار العلاج الخاص! فماذا يمكن أن يقول العقل والمنطق، حين تصل الصفاقة بالإعلام إلى هذا الحد؟
إن من العبث أن يسترسل المرء في مناقشة هذه الشهادات الفجة، التي لا ترتكز إلا على مغالطات مفضوحة، وما استشهدنا بها ها هنا، إلا لكي نقدم نماذج للمستوى، الذي أصبحت تناقش به أمور المجتمع المصيرية في الوقت الراهن، ولكن الأهم من ذلك هو أن نتساءل: هل يكفي التعليل الذي قدمه هيكل، والذي يرتكز على فكرة عقدة الفقر؛ لكي يفسر البذخ المفرط الذي تميزت به حياة السادات، وحياة المحيطين به من أقارب وأصحاب؟ إن عقدة الفقر، كما قلنا، يمكن أن تتجه اتجاها عكسيا، فتولد لدى الحاكم تعاطفا حقيقيا مع الفقراء، وسعيا جادا إلى استئصال الأسباب المؤدية إليه، فلماذا إذن كان الاتجاه، في حالة السادات، إلى التمتع المفرط بنعم الحياة، والاندماج التام بأكبر أثرياء المجتمع؟
في رأيي أن المسألة اختيار واع ومقصود لنمط معين من أنماط الحياة، ولفئة معينة في المجتمع هي الأقدر على إشباع احتياجات نمط الحياة المطلوب، فالتفسير هنا اجتماعي واقتصادي قبل أن يكون نفسيا.
والدليل على صحة الرأي الذي نقدمه هو أن السادات حارب فكرة الفقر ذاتها، بطريقة متعمدة، أملا في إلغائها من القاموس، وبذل جهودا واعية لإقامة «فلسفة» خاصة به، لا مكان فيها لمفهوم الفقر، وبذلك تكتمل عملية تغييب الوعي لدى الجماهير التي تشعر بوطأة الفقر في حياتها اليومية حتى لو لم تفهم الأسباب الحقيقية المؤدية إليه، ففي معظم خطب السادات وأحاديثه كانت هناك دعوة متكررة إلى إلغاء الحقد، والاستعاضة عنه بالحب والتآلف والانسجام في ظل مجمع «الأسرة الواحدة»، الذي يرعاه ويسهر عليه «كبير العائلة». والحقد هنا ليس إلا تطلع الفقراء إلى نمط حياة الأغنياء، وإلغاء الإحساس بالفوارق الصارخة بين الطبقات، بدلا من أن تقوم على إلغاء هذه الفوارق ذاتها، ولا جدال في أن الإلحاح على الناس ليل نهار؛ كي يتخلوا عن الحقد ويحبوا بعضهم بعضا، في إطار مجتمع يسوده كل هذا القدر من التفاوت في الثروات وفي كافة فرص الحياة، إنما هو محاولة واعية لتزييف عقول الناس، بحيث تنسى واقعها الأليم ذاته، وليس على الإطلاق مجرد رد فعل نفسي من جانب الحاكم على نشأته الفقيرة.
ولعل الدليل الأوضح من هذا كله هو موقف السادات من أحداث يناير 1977م، فهذه الأحداث «ثورة فقراء» بمعنى الكلمة، والأمر اللافت للنظر حتما، في موقف السادات إزاءها، ليس أسلوب القمع العنيف الذي اتبعه لإخمادها، فهذا هو المسلك المنتظر من أي حاكم في مثل موقفه، ولكن ما ينفرد به السادات هو أنه حاول أن يلغي طبيعة الحدث ذاته، ويحذف منه عنصره الأساسي؛ عنصر الفقر، حذفا كاملا، وهكذا ظل السادات شهورا طويلة، بعد يناير، يوجه إلى كل من يناقشه أو يحاوره سؤالا لا يتغير: انتفاضة شعبية أم انتفاضة حرامية؟ وتبعا للإجابة عن هذا السؤال يتحدد موقف كل شخص، إن كان مع السلطة أو ضدها، من أنصار الانفتاح أو خصومه، من الطبقة العليا الجديدة أم من الطبقات الدنيا، كان إطلاق اسم «الحرامية» على تلك الملايين التي خرجت في مظاهرات تلقائية عارمة ضد رفع الأسعار، هو في ذاته اختيارا طبقيا لا تخطئه أي عين، وبغض النظر عن أن وجود كل هذا العدد الهائل من «الحرامية» (لو صحت التسمية) هو في ذاته دليل على أن هناك خللا أساسيا في المجتمع، فإن الشيء الذي ينطوي على دلالة عميقة هو أن الاختلاف حول الاسم كان يعكس محاولة من الحاكم لإنكار وجود الفقر في المجتمع أصلا، فالمتظاهرون لم يخرجوا لأنهم فقراء، بل لأنهم «حرامية». هذه قمة التوحد مع الطبقة الثرية التي أصبحت تحكم مصر وتنهب مواردها، ذلك التوحد الذي يصل إلى حد إلغاء كلمة الفقر من القاموس، وكأن حذف لفظ معين وإحلال لفظ آخر محله سوف يستأصل الظاهرة نفسها من جذورها!
كانت تلك، بطبيعة الحال، واحدة من الحالات التي يقوم فيها اختيار لكلمة مخففة بالتغطية على حقيقة أليمة مريرة، تلك الحالات التي تكتشف فيها أجهزة الإعلام سحر «الكلمة»، فتتلاعب بها وهي واثقة من أن الكلمة المزيفة، إذا ما تكرر استخدامها إلى الحد الكافي، تستطيع أن تغير طبيعة الظاهرة التي نتحدث عنها وتشكلها بالطريقة التي تحقق أهداف الحاكم - ويدخل في هذا الإطار استخدام أجهزة الإعلام المتكرر للفظ «النكسة» بدلا من الهزيمة الثقيلة في يونيو 1967م، وحديثها الدائم عن «سيادة القانون»، بمعنى وضع قوانين مزيفة توافق عليها الأغلبية الآلية في المجالس النيابية ثم ضمان «السيادة» لها، واستخدامها تعبير «تحريك الأسعار» بدلا من الغلاء الفاحش، وهلم جرا.
على أن الأمر اللافت للنظر هو ذلك الافتقار العجيب إلى سياسة محددة المعالم، قابلة للتنفيذ، لمواجهة ظاهرة الفقر في مصر، فبدلا من التصدي للظاهرة بأساليب مخططة ومدروسة، كان الحاكم يتحدث في كل مناسبة، عن أمنيته الغالية، وهي أن يكون لكل مصري «فيلا وسيارة» خاصة به ، ومثل هذا الحديث ليس مجرد تخدير لحواس الناس وعقولهم فحسب، بل هو أيضا دليل على أن فكرة المواجهة العلمية للمشكلات غير موجودة في ذهنه أصلا؛ ذلك لأن بلدا كمصر لا يحتمل ببساطة، أن يكون لكل مواطن فيه «فيلا وسيارة»، حتى لو كان نظام الحكم فيه وطنيا مخلصا بلا أي شائبة، والنظرة العلمية إلى مشكلة كهذه، هي التي تحدد الأهداف وفقا للإمكانات الموجودة، وتكتفي بالحد الأدنى للمعيشة الآدمية، بدلا من أن تغرق الناس في أوهام يستحيل تحقيقها، ومن المؤكد أن المفارقة لا بد أن تكون قاسية بين حلم «الفيلا والسيارة»، حين يشيعه بين الناس أكبر مسئول في الدولة، وبين الأسعار الفلكية للمساكن الجديدة، ووسائل المواصلات اللاإنسانية التي لا تملك الأغلبية الصامتة غيرها، وفي مثل هذه الحالات، يكون التقدير الواقعي للأهداف أقدر بكثير على تهدئة مشاعر الناس، وبعث الأمل في نفوسهم من أي تعبير تخديري حالم.
المهم في الأمر أن المحاولات الواعية المتعمدة للتغطية على حقيقة الفقر الصارخة، ولتعليل الناس بآمال زائفة، لا يمكن أن تكون مجرد تعبير عن «عقدة فقر» متأصلة منذ النشأة الأولى، وإنما هي تعبير عن اختيار وانحياز إلى جانب القلة المستغلة، ضد الأكثرية المطحونة من وطأة الاستغلال، إنها فلسفة متكاملة، دبرت وخططت بعناية وبخطط مرسومة، وليست مجرد رد فعل سيكولوجي على ظروف الفقر التي سادت خلال فترة النشأة الأولى، ومن هنا يبدو أن الخطأ الذي ارتكبه هيكل في هذا الجزء، لا يقل فداحة عن ذلك الذي ارتكبه خصومه ممن تحمسوا للدفاع عن السادات، سواء منهم ذلك الذي أكد أن فقر السادات جعله يسعى حثيثا لاستئصال كل مظاهر الفقر في بلاده، أو ذلك الذي ذرف دموع التماسيح وهو يتحدث عن معاناة رئيسه من الفقر في حداثته، أو ذلك الذي شهد - بكل أمانة وإخلاص - بأن السادات لم يقهر يتيما، ولم ينهر سائلا، وكان بنعمة ربه يحدث!
إن الاهتمام الزائد بعوامل التنشئة والتربية والبيئة الأولى، في حياة السياسيين، يمكن أن يؤدي إلى عكس الهدف المقصود منه، ففي حالة السادات كان من الممكن - كما قلنا من قبل - أن تفسر نشأته المتواضعة على نحو يؤكد تعاطفه مع الفقراء، كما فعلت أجهزة الإعلام المؤيدة له بالفعل، ولو قيل إن النشأة المتواضعة، وليس الاختيار الأصيل، هي التي أدت به إلى ارتكاب أخطائه، فإن مثل هذا التعليل يعني التماس شيء من العذر للحاكم؛ لأنه سيكون عندئذ «ضحية» ظروفه العائلية القاسية، وربما اقتنع البعض بأنه لم يكن يملك أن يفعل إلا ما فعل، وهذا كله هروب من المسئولية الحقيقية؛ مسئولية الاختيار الواعي، المخطط، المرسوم، الذي تخلى فيه السادات عن طبقته الأصلية، وانحاز بكل قوة إلى صف أصحاب الملايين الجدد.
ومع ذلك فإن هيكل يبرز هذا العامل إلى حد تصوير المسألة، كما لو كانت مسألة إنسان مصاب بمجموعة من العقد النفسية، التي لم يكن يستطيع التخلص من تأثيرها طوال حياته، وإذا قال البعض، دفاعا عن هيكل، إنه لم يفعل ذلك إلا في الفصول الأولى، بينما خصص الفصول التالية للعوامل الاجتماعية والاقتصادية والفكرية الموضوعية، فإن هيكل نفسه يعود فيؤكد التهمة الموجهة إليه حين يقول في الصفحات الأخيرة من كتابه، بعد أن عرض ملحمته الطويلة عن السادات، وأراد أن يلخص في النهاية ما انتهى إليه من نتائج: «يمكن الآن بأثر رجعي أن يقال إن غلطة السادات الكبرى، تمثلت في تضحيته بالأهداف الاستراتيجية لمصر، من أجل مناورات تكتيكية كان مشكوكا منذ البداية في قيمتها، ويمكن أن يقال - وبحق - إن حرب أكتوبر كانت فرصته الكبرى، بل كانت فرصة لم تتح لحاكم مصري قبله في تاريخ مصر الحديث، بما في ذلك محمد علي وجمال عبد الناصر، ولكنه ألقى بكل شيء في الهواء، وربما كانت المسئولية تقع على نوع الحياة التي عاشها، أو ربما كانت تقع على نقص حصيلته من التعليم والعلم، وكلها عوامل تجعل من الظلم إصدار حكم قاطع عليه.»
هنا، وفي نهاية الكتاب، يعمد هيكل إلى استخدام التعليلات الشخصية، مثل نوع الحياة التي عاشها الحاكم، أو نقص تعليمه؛ لكي يفسر بها أخطر الأحداث، وكأن السادات لو كان أكثر علما لتغيرت سياساته جميعا ، أما المصالح والانتماءات والارتباطات، فلا مكان لها في تعليلات هيكل، فظروف الحاكم، من حيث هو فرد معين نشأ في أوضاع معينة، هي التي تفسر كل شيء، وإن المرء ليعجب كيف يقبل مفكر ومحلل كبير، كان أقرب المقربين إلى حكام أكبر بلد عربي خلال ربع قرن من الزمان على الأقل، أن يقدم مثل هذا التعليل الجزئي الضيق لأحداث سياسية كبرى، ويتجاهل عوامل سياسية مثل اختيار الحاكم أن ينتمي إلى الشريحة العليا للمجتمع ويربط مصيره بها، ومثل اتباعه أسلوبا للحكم غير مستند إلى إرادة شعبية تعبر عن نفسها تعبيرا حرا سليما، فهل يكون من المستغرب بعد ذلك، أن تكون النتيجة التي يصل إليها تحليله، هي أن «من الظلم إصدار حكم قاطع عليه»؟
وكل ما أستطيع أن أقوله من تفسير لهذا القصور الشديد في التحليل، هو أن من اعتادوا الاقتراب الشديد من حكام أفراد بعيدين عن الديمقراطية، ومن ألفوا رؤية أخطر القرارات تصدر بإرادة فردية مطلقة، لن يستطيعوا أن يخرجوا في تعليلاتهم وتفسيراتهم عن إطار الظروف الشخصية لأصحاب السلطان. •••
إن المناقشة الطويلة التي قمنا بها، على مدى هذا الفصل والفصول السابقة، لردود الفعل على ما كتبه هيكل، إنما كانت تستهدف قبل كل شيء، إظهار عناصر الضعف والتفكك في الجو الفكري الذي عاش في ظله هيكل وخصومه معا، فالجميع يقعون في أخطاء متشابهة، وإن كانت هذه الأخطاء مكشوفة مفضوحة في بعض الحالات، وغير ظاهرة للعيان في حالات أخرى.
وأبرز هذه الأخطاء هو الخلط بين العوامل الشخصية والعوامل الموضوعية في تحليل الظواهر السياسية، وإصدار الأحكام على تصرفات رجال الدولة، هذا الخطأ واضح كالشمس في استنكار الساداتيين لعدم الوفاء وانتهاك الحرمات ونبش القبور، ولكنه ظاهر أيضا في تأكيدات هيكل، في مواضع كثيرة من كتاباته، بأن نقد الحكام بعد موتهم ليس من الشجاعة في شيء، إن المنهج الفكري واحد، وإن كان يطبق في حالة هيكل - كما يحدث دائما - بطريقة أكثر ذكاء وخفاء.
ومن شأن اتباع هذا المنهج أن يبدو الصراع حول المسائل السياسية الكبرى، كما لو كان ثأرا بين أشخاص، وهكذا يقول البعض، تأييدا لموقف هيكل ضد مهاجميه: أين كنتم عندما كان عبد الناصر يشتم؟ فيرد البعض الآخر ممن ينقد حملة هيكل على السادات: ولماذا هاجمت دكتاتورية السادات وسكت عن دكتاتورية عبد الناصر؟ ويظل كل من الطرفين حريصا، قبل كل شيء، على ألا يوجه اللوم إلى الرئيس الذي يدافع عنه ويترك الآخر، أما القضية الأصلية، وهي أن حق النقد ينبغي أن يكون مباحا للجميع، وفي عهود كل الحكام، سواء في حياتهم أو بعد مماتهم، فلم يدافع عنها أحد.
وحين تثور العواصف ضد هيكل من صحفيين كانوا زملاء له، ثم اندمجوا في العهد الساداتي، يعلق على ذلك بأسف قائلا: «ليس بينهم من لم أقف معه في أحلك الظروف ولم أفعل كل ما في وسعي لمساعدته، ولولا أنني لا أريد أن أمن على أحد، لذكرتهم لك واحدا واحدا وبالاسم، ورويت ما قدمته لهم.»
6
إنه هنا يلخص الموقف كله: فهو يتصور أنه بمثل هذه الإشارات إلى الخدمات الشخصية التي أسداها يرد على نقاده، وينسى أن القضايا المثارة أخطر بكثير من منطق الخدمات والمساعدات الفردية، ويثبت أنه لا يختلف عن مهاجميه ممن خضعوا لمنطق الحكم المطلق، وعجزوا عن تفسير الظواهر العامة إلا من خلال سلوك الأفراد.
الفصل الخامس
التاريخ والحقيقة الضائعة
من سمات عهود القمع الفكري وكبت الرأي المعارض، أنها تنشئ أجيالا لا تعرف التاريخ إلا في صورة مشوهة، فحين تكون وجهات النظر المتباينة متاحة يستطيع العقل الناضج أن يكون صورة صحيحة عن أحداث التاريخ وتياراته، ويصدر أحكاما سليمة على السياسات التي تحكمت في صياغته، أما حين يسري الحظر الكامل على وجهات النظر التي تخالف موقف السلطة الحاكمة، فكيف نتوقع من أي جيل لم يتعرض إلا لوجهة النظر هذه، أن يفهم أحداث التاريخ ويصدر حكما صحيحا عليها؟
وأستطيع أن أقول إن الأجيال التي تقل أعمارها عن خمسة وأربعين عاما، وهي بالطبع تشكل الأغلبية في العالم العربي المعاصر، لا تعرف عن تاريخ ما قبل ثورة 1952م سوى معلومات غير موضوعية وغير منصفة، هذا بالطبع لا يمنع من أن يكون ثمة أفراد هنا وهناك، بذلوا جهودا مضنية في القراءة والاطلاع والبحث عن الحقائق من مصادرها الأصلية، بحيث لا يسري عليهم هذا الحكم، ولكن مثل هذه الجهود لا تتاح إلا للقلة القليلة، بحيث يمكن القول إن الجيل بوجه عام لم يعد يعرف ذلك التاريخ، إلا من خلال وجهة نظر معادية له، ومن ثم فقد حرصت كل الحرص على تشويهه.
كانت تجربة مصر مع الديمقراطية تجربة فريدة بحق، فمنذ القرن التاسع عشر كانت هناك مجالس نيابية، حاول حكام مصر في ذلك الحين، وهم أتراك أو أنصاف أتراك، أن يستغلوها لحسابهم، وجندوا بالفعل عددا من الأعوان والأذناب، ولكن كان هناك دائما من يتصدون للقهر والطغيان، وشهدت هذه المجالس مواقف مجيدة، كان نواب الشعب فيها يدافعون عن الدستور ضد سلطة الحاكم، ويؤكدون سيادة الشعب ويحمون حقوقه، كانت تجربة ديمقراطية مبكرة، سبقت نظيراتها في كثير من البلاد الأوروبية، وكانت شهادة بالغة الدلالة على أن الشعب يستطيع أن يجني من الديمقراطية مكاسب هامة، مهما كانت قوة التيارات التي تقف في وجه تطوره.
ولقد كانت هذه التيارات قوية بغير شك، فقد كان هناك القصر (الخديوي في البدء، ثم الملوك بعد ذلك)، وكان هناك الإنجليز، وكان هناك أعوان يستطيع الحكام شراءهم بالوعود والمصالح، ولم يكن الطريق بالتالي سهلا على الإطلاق، ومع ذلك فقد كان الشعب يؤكد حقوقه ويدافع عن حرياته في كل فرصة تتاح له.
وحين قامت ثورة 1919م في مصر، لم تكن الثورة التي عمت البلاد من أقصاها إلى أقصاها، والتي شاركت فيها الطبقات الدنيا والوسطى وكثير من شرائح الطبقة العليا، ولم تعرف تفرقة بين مسلم وقبطي في الكفاح من أجل الوطن؛ لم تكن هذه الثورة كفاحا ضد الأجنبي المحتل فحسب، بل كانت في الوقت ذاته جهادا من أجل تأكيد الديمقراطية والحقوق الدستورية للشعب، وكان من أبرز مظاهر النضج السياسي في ذلك الحين، وجود وعي كامل بأن الكفاح من أجل الاستقلال، والكفاح من أجل الديمقراطية لا ينفصلان.
وخلال تلك الفترة الواقعة بين 1919 و1952م، تميزت الحياة السياسية بطابع الصراع العنيف، الذي تحددت معالمه بوضوح تام، بين تيارين: تيار رجعي يمثله القصر والإنجليز وأعوانهما، وتيار شعبي مستنير يمثله الوفد، ولم يكن الوفد حزبا مثاليا، بل كانت في دواخله تيارات متعارضة، كما كان يضم شرائح متباينة من المجتمع إلى الحد الذي يجعله أقرب ما يكون إلى صيغة «تحالف قوى الشعب»، تلك الصيغة التي بذلت فيما بعد محاولات لتطبيقها في إطار غير ديمقراطي، فلم تلق نجاحا.
ومع ذلك كان في الوفد ميزتان أساسيتان: الأولى أنه كان على وعي تام بأن مصدر قوته هو التأييد الشعبي الساحق، ومن ثم فقد كان في أوقات الأزمات يقف بصلابة في الدفاع عن الدستور وعن حقوق الشعب التي هي رصيده الأكبر، والثانية هي مرونته وقدرته على تطوير نفسه وفقا للأحداث؛ مما أتاح له أن يصمد صمودا رائعا، طوال الفترة الواقعة بين ثورتي 1919 و1952م، على الرغم من كل حملات التشويه والتشنيع التي كانت تشن ضده بانتظام، وبفضل هاتين الميزتين استطاع الوفد أن يكتسح أحزاب الأقلية، التي خلقها القصر والإنجليز لمحاربته، في كل انتخابات تجرى بقدر معقول من الحرية، وكان آخر انتصاراته، وأكثرها مدعاة للدهشة في نظر خصومه، هو فوزه الساحق في الانتخابات التي أجريت في أواخر 1949م، بعد فترة بدا فيها لخصومه في الداخل والخارج، أنهم أفلحوا في تشويه صورته عن طريق اختلاق تفسير كاذب لأحداث 4 فبراير 1942م، وعن طريق انشقاق مكرم عبيد ونشره «كتابا أسود» ضد الوفد، وعن طريق إنشاء دار «أخبار اليوم» الصحفية خصيصا لخدمة أهداف الملك والإنجليز والتخصص في تشويه صورة الوفد.
إننا لا نقدم هنا استطرادا خارجا عن الموضوع، ولا نود أن نقطع حبل الأحداث، التي أثارها كتاب هيكل أو التي ظهر كرد فعل عليه؛ إذ إن هذه الملاحظات تدخل في صميم الموضوع، وهي في رأينا تكمن في قلب المأساة الفكرية والسياسية التي تعاني منها مصر والأمة العربية في الوقت الراهن؛ فهناك كما قلنا جيل يجهل هذه الأحداث أو لا يعرفها إلا من خلال ما كتبه عنها خصومها منذ عام 1952م، ومن حق هذا الجيل على من شهدوا هذه الفترة بوعي وفهم أن يدلوا بشهادتهم، وسواء اقتنعوا بهذه الشهادة أم لم يقتنعوا، فلينظروا إليها على أنها مادة خام تساعدهم على المزيد من التحليل والتفكير.
كانت الفترة التي تولى فيها الوفد السلطة، بعد انتصاره الساحق في آخر انتخابات أجريت قبل الثورة، وآخر انتخابات حرة في تاريخ مصر، فترة فريدة بحق في تاريخ هذه المنطقة كلها، ومن المؤسف حقا أن أحداث عامي 1950 و1951م لم تنل حظها من الدراسة والتحليل، مع أن هذه الفترة بالذات تلقي الضوء على الكثير جدا من التطورات التالية، ولن يسمح لنا المجال ها هنا، ولا الحرص على الاحتفاظ بتسلسل المناقشة وترابطها، بأن نتحدث بأي شيء من التفصيل عن هذه الفترة الحاسمة التي تنطوي على مفاتيح تفسر أحداثا كثيرة وقعت فيما بعد، ولكن حسبنا أن نشير في عجالة إلى الخطوط العريضة لأحداث هاتين السنتين الحاسمتين، اللتين بدأتا عند استدارة القرن العشرين إلى نصفه الثاني، وكانتا نقطة تحول أساسية بين التاريخ السابق والتاريخ اللاحق.
في هاتين السنتين الحاسمتين وقعت الأحداث الكبرى الآتية: (1)
تركت الحرية للصحافة لكي تهاجم الملك - أقوى سلطة في البلد، بارتكازه على قوتي الإنجليز والجيش - واتخذ الهجوم في بعض الأحيان طابع الفضح المباشر لتصرفات الملك وأسرته، وكان مما ساعد على ضمان هذه الحرية، معركة مشهورة نشبت في ذلك الحين حول تشريعات مقيدة للصحافة (وهي تشريعات لا تساوي شيئا إذا ما قيست بالقيود الفعلية التي أصبحت تمارس ضد حرية الصحافة بعد عام 1952م)، واستطاع فيها الضغط الشعبي، ممثلا في حملة صحفية رائعة ضد التشريعات الجديدة، أن ينتصر في النهاية؛ فسحبت التشريعات، وتأكدت حرية الصحافة. (2)
قامت الحكومة، استجابة لمطالبات شعبية واسعة النطاق أيضا، بإلغاء معاهدة 1936م مع الإنجليز، وبدأ عهد الكفاح المسلح ضد القوات البريطانية في منطقة القناة، وبقدر ما كانت حركة الكفاح المسلح ارتجالية في البداية، فإنها كانت تحمل للدول الغربية الطامعة في المنطقة، وعلى رأسها القوة الإمبريالية الجديدة (أمريكا)، نذرا خطيرة إلى أبعد حد، هي تكوين نواة لجيش شعبي مدرب على مكافحة الاستعمار، وهو أكبر خطر تخشاه هذه القوى الأجنبية، وخاصة إذا انتقلت عدواه فيما بعد إلى الأقطار العربية الأخرى. (3)
وضعت أسس راسخة لمبادئ العدالة الاجتماعية وديمقراطية الحكم، فطبق مبدأ مجانية التعليم في المرحلتين الابتدائية والثانوية، واتسع نطاق القبول المجاني في الجامعة إلى حد بعيد، وطبق طه حسين، حين كان وزيرا للتعليم، مبدأ «التعليم كالماء والهواء»، وكانت تلك هي البداية الحقيقية للتحول الاجتماعي، ليس فقط في التعليم، بل في فرص العمل وإدارة دفة المجتمع.
وهكذا كانت تلك التجربة الأخيرة لحكم الوفد هي ذروة التطور الديمقراطي الذي سارت فيه مصر طوال فترة لا تقل عن ثلاثة أرباع القرن، ومن اللافت للنظر أن هذه التجربة الرائعة كانت تتم في وجه عقبات هائلة، ولم يكن طريقها سهلا أو معبدا على الإطلاق؛ إذ كان هناك ملك مستبد يشعر بالخطر الذي يتهدده من هذه التطورات، ويتحين الفرص لإسقاط الحكومة التي ستؤدي سياستها حتما إلى القضاء عليه، وكان هناك احتلال بريطاني يريد أن يثبت أقدامه ويتعاون مع أعداء الحكومة الوطنية بكل الوسائل، وكان هناك جيش يدين قادته بالولاء المطلق للقصر، ومع كل هذه المعوقات تحقق الكثير، وازداد الشعب التفافا حول حكومته التي كانت تطور نفسها مع مطالب الجماهير، وكانت الأجنحة التقدمية فيها تكتسب مزيدا من الشعبية على حساب الأجنحة الأكثر محافظة، ولم يكن أمام الملك، إزاء هذا التأييد الشعبي الجارف لحكومته، إلا أن يلجأ إلى التآمر من أجل إزاحة الحكم الوطني؛ فكان حريق القاهرة، أو الثورة المضادة التي أثبتت، بعد وقت قصير، فشلها الكامل، وكشفت النظام الملكي في عجزه وتقلبه ووصوله إلى طريق مسدود.
لماذا، إذن، نتحدث عن هذه الفترة؟ وما علاقتها بموضوعنا الأصلي؟ السبب الأول هو أن هذه الفترة مجهولة لدى أبناء الجيل الأوسط والأصغر في عالمنا العربي بوجه عام، وفي مصر بوجه خاص،
1
والكثير منهم لا يعرف عن هذا العهد إلا مجموعة من القوالب اللفظية التي تكرر ترديدها على أسماعهم إلى حد أنهم أصبحوا يأخذونها كما لو كانت من المسلمات المؤكدة، كالحديث عن «الفساد» في عهد ما قبل الثورة، وعن فشل «التجربة الحزبية» وعن «تخبط الأحزاب وسعيها» إلى «مصالحها الضيقة» وعن «الأزمة التي انتهت إليها الديمقراطية الحزبية قبل الثورة»، إلى آخر هذه العبارات التي يعرفها الجميع، والتي تخفي في واقع الأمر أهم معالم تلك التجربة الخصبة إلى أبعد حد.
أما السبب الثاني فهو تلك المواقف غير المنصفة التي وقفها هيكل من تلك التجربة.
كان هيكل، منذ بداية نضجه الصحفي، منتسبا إلى مدرسة «أخبار اليوم» في الصحافة، وهي مدرسة لها سمات خاصة، أهمها الولاء للقصر الملكي، وتأييد أحزاب الأقلية، والدعاية لكل قوة معادية لحزب الأغلبية الشعبية، أعني الوفد، وكان قطب هذه المدرسة ومعلمها الأكبر هو «محمد التابعي» وهو صحفي مخضرم كان يؤمن بأهمية الإثارة الصحفية، عن طريق الفضائح والجنس، في اجتذاب مزيد من القراء لأية جريدة. ومن الإنصاف لهيكل أن نقول إن مجرد انتمائه خلال فترة هامة من حياته الصحفية، إلى دار «أخبار اليوم» لا يعني بالضرورة أنه كان يتبنى جميع الأسس التي قامت عليها هذه الدار، ولكن من الإنصاف للتاريخ أن نقول إنه لم يبد أي نوع من التمرد الواضح عليها.
كانت هذه الدار التي أنشئت أساسا لتلطيخ سمعة الوفد (وقد أثبتت انتخابات آخر سنة 1949م أنها فشلت في ذلك فشلا ذريعا) هي التي مجدت مجموعة الشباب التي كانت ينتمي إليها أنور السادات، وعلى رأسها المغامر المشبوه حسين توفيق، وهكذا كانت تروي عنهم حكايات أسطورية، وكان الغطاء الوطني لعملياتهم هو العداء لقوات الاحتلال البريطاني، ولكن الهدف الحقيقي منها هو تخليص القصر من أعدائه، عن طريق التصفية الجسدية، كما تشهد محاولات السادات المتكررة لاغتيال رمز الوطنية المصرية في ذلك الحين؛ مصطفى النحاس.
ولقد تضمن «خريف الغضب» تعبيرات كثيرة تحمل في طياتها اعترافا بالدور الوطني الذي قام به الوفد، وبالفارق الشاسع، في هذه الناحية، بين الوفد وأحزاب الأقلية الأخرى، فهو مثلا يتحدث عن «حزب الوفد المصري الذي يقوده مصطفى النحاس والذي كان يمثل أغلبية الوطنيين في مصر»، ويصدر حكما مثل: «أما الوفد - وبرغم كل محاولات تزوير الانتخابات - فقد ظل حزب الأغلبية ، يتمتع بتأييد شعبي لا ينازعه فيه أي حزب سياسي آخر.» كما يشير إلى المعارك الدستورية المجيدة التي خاضها الوفد ضد القصر، ويؤكد أن «كفاح» السادات ضد الوفد ومحاولاته اغتيال مصطفى النحاس واشتراكه في مقتل أمين عثمان، كل ذلك كان لصالح السراي، وقد تحقق عن طريق علاقة السادات بالحرس الحديدي، الذي يبدو أنه كان يقوم بدور «عمالة مزدوجة»، لصالح القصر في الواقع، ولصالح الوطنية المتطرفة في الظاهر، وكان مثل كثير من القوى الشديدة التطرف، عاملا لحساب قوى شديدة الرجعية، بل إن هيكل يتحدث عن «صحافة القصر» (ويقصد أخبار اليوم، حيث كان يعمل) التي راحت تصور هؤلاء الشباب على أنهم أبطال شعبيون ... وكل هذه كلمات صحيحة كل الصحة، ومنصفة لتاريخ مصر في تلك الفترة.
ولكن المفارقة تظهر حين يعود هيكل فيصدر أحكاما مناقضة، يبرر بها استيلاء الجيش على السلطة في 1952م، فيقول: «في ذلك المناخ (الأربعينيات) بدت السياسات المصرية التقليدية القائمة على المناورة والتوازن بين الإنجليز والقصر والوفد؛ بدت شيئا فات أوانه؛ لأنه يفقد صلته بالحقائق الجديدة يوما بعد يوم، كان لا بد من تغيير، ولم تكن هناك فائدة ترجى من انتظار التغيير بواسطة حزب سياسي قديم أو جديد، فلقد كان التركيب الطبقي في مصر لا يزال في حالة سيولة، الأمر الذي يمنع ظهور قاعدة اجتماعية صلبة، يقوم عليها تنظيم سياسي حقيقي ويزدهر، وهكذا فإنه حين جاء التغيير، كان مصدره هو القوة الوحيدة التي تمثل إرادة الاستمرار من ناحية، وتملك قدرة العمل من ناحية أخرى؛ الجيش.»
هنا يعود هيكل القديم، هيكل الخمسينيات، إلى الكلام، على الرغم من أنه كان يكتب في الثمانينيات، فمن قال إن السياسة المصرية قبل الثورة قامت على المناورة والتوازن بين الإنجليز والقصر والوفد؟ لقد كانت تقوم، كما تدل عبارات هيكل نفسه التي اقتبسناها من قبل، على صراع واضح المعالم بين الشعب، ممثلا في الوفد من جهة، والقصر والإنجليز وأحزاب الأقلية من جهة أخرى، كان صراعا حول قضايا متبلورة تماما: القضية الوطنية، الديمقراطية، حكم الدستور، توفير المطالب الشعبية، وعلى العكس من ذلك يمكن القول إن أول ما حرصت عليه ثورة 23 يوليو كان إسكات الصراع، الذي يرمز له إعدام اثنين من العمال (خميس والبقري) بالتهمة التقليدية (الشيوعية) في الأيام الأولى للثورة، ثم ظهور مختلف التنظيمات القائمة على فكرة التوازن، لا الصراع، وأولها هيئة التحرير.
وهكذا يتحدث هيكل حينا بطريقة تدل على أنه أدرك حقيقة القوى المتفاعلة في تلك الفترة المظلومة من تاريخ مصر، ولكنه سرعان ما يعود إلى موقفه التقليدي، ذلك الموقف الذي وقفته ثورة يوليو منذ البداية، وأعني به وضع الأحزاب جميعا في سلة واحدة وكأنها كلها خانت وفشلت وتنكرت للحركة الوطنية، ثم الترويج لتلك الأسطورة التي لم يكن لها أي أساس من الواقع أو التاريخ، وأعني بها أنه «لم تكن هناك فائدة ترجى من أن يأتي التغيير من حزب سياسي»، تلك الأسطورة التي تريد أن تسدل ستارا من النسيان على تجربة ديمقراطية عظيمة، كانت تبشر بتطورات وتصحيحات هائلة لمسارها، لو كتب لها البقاء بعد إزاحة العقبات التي كانت تعرقل مسيرتها حينا وتبطئ حركتها حينا آخر.
من أجل هذا يقدم هيكل تبريرات لمجموعة الإجراءات التي أدت إلى القضاء على التجربة الحزبية في مصر، وهي إجراءات تكررت، مع اختلاف في التفاصيل، في كثير من الأقطار العربية الأخرى حين قامت فيها حركات عسكرية مماثلة، وهكذا يذهب هيكل إلى أن الشرعية التقليدية في بلاد العالم الثالث لها أساس قبلي أو ديني، وحين تحاول أن تنتقل في العالم الثالث إلى شرعية ذات أساس دستوري وقانوني، تستند في عملية الانتقال هذه إلى ضرورات الاستمرار، وتمثلها «البيروقراطية» بما فيها القوات المسلحة، وكذلك إلى شخصية الزعيم.
ولست أدري على أي بلد من بلاد العالم الثالث ينطبق هذا الكلام، لأن عمليات الانتقال التي تركز على القوات المسلحة وعلى شخصية الزعيم لا تمثل في أية حالة من الحالات تحولا نحو الشرعية الدستورية والقانونية، ولكن ما أعلمه حق العلم هو أن هذا الكلام حين يقال عن مصر بالذات، يكون عدوانا صارخا على الحقيقة والتاريخ، فقد كانت في مصر شرعية دستورية قائمة بالفعل، وكانت تكافح ببطولة من أجل تطهير نفسها من القوى المعادية للدستور، وليس صحيحا أن حركة الجيش، في مصر أو غيرها، كانت محاولة للانتقال من شرعية تقليدية إلى شرعية دستورية، بل إن العكس هو الصحيح؛ إذ كانت الحركة في أساسها انتقالا من تجربة ناضجة في الشرعية الدستورية إلى نمط في الحكم لا يكترث كثيرا بمعنى الشرعية، ولا يعترف بالدستور إلا على الورق.
وبمثل هذه الفلسفة المضللة تم تبرير كافة الإجراءات التي اتخذت في السنتين الأوليين للثورة، من أجل التضييق على الأحزاب (وكان المقصود بها واقعيا حزب الوفد وحده)، ثم فرض شروطا صعبة التحقيق عليها، ثم الادعاء بأنها لم تتمكن من تلبية هذه الشروط، ثم يتكرر المسلسل المعتاد، الذي أصبح «نموذجا» تحتذيه الانقلابات العسكرية في كافة أرجاء العالم الثالث: إيقاف المسار الطبيعي للدستور، وإلغاء الأحزاب والانتخابات، والعمل بموجب قرارات أو مراسيم، مدة ثلاثة أشهر، ثم ستة أشهر، ثم سنوات وسنوات، وفي كل حالة يجد النظام من يبرر له إجراءاته عن طريق «فلاسفة» قادرين على إقناع الناس، أو إرغامهم على الاقتناع، بأنهم يعيشون في ظل شرعية من نوع جديد، شرعية «ثورية» تتضاءل إلى جانبها المفاهيم «العتيقة» للشرعية.
هكذا فعل هيكل، وهكذا فعل كثيرون غيره من منظري الحكم التسلطي اللاديمقراطي، ولكن حساب التاريخ لهيكل سيكون أشد عسرا؛ لأنه كان أكثر من الآخرين ذكاء ووعيا؛ ولأنه أدرك حقائق الأوضاع في لمحات سريعة في كتابه الأخير، ولكنه سرعان ما عاد إلى طريقه المألوف، طريق العداء للديمقراطية المرتكزة على أساس شعبي، والمعبرة عن الإرادة الحقيقية للجماهير.
الفصل السادس
ورثه مصر، ونسى!
في كتاب هيكل عن السادات نقطتان تتسمان بالضعف الشديد، مر عليهما المؤلف بتعجل وبغير تحليل مقنع، وإنما حاول أن يقدم لهما تعليلات أدت في الواقع إلى زيادة موقفه ضعفا، هاتان النقطتان تأتيان عند بداية علاقة السادات بعبد الناصر والثورة المصرية، وعند نهاية عهد عبد الناصر واختياره أنور السادات لخلافته، فكيف يصف هيكل هاتين اللحظتين الحاسمتين: لحظة انضمام السادات إلى تنظيم الضباط الأحرار، التي حصل فيها على جواز المرور إلى تاريخ مصر، ولحظة تعيين عبد الناصر للسادات نائبا به، قبل وفاته بوقت قصير، وهي اللحظة التي ضمنت له دخول هذا التاريخ من أوسع أبوابه؟
يقول هيكل في «خريف الغضب»: «في أواخر سنة 1951م أصبح أنور السادات عضوا في تنظيم الضباط الأحرار، وقد كان كل أعضاء اللجنة التأسيسية للتنظيم يعارضون انضمامه باستثناء جمال عبد الناصر، كانوا يعرفون السجل بطبيعة الحال، وكان عبد الناصر يعرف يقينا بكل هذه الوقائع.»
ما هي هذه الوقائع التي أدت بأعضاء اللجنة التأسيسية للضباط الأحرار إلى رفض انضمام أنور السادات إلى تنظيمهم، والتي أصر عبد الناصر على قبوله في التنظيم على الرغم من معرفته اليقينية بها، وعلى الرغم من معارضة جميع أعضاء اللجنة الآخرين لهذا القبول؟ كانت هذه الوقائع، كما شرح هيكل في كتابه بإسهاب، تشمل: الانضمام إلى الحرس الحديدي الذي كان يخدم أغراض الملك - السعي إلى تخليص الملك من أقوى خصومه السياسيين بالتصفية الجسدية - الاتصال برجال القصر وعلى رأسهم «يوسف رشاد» وتلقي رشوة مقدارها ألف جنيه من هذا الأخير «لكي يؤثث بيتا ويشتري سيارة، ويبدأ حياة جديدة.» وغيرها من الوقائع المثيرة للارتياب.
كيف إذن أصر عبد الناصر على قبول السادات في التنظيم، وتحمل بذلك مخاطرة أن يوصف بالدكتاتورية؛ لأنه رجح صوته الوحيد على أصوات جميع الأعضاء الآخرين الرافضين؟ يقدم هيكل في هذا الصدد ما يسميه «اجتهادات» يحاول بها تفسير هذا الإصرار، وهي اجتهادات لا تفسر في الواقع شيئا، بل يمكن الرد عليها بسهولة تامة، فمن الجائز أن عبد الناصر أراد معرفة أخبار القصر مستغلا علاقة السادات بيوسف رشاد، ولو صح هذا التعديل لكان من الواجب أن يبعد السادات عن التنظيم بمجرد نجاح الثورة وإغلاق القصر وطرد صاحبه من البلاد، فما فائدة الاحتفاظ بعميل سابق للقصر بعد أن انتهت مهمته؟ ومع ذلك فإن السادات لم يكن أول من خرج من أعضاء مجلس الثورة، وإنما خرج الجميع وبقي هو!
وينطبق هذا الكلام نفسه على التعليل الآخر الذي قدمه هيكل، وهو تضليل القصر عن أخبار الضباط الأحرار من خلال الصلة السابقة نفسها، ففي هذه الحالة أيضا كان من الواجب أن تنتهي مهمة السادات بمجرد نجاح الثورة.
أما تعليل عبد الناصر نفسه، كما رواه لهيكل فيما بعد، فهو «أردت أن أضع في إطار الحركة كل هؤلاء الضباط الذين اقترن اسمهم بالعمل السياسي في مصر.» هنا أيضا نجد أنفسنا غير مقتنعين: هل أي ضابط اقترن اسمه بالعمل السياسي يمكن أن يقبل في التنظيم، حتى لو كان العمل السياسي الذي مارسه عمالة مزدوجة وخدمة لأهداف القصر، أي بكلمة واحدة، حتى لو كان هذا العمل السياسي «خيانة»؟ لو افترضنا أن حاجة التنظيم في بدايته إلى عناصر نشطة وممارسة كانت هي التي أرغمت عبد الناصر على قبول شخصية مثيرة للشبهات كهذه، فإن هذه الحاجة تنتهي تماما بمجرد أن ترسخ أقدام التنظيم ويصبح هو الذي يحكم مصر بلا منازع، ويبدو أن أعضاء مجلس الثورة قد نظروا إلى الأمر على هذا النحو، بدليل قول هيكل إن هؤلاء الأعضاء، بعد يوليو 1952م مباشرة، «تجددت شكوكهم فيه، بل وبدأ معظمهم يوجه إليه في حضوره بعض الملاحظات الجارحة، ولكن عبد الناصر كان يحميه.»
هناك إذن سر في موضوع دخول السادات في تنظيم الضباط الأحرار، واستمرار عضويته فيه بعد أن انتفت الأسباب التي يقال إنها هي التي دعت إلى قبوله، ولا تقدم إلينا رواية هيكل أي تعليل مقنع لهذا السر، بل إنها تترك الموضوع عائما، وتكاد توحي بأن عبد الناصر كان لديه ميل خاص، غير مفهوم إلى السادات، على الرغم من علمه بتاريخه.
تلك إذن لحظة حاسمة في تاريخ السادات، وفي تاريخ ثورة 23 يوليو، تركها هيكل غير مفهومة، فهل كان هيكل يستخف بأهمية هذه اللحظة، حين قدم تعليلاته غير المقنعة، أم كان يخفي شيئا لا يريد أن يعلن عنه، أم كان يستخف بقدرة القارئ على الشك والتساؤل، أم كان - أخيرا - يؤمن بحق عبد الناصر المطلق في أن يفعل ما يشاء بغير أسباب؟
لنترك هذه اللحظة مؤقتا، ولننتقل إلى لحظة أخرى أهم منها بكثير، لحظة كانت مصيرية بحق ، هي تلك التي قرر فيها عبد الناصر أن يعين السادات بالذات، ومن دون أبناء مصر الذين كانوا عندئذ يزيدون على الثلاثين مليونا، ليكون نائبا لرئيس الجمهورية، وخليفته في حكم مصر.
ونستمع، مرة أخرى، إلى ما يقوله هيكل.
في فصل بعنوان «في ظل عبد الناصر»، يقول هيكل: «كان طبيعيا أنه حين تعرض عبد الناصر للنوبة القلبية الأولى في سبتمبر 1969م أن يضع السادات على رأس لجنة تضم بعض القريبين منه، وتتولى تسيير شئون الدولة في غيابه، وعلى أي حال فإن هذه اللجنة لم يقدر لها أن تباشر عملا حقيقيا، فما لبث عبد الناصر أن نسي نوبته القلبية وعاد يمارس شواغله ومسئولياته، وفي ديسمبر عام 1969م كان على عبد الناصر أن يشارك في أعمال مؤتمر القمة العربي في الرباط بالمغرب ... وعندما دعاني إلى الجلوس بجانبه بعد إقلاع الطائرة كما كان يفعل دائما، فإنه أشار إلي بالجلوس وعلى وجهه ابتسامة، وفوجئت به يقول: «هل تعرف ماذا فعلت اليوم؟» ولم أكن أعرف، وقال لي: «كان أنور السادات سيمر علي؛ لكي يصحبني إلى المطار، وطلبت منه أن يجيء معي بمصحفه، ولم يفهم ما عنيت بهذا الطلب، وعندما جاء فقد جعلته يقسم اليمين ليكون نائبا لرئيس الجمهورية في غيابي.» وأبديت دهشتي وسألت عن السبب الذي دعاه إلى ذلك، ومد عبد الناصر يده إلى ملف كان قد وضعه أمامه، وكانت فيه برقية، تقول إن هناك معلومات بأن الجنرال أوفقير يتعاون مع وكالة المخابرات المركزية الأمريكية في محاولة لاغتيال عبد الناصر أثناء وجوده في المغرب، وقد فكرت في أنه إذا فرض وصدقت المعلومات هذه المرة وحدث شيء، فإن أنور يصلح لسد الفترة الانتقالية، وفي فترة الانتقال فإن دور أنور سيكون شكليا.» ثم أضاف عبد الناصر: «إن الآخرين جميعا واتتهم الفرصة ليكونوا نوابا لرئيس الجمهورية إلا أنور، ولعله دوره الآن ... وعلى أي حال فهي فترة أسبوع على أرجح الأحوال.»
وتلا ذلك حديث طويل عن شواغل عبد الناصر الكثيرة خلال الفترة التالية، تخلله حديث آخر عن فضيحة ارتكبها أنور السادات «وكان يمكن أن تكلفه منصبه كنائب رئيس الجمهورية، وتغير بالتالي مجرى تاريخ مصر الحديث»، وهي استيلاؤه بالقوة، وعن طريق قرار جمهوري، على قصر في الهرم كان يملكه ضابط سابق اشتغل بالأعمال الحرة، ثم حانت ساعة موت عبد الناصر، «كان السادات لا يزال حتى ذلك الوقت هو نائب الرئيس رسميا، وبكل الشواغل التي ألحت على العمل الوطني، من مؤتمر الرباط إلى زيارة موسكو السرية إلى استمرار حرب الاستنزاف إلى مبادرة روجرز إلى المواجهة بين الملك حسين والثورة الفلسطينية في الأردن، فإن وضع أنور السادات كنائب للرئيس كان قضية منسية حتى وإن كان قد خطر للبعض - بمن فيهم جمال عبد الناصر نفسه - أن الأمر قابل لإعادة النظر فيه، وهكذا بقي أنور السادات في مكانه حتى هذه اللحظة الحزينة.»
معذرة، أيها القارئ العزيز، على هذا الاقتباس الطويل، ولكن هذه اللحظة التي يصفها هيكل، وهي اللحظة التي يجد فيها مناسبة لاستعراض مكانته (أجلسني بجانبه كما كان يفعل دائما)، والتي تحدث فيها عبد الناصر إلى هيكل بابتسامة وفاجأه بسؤاله الذي يحمل معنى الدعابة: هل تعرف ماذا فعلت اليوم؟ هذه اللحظة هي التي قررت مصير مصر، ومعها الأمة العربية، حتى يومنا هذا، في هذه اللحظة بدأت المسيرة المشئومة المؤدية إلى زيارة القدس، والصلح والتطبيع، وترك لبنان والفلسطينيين لمخالب الوحش الصهيوني، والانفتاح، ونهب مصر، ووصاية البنوك الدولية والأمريكية على اقتصادها ... هذه اللحظة التي يعرضها هيكل باستخفاف شديد، بل وينتهز الفرصة للتفاخر بذاته وبقربه الدائم من الرئيس، هي التي فتحت الطريق لكوارث مصر والعرب في السبعينيات، ولهذا اقتبستها من كتاب هيكل بالتفصيل.
ولكنني لم أقتبسها فقط لكي أبين التضاد المحزن بين جو الخفة والسهولة الذي كان يصفه هيكل في سطوره، وبين شبح المصير المأساوي الذي يطل من بين سطور هيكل، ساخرا من القارئ ومن هيكل، ومن عبد الناصر، بل ومن الأمة العربية جمعاء ... كلا ، لم أقتبسها لغرض كهذا فقط، وإنما اقتبستها لكي أشرك معي القارئ في محاولة طويلة لاستخلاص المعاني البشعة التي تنطوي عليها هذه السطور.
أول هذه المعاني هو البساطة العجيبة التي اتخذ بها قرار خطير كهذا ونفذ على الفور: عبد الناصر يطلب إلى السادات أن يجيء معه بالمصحف أثناء مروره عليه ليصحبه إلى المطار، السادات لا يعرف السبب، ولكن المفاجأة تنتظره، يقسم اليمين، وبذلك يتحدد من سيكون رئيس جمهورية مصر القادم، هيكل نفسه لم يكن يعرف، ولكن يتضح أن السبب هو تقرير عن مؤامرة محتملة في المغرب لاغتيال عبد الناصر، مؤامرة لم ينظر إليها عبد الناصر بجدية، ولكن لا بأس من الاحتياط! هكذا، بلا استشارة حتى من أقرب المقربين، يحدد الحاكم من سيخلفه في حكم بلاده في مرحلة من أحرج المراحل التي مرت بها طوال تاريخها الحديث، ويقرر بذلك مصير أمته من بعده! لست أدري ماذا يكون شعور القارئ حين يقرأ هذه السطور، ولكنني أقول عن نفسي إنني شعرت بالإهانة حين وجدت مستقبلي ومستقبل أبنائي وبلدي، يحدد بمثل هذا الاستخفاف، دون أن تكون لي، كمواطن، كلمة ولا رأي، ودون أن يصل صوتي عن طريق القنوات التي صاغتها تجارب طويلة للشعوب، والتي تتيح للناس في المجتمعات التي تحترم مواطنيها أن يختاروا من سيتحمل مسئولياتهم في مستقبل الأيام.
ولكن لدى هيكل، بالطبع، إجابة جاهزة، إنه يقول للقارئ: لم يكن هناك عندئذ ما يدعو إلى الانزعاج، ولا حتى إلى الاهتمام، فقد كانت المسألة مؤقتة، لن تطول أكثر من أسبوع، وكانت مجرد احتياط من أن تقع مؤامرة الاغتيال في المغرب، وكل ما في الأمر هو أن السادات قد خدمه الحظ، طوال السنوات التالية؛ لأن عبد الناصر وضعه على كرسي الخلافة ونسي أن يبعده عنه - وهو معذور في هذا النسيان، فقد كانت الأحداث جساما، ولم يكن لديه من الوقت ما يسمح له بأن يتذكر هذا الموضوع التافه، موضوع تعيين السادات خليفة له في حكم مصر!
مرة أخرى، لست أدري، ماذا يكون شعور القارئ وهو يستمع إلى حجة هيكل هذه، ولكنني أقول عن نفسي إنني شعرت بإهانة أخرى، إهانة لعقلي وتفكيري وآدميتي يوجهها إلي واحد من أولئك الذين عاشوا طويلا في جو الاستخفاف بعقول الناس والاستهانة بهم.
فحسب أقوال هيكل نفسه، وقع اختيار عبد الناصر على السادات لتسيير شئون الدولة مرتين، لا مرة واحدة، الأولى عند إصابته بنوبة قلبية، والثانية عندما قرأ تقارير الأمن عن المؤامرة المغربية الأمريكية المحتملة، وهذا معناه أن الاختيار لم يكن عشوائيا على الإطلاق، بل كان متعمدا مقصودا، ولا شك أن الإصابة بنوبة قلبية هي إنذار كاف لأي إنسان، أي أن احتمالات النهاية لا بد أن تكون قد طافت، ولو من بعيد، بذهن عبد الناصر؛ وعلى ذلك فحين يختار خلفا له، فإنه يعلم أن هذا يمكن أن يكون اختيارا لمستقبل بلاده، وحتى لو كانت مؤامرة المغرب مجرد إشاعة، فإنها تستدعي اختيار أصلح العناصر للخلافة، على سبيل الاحتياط أيضا.
ولكن الكارثة الكبرى في الموضوع كله تكمن في نقطتين: الأولى هي قول عبد الناصر: «إن الآخرين جميعا واتتهم الفرصة ليكونوا نوابا لرئيس الجمهورية إلا أنور، ولعله دوره الآن.» إذن كان حكم مصر «بالدور»! مجموعة الضباط الذين شكلوا مجلس قيادة الثورة، يتناوبون على المنصب الخطير واحدا بعد الآخر، وفي النهاية، وفي لحظة مرض القلب والتهديد بالاغتيال، بقي واحد منهم، فلا بد إذن أن يأخذ نصيبه، ونصيبه هو أن يكون خليفة لحاكم مصر.
إنني لا أشك لحظة واحدة في ذكاء هيكل الذي كان بالفعل غير عادي، ولكن الأمر الذي يذهلني بحق هو: كيف فات على هيكل، بكل ذكائه، المغزى الواضح والصارخ لهذا الكلام؟ كيف يعجز هيكل الموهوب عن أن يدرك أنه، بكلامه هذا، يسيء إلى عبد الناصر أبلغ إساءة، ويهين مصر كلها إذ يصورها على أنها «عزبة» لا بد أن يتناوب على امتلاكها مجموعة الضباط هؤلاء «بالدور»؟ فكر جيدا أيها القارئ في المقياس الذي يتم على أساسه الاختيار: ليس الكفاءة، التي لم يثبت السادات خلال حكم عبد الناصر - حسب كلام هيكل - شيئا منها، وليس الوطنية، فقد كان عبد الناصر وهيكل يعلمان أنه كان في وقت ما عميلا مزدوجا، وليس وجود برنامج لإنقاذ الوطن لديه، فقد كان بشهادة هيكل عاكفا على حياته الخاصة، عزوفا عن القراءة والاطلاع وتثقيف نفسه، وإنما المقياس هو أنه الوحيد الذي لم ينل بعد نصيبه من الفطيرة؛ هو أن «عليه الدور»!
أما الكارثة الثانية، في هذه القصة الحزينة، فهي أن عبد الناصر، بعد أن وضع السادات في هذا المنصب الخطير، تركه فيه لأنه «نسي»، هكذا يريدنا هيكل أن نصدق أن شيئا بالغ الأهمية كهذا يمكن أن ينسى بمثل هذه السهولة؛ ولكي يبرر لنا هذه الحجة الهزيلة يعدد أمامنا المشكلات التي انشغل بها عبد الناصر خلال الفترة التي كان السادات فيها «منسيا» في منصب الرجل الثاني في مصر، لقد كانت تلك مشكلات خطيرة حقا، ولكن خطورتها ذاتها كانت تفرض على عبد الناصر أن يزداد تذكرا لموضوع خلافته، لا أن ينساه، فالسادات أمامه كل يوم، وهو بالقطع لم يحصل على قرار التعيين نائبا لرئيس الجمهورية ثم أسرع يختبئ في مكان بعيد، داعيا الله أن ينساه الرئيس إلى أن يموت! وخطورة المشكلات التي كان يواجهها عبد الناصر هي ذاتها أقوى مبرر لكي يتذكر في كل لحظة أن الوطن في خطر، وأن من يخلفه في حمل الأمانة ينبغي أن يكون على مستوى المسئولية.
وحتى لو لم تذكره بموضوع الخلافة تلك الأحداث الجسام، فإن تصرفات السادات ذاتها لا بد أنها أدت إلى تذكيره بنوع الاختيار الذي قام به؛ فقد حدثت فضيحة القصر الذي استولى عليه السادات، بإلحاح من زوجته، من ضابط سابق اشتغل في الأعمال الحرة (لا أدري من أين استولى عليه هو الآخر، أو من أين أتته الأموال لشرائه)؛ حدثت هذه الفضيحة «بعد» تعيين السادات نائبا للرئيس، وحسب رواية هيكل فإن عبد الناصر غضب غضبا شديدا عندما علم بما حدث، ومع ذلك فإن هيكل يذكر، بطريقة غير مفهومة ولأسباب غير واضحة، أن عبد الناصر عندما هدأ غضبه كافأ السادات بقصر على النيل! وهكذا فإن عبد الناصر، كما يصوره لنا هيكل، تلقى إنذارا واضحا بنوع السلوك الذي يمكن أن يسلكه السادات عندما يترك له حكم مصر، فإذا لم تكن المشكلات الدولية والقومية والوطنية الخطيرة التي كانت تشغل عبد الناصر، عندئذ، كفيلة بأن تذكره بضرورة اختيار خليفة وطني قادر على التصدي لها، ألم يكن اغتصاب السادات لبيت لا يملكه، لمجرد أنه أعجب زوجته، كافيا لكي ينبه عبد الناصر إلى عيوب الرجل الذي ائتمنه على أمته كلها من بعده؟ ومع ذلك فإن عبد الناصر، حسب رواية هيكل، كافأ السادات بقصر على النيل بعد فترة غضب قصيرة! أيريد هيكل أن يوحي لنا بأن تصرفات مثل الاستيلاء على بيوت الآخرين لم تكن تصدم الحس الأخلاقي لعبد الناصر؟ أيريد أن يقنعنا بأن مغتصب مال الغير كان في نظره يستحق مكافأة؛ مكافأة عاجلة هي قصر على النيل، ومكافأة آجلة هي النيل كله، بأرضه وشعبه؟
ولنتأمل تناقضا آخر: لقد كان عبد الناصر، عندما عين السادات نائبا له، يتحوط ضد مؤامرة تشترك فيها عناصر مغربية وتدبرها المخابرات المركزية الأمريكية، ولكن عبد الناصر كان، من جهة أخرى، يعرف أن للسادات ميولا أمريكية قوية، وحسبنا دليلا على هذا أن نشير إلى مقال كتبه السفير الأمريكي الأسبق في مصر، لوشيوس باتل، تحدث فيه عن رحلة رتبها للسادات وزوجته عام 1966م، وعاد بعدها السادات مبهورا بكل ما هو أمريكي، ويهمنا في المقال إشارة الكاتب إلى أن عبد الناصر، عندما قابله بعد ذلك في إحدى الحفلات، قال له: «صاحبكم هذا، أنور السادات، محب ولهان لأمريكا.» فلما قال له السفير: «وما العيب في ذلك؟ ليته كان هناك آخرون لديهم نفس الاتجاه في هذا البلد.» ضحك عبد الناصر، «ولكن كانت هناك دائما مسحة من الاستخفاف في تعليقاته.»
1
وبطبيعة الحال فإن مسلك السادات تجاه أمريكا خلال سنوات حكمه يجعلنا لا نشك لحظة واحدة في صحة هذه الرواية، ولكن، كيف يكون عبد الناصر على علم بميول السادات الأمريكية القوية طوال هذا الوقت، ثم يختاره نائبا بسبب مؤامرة أمريكية محتملة؟ هل يقبل الأب الذي يتعرض للتهديد بالقتل من أفراد عصابة معينة، أن يختار أحد هؤلاء الأفراد وصيا على أبنائه من بعده؟
إن قصة خلافة السادات لعبد الناصر، والاختيار المشئوم الذي حدث في أحد أيام 1969م، هي قصة فريدة من نوعها، ولقد كانت الرواية التي أوردها هيكل عنها مليئة بالمتناقضات والمفارقات التي تستخف بعقل القارئ وتهين ذكاءه، ولا أظن أن أحدا، حتى هيكل ذاته، يمكن أن يقتنع بهذه الرواية المهلهلة، وهنا يبرز سؤال هام: إذا كان تفسير هيكل لاختيار عبد الناصر للسادات مكشوفا في ضعفه إلى هذا الحد، فلما الذي جعله يلجأ إليه؟
أغلب الظن أن هيكل اضطر إلى ترويج هذا التفسير الهزيل؛ لأنه وجد نفسه أمام سؤال محرج، تسأله تلك الأجيال الشابة الجديدة التي تنظر إلى عبد الناصر على أنه أعلى نماذج الوطنية، والتي رأت بنفسها ما لحق بمصر والعرب من انهيار في عهد السادات، هذا السؤال هو: كيف اختار زعيم كبير كعبد الناصر خليفة مختلفا عنه في كل شيء مثل أنور السادات؟ ومما يزيد هذا السؤال تعقيدا، أن هيكل أكد بصورة قاطعة أن عبد الناصر كان يعرف كل شيء عن السادات، كان يعرف ماضيه مع القصر، وميله إلى الاستمتاع بحياته بكل الطرق في حاضره، وانبهاره بالأمريكان، أعداء الوطن العربي الألداء منذ عام 1967م على الأقل، وإذن يعود السؤال بإلحاح: كيف يقبل زعيم وطني أن يأتمن شخصا مناقضا له في كل شيء على وطنه من بعده؟ من أجل محاولة الإجابة على هذا السؤال المحرج، اضطر هيكل إلى أن يتحدث عن تعيين نواب رئيس الجمهورية «بالدور»، وعن «نسيان» الرئيس لنائبه في مكانه إلى أن خلفه بعد موته، أعني، بالاختصار، اضطر هيكل إلى أن يلفق إجابة لا تقنع أحدا.
وفي اعتقادي، أولا، أن هذا سؤال خطير وجوهري ينبغي ألا يقابل بأي استخفاف؛ لأنه يتعلق بمصير الأمة العربية كلها، الذي قامر به السادات على مائدة أمريكا بعد أن أعطاها 99٪ من أوراق اللعبة، ومن ثم فلا بد من أن نلح في المطالبة بتفسير له، وفي اعتقادي ثانيا أن من المستحيل تقديم إجابة مقنعة عن هذا السؤال في إطار الموقف الذي يمثله هيكل: أعني موقف الدفاع على طول الخط عن عبد الناصر، والهجوم على طول الخط على السادات؛ فلكي نجيب عن هذا السؤال الحيوي إجابة مقنعة، لا بد أن نكون أكثر تعمقا في تحليلنا من أن نتقيد بهذا الاستقطاب الناصري-الساداتي. وسأقوم، من جانبي، بمحاولة لتفسير هذه الظاهرة التي تبدو مستعصية على الفهم، آملا أن ينظر القارئ إلى هذا التفسير على أنه حافز للتفكير، من حقه أن يقتنع به أو لا يقتنع، ولكن من واجبه أن يفكر فيه بإمعان.
إن الزعيم الذي يحكم حكما غير ديمقراطي لا يقبل بجانبه إلا الأعوان الذين يطيعون، وينحنون ولا يعارضون، وحين يسود الطابع الفردي في الحكم، يظل الأعوان المحتفظون بكرامتهم والمتمسكون بآرائهم ومواقفهم، أو حتى أولئك الذين يخالفون الزعيم لمصالح شخصية؛ يظل هؤلاء يستبعدون واحدا بعد الآخر، حتى لا يبقى في النهاية إلا الرجل الذي يقول دائما: نعم. ولقد اقترب هيكل من الحقيقة دون أن يشعر حين قال، في نفس الفصل الذي اقتبسنا منه من قبل: «كما حدث من قبل، وكما سيحدث فيما بعد، فإن طبيعة أنور السادات المستعدة للخضوع أمام الأقوى كانت هي التي حكمت موقفه، كانت أحسن أيامه هي تلك التي كان يستطيع فيها أن يلتصق بشخصية قوية، وإذا كان هيكل قد قصد بهذه الشخصية القوية، في كلامه السابق، المشير عبد الحكيم عامر، فإن هذا الحكم يمكن أن ينطبق على مسلك السادات بوجه عام، وإن كان ذلك المسلك في نظرنا واعيا متعمدا، وليس مجرد تعبير عن شخصية ميالة للخضوع والالتصاق بالأقوياء.
كان السادات أذكى من الجميع؛ لأنه أدرك قانون اللعبة: اترك الزعيم يمارس قوته وإياك أن تقول له «لا» مهما فعل، ولكن ما ينبغي أن نتذكره هو أن هذا القانون يحتاج إلى طرفين: طرف يلتزم بالقبول والخضوع، وطرف آخر - هو الزعيم - يجعل مقياس قرب الناس منه هو مدى خضوعهم له، ومدى تخليهم عن إراداتهم الخاصة لكي يكون هو صاحب الإرادة الشاملة. فلكي ينجح «الأذكياء» ممن يجيدون فن طأطأة الرأس (حتى يعلو فيما بعد، كما تقول أغنية سيد درويش المشهورة)، لا بد أن يكون الطرف الآخر الذي يتعاملون معه من ذلك النوع الذي لا يستطيع أن يتحمل أي شخص يبدي استقلالا في رأيه؛ ولذا كان من المستحيل أن ينجح «أهل الطأطأة» مع أي زعيم ديمقراطي.
وليتأمل القارئ دلالة العبارة التي يقول فيها هيكل: «كان بيت السادات في الهرم هو المكان الوحيد الذي يستطيع فيه جمال عبد الناصر أن يذهب لكي يقضي بين حين وآخر ساعات مع صديق لم يكن يضغط على أعصابه بإثارة مناقشات سياسية أو عسكرية ملحة.» هكذا كانت «الراحة» هنا تكمن في أن يكون الصديق مطيعا لا يناقش في الأمور الهامة، بينما الذين كانوا يناقشون ويعارضون، في ظروف ما بعد هزيمة 67 التي كانت تقتضي إعادة النظر في كل شيء، هؤلاء لم يكونوا «مريحين».
وهكذا نصل إلى القاعدة الهامة التي تحكم عملية الخلافة على السلطة في الحكم غير الديمقراطي: إن الحاكم، نتيجة لانفراده بالسلطة، يشعر بأهمية القوة ويستأثر بها، وبالتالي لا بد أن يزيح من طريقه كل من يحاول الحد من هذه القوة عن طريق المعارضة، وكل من يرفض انفراده بالقرار، وهكذا يكون الضعيف الراضخ، هو الذي يبقى في النهاية بعد سلسلة التصفيات، وبعبارة أشد وضوحا، فإن ظاهرة السادات إفراز طبيعي للحكم المطلق، وأسلوب الحكم الذي انتهجه عبد الناصر كان لا بد أن يؤدي في النهاية إلى خليفة مثل أنور السادات.
وهنا تتضح لنا صفة تبدو على قدر كبير من الغرابة، ولكنها تفسر الموضوع الذي نحن بصدده تفسيرا كاملا: فالحاكم القوي يؤدي في هذه الحالة - بصورة حتمية - إلى الحاكم الضعيف، والمتشدد أمام قوى الاستعمار في الخارج والطبقات العليا في الداخل يفرز المهادن للاستعمار، الذي يستسلم أمام الطبقات العليا ويسير في ركابها، وبعبارة أخرى فإن كل مظاهر الاختلاف بين عبد الناصر والسادات لا تتعارض مع كون الثاني استمرار للأول ونتيجة طبيعية له، هذه حقيقة ينبغي أن نتنبه إليها جيدا؛ إذ إن من يسمع أحدا يتحدث عن وجود استمرارية بين عبد الناصر والسادات، يتصور أنه يقصد وجود تشابه بين العهدين فقط، ولكن حقيقة الأمر أن هناك استمرارية مع التضاد، أعني أن يكون الحاكم المهادن والمستسلم هو الامتداد الطبيعي للحاكم القوي المتشدد، على الرغم من كونه نقيضا له، بل «بسبب» كونه نقيضا له.
هذا هو التفسير الذي أعتقد أنه هو وحده القادر على الإجابة عن ذلك السؤال المحرج، المحير، الذي طرحناه من قبل، وأعني به: كيف يمكن أن يختار الحاكم الوطني، بنفسه، خليفة غير وطني، يأتمنه من بعده على أمته وهي تمر بأخطر مراحل حياتها، وتسعى بمشقة شديدة إلى التخلص من براثن عدوان جاثم على صدرها؟ فلنقل إن هذا، على الأقل، هو اجتهادي، ومن حق أي شخص أن يعترض علي، ولكنه سيكون ملزما بأن يقدم تفسيرا أفضل، يعلل جوانب الظاهرة كلها، وكل ما آمله هو ألا يبلغ به الاستخفاف بعقولنا حدا يجعله يكرر شيئا مما قاله هيكل في هذا الموضوع.
وسواء أكان التفسير الذي أقدمه مقبولا أم غير مقبول، فليتذكر القارئ دائما أن الهدف من هذا الحديث الطويل، بل من كل ما قلته وسأقوله في هذا الكتاب، ليس إحراج هيكل، ولا انتقاد السادات أو عبد الناصر، وإنما هو قبل كل شيء دعوة إلى التفكير في ذلك الجو العام الذي عاش فيه كل من شارك في مأساة العرب خلال العقود الأخيرة.
ذلك الجو الذي يسمح للحاكم أن يختار خليفته بأكثر الطرق عشوائية، وكأنه يغير لونا لملابسه ويستبدل به لونا آخر، دون أن يستشير أحدا، أو يحتكم إلى شعب، أو حتى أن يسأل صديقا مقربا ...
ذلك الجو الذي يتم فيه للحاكم اختيار خليفته وهو على علم تام بسجله الطويل غير المشرف، بعد أن تجمعت النذر التي توحي إلى الحاكم بأن نهايته يمكن أن تحين ...
ذلك الجو الذي يكون فيه معيار اختيار حاكم المستقبل هو أن «عليه الدور» وأنه مطيع، مريح، لا يجادل ولا يناقش، أي بالاختصار، بحث الحاكم الموجود عن راحته هو، بدلا من تفكيره فيما يمكن أن يحدث لأمته في مستقبلها المحفوف بالأخطار، لو تولى أمورها خلف من هذا النوع ...
ذلك الجو الذي يختار فيه الحاكم خليفته ثم «ينسى»، ويمتد به النسيان شهرا وراء الآخر، في أحرج فترات التاريخ، حتى يموت ناسيا ...
وأخيرا، ذلك الجو الذي يسمح لكاتب بأن يروي لنا هذا كله دون أن تطرف له عين، ودون أن يرى فيه أي خطأ، بل يحكي قصة التلاعب بمصير أمة وكأنها حكاية مسلية، ويجد مع ذلك من يدافع عنه، ويصفق له، ويعامله كما لو كان شهيدا للحرية والديمقراطية.
إنها قصة حزينة، وأشد جوانبها مدعاة للحزن هو أن كل الأطراف فيها مدانون، وكلهم يسهمون في تلك الجريمة الكبرى التي لم ترتكب النظم اللاديمقراطية ما هو أفظع منها، جريمة هدم العقول.
الفصل السابع
مع السادات على جناح واحد
الانطباع الذي يقدمه إلينا هيكل عن علاقته بالسادات هو أنه كان شديد القرب منه في السنوات الأولى من حكمه، ثم اختلف معه بعد عام 1974م، في الوسائل أولا، وبعد ذلك في الغايات والأهداف العامة، وهو لا يدع لنا أي مجال للشك في التوحد بينه وبين السادات خلال تلك السنوات الأولى، «كنت شديد التعاطف مع السادات كإنسان ...» «في السنوات الأربع الأولى كنت أقرب إليه من أي إنسان آخر ...» «كانت هناك فترة في علاقاتنا توحدت فيها مقاصدنا ... فكلانا كان يطلب سلاما قائما على العدل في الشرق الأوسط، وكلانا كان يريد أن يرى مصر حرة ومزدهرة، والعالم العربي موحدا قويا.» «أعتقد أنني لعبت دورا مؤثرا ... في المداولات والمشاورات السياسية التي أدت إلى اختيار السادات رئيسا للجمهورية بعد رحيل جمال عبد الناصر.»
هذه الاعترافات ليست في الواقع مقصودة لذاتها، بل إن الهدف منها هو أن يرد هيكل، في الصفحات الأولى من كتابه، على ذلك الاعتراض الذي يمكن أن يوجهه أكثر الناس سذاجة إلى هيكل حين يقرأ ما كتبه عن السادات في «خريف الغضب»: كيف تهاجم السادات إلى هذا الحد مع أنك كنت من أقوى دعائم حكمه؟ وهكذا قرر هيكل، بذكاء شديد، أن ينزع مخالب القارئ المعترض منذ البداية، ويقول له في الصفحات الأولى: نعم، لقد كنت قريبا جدا منه، ولكن طريقينا قد افترقا فيما بعد لأسباب متعلقة بالمبادئ السياسية.
هذا اعتراف يؤدي، إذا ما صدقه القارئ، إلى استبعاد أية شبهة للتناقض بين مواقف هيكل القديمة والجديدة، وإلى تجريد سلاح كل من يحاول الإشارة إلى الاندماج والانسجام التام الذي كان قائما بين هيكل والسادات في وقت من الأوقات، وإلى إعطاء هيكل كل الحق في هجومه المتأخر على السادات، بعد أن كان من أقوى أنصاره.
ولكن، هل يفلح هذا الدفاع حقا في تبرئة هيكل من تهمة التناقض، والتقلب من عهد إلى عهد؟ في رأيي الخاص أنه لا يفلح.
ذلك لأن هيكل قد ارتكب في كتابه خطأ قاتلا، هو إشاراته الطويلة إلى الجوانب الشديدة السلبية في تاريخ السادات قبل أن يتولى الحكم، هذه الإشارات لو كانت قد صدرت عن كاتب محايد لم يرتبط بالسادات في أي وقت ارتباطا عضويا وثيقا، لكانت مصدرا عظيم القيمة للمعلومات عن عادات وممارسات حاكم مثير للكثير من الجدل، ولكن صدورهما عن هيكل بالذات يلحق به هو ذاته أفدح الأضرار؛ ذلك لأننا لن نجد عندئذ عذرا نبرر به تعاطف هيكل مع السادات «كإنسان» في السنوات الأولى من حكمه، أعني في وقت كانت فيه جميع عيوب السادات السابقة معروفة للجميع، فكيف تعاطف هيكل مع السادات كإنسان في الوقت الذي كان يعرف فيه عنه كمية هائلة من المعلومات تشينه إلى أبعد حد كإنسان؟ إننا لو شئنا الدقة لقلنا إن ما قاله هيكل، أخيرا، عن طفولة السادات وشبابه والسنوات التي قضاها «في ظل عبد الناصر» بكل ما اتسمت به من فساد ورشاوى واتصال بجهات مريبة وانتفاع من أثرياء العرب، كل ذلك لا يدين هيكل في تعاطفه بعد ذلك مع السادات فحسب، بل يدين عبد الناصر في قبوله شخصا كهذا ضمن المسئولين في حكمه، ثم وقوع اختياره عليه هو بالذات ليكون خليفة له، والأهم من ذلك أن هذه المعلومات تدين أسلوب الحكم الذي يسمح لشخص يتسم بكل هذه العيوب بأن يصمد طوال كافة تقلبات العهد، ثم يصعد إلى المرتبة العليا التي لا ينازعه فيها أحد، هذه كلها أمور واضحة، لا تشفع فيها كلمات هيكل التي حاول بها أن يخفف مرارة الحقيقة في الصفحات الأولى من كتابه.
ولكن يبدو أن هيكل لم يكن مرتاحا كل الارتياح إلى العذر الذي قدمه لقرائه، ولم يكن مطمئنا كل الاطمئنان إلى أنهم سيقتنعون به، وهكذا نراه بعد قليل يقدم عذرا آخر فيقول: «وأظن أيضا أنني لم أكن غافلا عن بعض أسباب القصور فيه، لكني تصورت أن أعباء المنصب ووقر المسئولية سوف تقوي كل العناصر الإيجابية في شخصيته، وسوف تساعده في التغلب على جوانب الضعف فيها. كان في ذهني باستمرار نموذج الرئيس الأمريكي هاري ترومان، الذي خلف فرانكلين روزفلت في مقعد الرئاسة الأمريكية قرب نهاية الحرب العالمية الثانية؛ فقد بدا ترومان في ذلك الوقت، وبعد روزفلت، شخصية باهتة ومجهولة لا تستطيع أن تقود الصراع الإنساني الكبير في الحرب العالمية الثانية إلى نهايته المطلوبة والمحققة، ولكن ترومان، أمام تحدي التجربة العملية، نما ونضج وأصبح من أبرز الرؤساء الأمريكيين في العصر الحديث، ولقد تصورت أن نفس الشيء يمكن أن يحدث للسادات.»
هنا يواصل هيكل أسلوبه في مخاطبة الناس كما لو كانت عقولهم ملغية، فهو الآن يقول، مبررا تقلباته: نعم، لقد كنت أعرف أن في الرجل عيوبا، ولكني تصورت أن الحكم سيصلحه! ما الذي يرغمك على هذا التصور يا سيد هيكل؟ ألم يخطر ببالك الاحتمال الآخر، والأوضح، وهو أن الحكم والقوة ستزيده فسادا؟ وهل كانت مجموعة العيوب التي أحصيتها في مختلف مراحل حياته، من النوع الذي يمكن أن ينصلح تحت وطأة مسئوليات الحكم؟ إنك تتحدث عن تقوية العناصر الإيجابية في شخصيته، والتغلب على عناصرها السلبية، ولكنا لم نسمع منك، طوال الفصول التي تحدثت فيها عن السادات قبل توليه الحكم، ذكرا لأي عنصر إيجابي، فعلى أي شيء إذن كنت تعلق آمالك؟
أما قصة روزفلت وترومان، فهي أقبح عذر يمكن تصوره لأقبح ذنب؛ ذلك لأن أحدا لم يقل عن هاري ترومان إنه أصبح من أبرز الرؤساء الأمريكيين في العصر الحديث، فتاريخ ترومان يرتبط في الأذهان بقرار بشع استهل به حكمه، وما زالت الإنسانية تلعنه من أجله حتى اليوم، وهو قرار إلقاء القنبلتين الذريتين في هيروشيما ونجازاكي - وهما القنبلتان الذريتان الوحيدتان اللتان استخدمتا ضد البشر حتى اليوم. فهل هذا ما يقصده هيكل بعبارة «قيادة الصراع الإنساني الكبير في الحرب العالمية الثانية إلى نهايته المطلوبة»؟ أما في أذهاننا نحن العرب، فإن اسم ترومان يرتبط بتاريخ أسود ستلعنه من أجله كل أجيالنا التالية: هو القيام بأهم دور في قيام دولة إسرائيل، والاعتراف بها بعد خمس دقائق من إعلان قيامها، والضغط على أكبر عدد ممكن من دول العالم من أجل الموافقة على قرار الأمم المتحدة بشأنها. فهل هذه هي الأسباب التي أصبح من أجلها ترومان، في نظر هيكل، واحدا من أعظم رؤساء أمريكا في العصر الحديث؟ أستطيع، من وجهة نظري الخاصة، أن أعطي هيكل كل الحق في تشبيهه لأنور السادات بترومان، إذا كان المقياس الذي نتبعه هو مقدار الخدمات التي يؤديها الرئيس لدولة إسرائيل!
إنها، إذن، حجج لا تقنع أحدا، تلك التي ساقها هيكل لتبرير ارتباطه الوثيق بالسادات في السنوات الأولى من حكمه، ولم يكن اختياره أن يستخدم حججا متهافتة كهذه إلا حلقة أخرى في سلسلة التعتيم الفكري الذي يلجأ إليه أولئك الذين نشئوا وازدهروا وترعرعوا في ظل نظم حكم متسلطة، لا ديمقراطية، تستخف بعقول الناس وتستهين بذكائهم.
وحقيقة الأمر أن قصة ارتباط هيكل بالسادات أطول وأعقد من ذلك بكثير ... •••
هناك شواهد كثيرة وقوية على أن حكم عبد الناصر كان يضم، في سنواته الأخيرة على الأقل، «أجنحة» متنافسة ومتعارضة، كان هناك الجناح العسكري الممسك بقوة الجيش، والملتصق بالمشير عامر (شمس بدران وقادة الأسلحة المختلفة قبل 1967م)، وكان هناك الجناح التنفيذي الملتصق بعبد الناصر في عملية الحكم (سامي شرف، شعراوي جمعة، محمد فايق ... إلخ) وكان يقود هذا الجناح علي صبري، وكان هناك الجناح الهادئ، المتربص، الذي يحتفظ بعلاقاته بعبد الناصر بحذر شديد، دون التورط في ممارسات تثير المتاعب: أنور السادات، محمود فوزي، سيد مرعي، حافظ بدوي، وأكاد أجزم بأن هيكل كان ينتمي إلى هذا الجناح الأخير؛ فالشواهد قوية على أن هيكل كان من مجموعة أنور السادات قبل أن يتولى هذا الأخير الحكم بوقت غير قصير.
ويكفي، كمثال واحد للتدليل على ذلك، أن أستشهد بما قاله هيكل نفسه في مقاله الذي أشرت إليه في موضوع سابق: «ما أكثر الشجاعة في هذه الأيام على الغائبين!» فهو في هذا المقال يروي قصة اعتقال عبد الناصر لأحد المثقفين المرتبطين بهيكل في جريدة «الأهرام»، وكيف غضب هيكل ولازم بيته أياما دون أن يفاتح عبد الناصر في الموضوع. والذي يهمنا في هذا أن أنور السادات كان هو الذي اتصل به قائلا: «ما هذا الذي تفعله؟ إنك تترك الجو هنا لكل من يريد أن يستثير ويحرض.» ثم قال: «اتصل به (بعبد الناصر) فورا وتحدث معه بنفسك، ولا تترك المجال مكشوفا لآخرين.» وبعد يومين عاود السادات الاتصال بهيكل قائلا: «يظهر أنك جننت، لماذا تترك الأمر بينك وبينه لكل من يريد أن يتبرع بكلمة؟»
هنا يظهر بوضوح أنه كانت هناك مجموعتان، واحدة يمكن أن تحرض عبد الناصر ضد هيكل، وأخرى حريصة على سلامة هيكل ضد المجموعة الأخرى، وفيها أنور السادات، ولا شك أن تطوع السادات بكل هذه النصائح إلى هيكل يدل على أنهما كانا ينتميان إلى معسكر أو جناح واحد.
وربما وصف البعض هاتين المجموعتين وصفا أيديولوجيا، فقال إن الأولى (علي صبري) يسارية، والثانية (السادات) يمينية، ولكن هذا في رأيي وصف لا يصدق إلا في حدود ضيقة، فقد تعاملت المجموعة الأولى بالفعل مع السوفييت في وقت كانت مصالحهم فيه تقتضي ذلك، وأنا أشك جدا في أن يكون هناك أي أساس أيديولوجي حقيقي لهذا التعامل، أما مجموعة السادات فكان موقفها أوضح، هو الميل الشديد إلى الجانب الأمريكي، وإن كان هيكل، داخل هذه المجموعة، أشد حذرا وأقل انكشافا بكثير من الآخرين.
وعلى أية حال فإن الأحداث التالية أثبتت صحة هذا التقسيم إلى جناحين حول عبد الناصر: إذ إن الخلافات بين الجناحين خرجت إلى العلن بعد موت عبد الناصر، وكان فرسان المجموعة المحيطة بالسادات هم هيكل ومحمود فوزي (الذي عينه السادات رئيسا للوزراء)، وبذل هيكل، كما سنرى فيما بعد ، مجهودا خارقا للعادة لكي يفضح المجموعة الأخرى، ويبرر إلقاء السادات بأهم أعضائها في السجون؛ ولكي يثبت أن طريق السادات هو الطريق الصحيح.
وربما تساءل البعض: ما الذي كان يدعو عبد الناصر إلى أن يتعامل مع مجموعتين متنافرتين إلى هذا الحد؟ (لاحظ أن مجموعة عبد الحكيم عامر قد تمت تصفيتها نهائيا بعد هزيمة 1967م)، وهذا سؤال يصعب الإجابة عليه؛ إذ إن ما يبدو للوهلة الأولى، ولأصحاب النوايا الطيبة، هو أن التعامل مع مجموعتين متنافرتين يعطل وضع البرامج وتنفيذ السياسات التي كان يضعها عبد الناصر، وعلى سبيل المثال، فإن الإجراءات الاشتراكية لن تستفيد من وجود أشخاص مثل السادات ومرعي وعثمان أحمد عثمان في قلب النظام، ولا جدال في أن هؤلاء لم يقبلوا تلك الإجراءات إلا خوفا من عبد الناصر أو مسايرة له. وهكذا يظل السؤال قائما، والرد الوحيد الذي أتصوره هو أن نظام الحكم كان بسبب عدم ديمقراطيته، مرتكزا على القوة، والقوة تحتاج دائما إلى توازنات، ومن المفيد، من أجل استقرار النظام، أن تكون هناك مجموعتان تنشغل كل منهما بالأخرى، ويمكن ضرب إحداهما بالأخرى إذا ما تمادت في ممارسة قوتها ... أما تأثير ذلك على مصر، فعلمه عند الله! •••
ثم جاء السادات إلى الحكم، وأصبحت الفرصة متاحة لجناحه لكي يبسط سلطته ونفوذه، وكان أول ما فعله هيكل هو أنه قام بدور رئيسي في تأكيد أحقية السادات بخلافة عبد الناصر على أساس «الشرعية»، أي لأن عبد الناصر هو الذي اختاره نائبا، وهكذا يقول في كتابه الأخير: «أدرنا الحملة الانتخابية للسادات في الاستفتاء على رئاسة الجمهورية (وكان المشرف عليها هو هيكل شخصيا) على أساس أنه كان الرجل الذي اختاره جمال عبد الناصر لهذا المنصب بنفسه حين أحس باحتمال خطر على حياته.»
هل ترى الخدعة أيها القارئ العزيز؟ ألا تشعر بأن عقلك قد أهين عندما تقرأ هذا الكلام؟ لقد أراد هيكل أن يقنعنا من قبل بأن اختيار عبد الناصر للسادات كان مجرد صدفة، ولم يكن مقدرا له أن يدوم أكثر من أسبوع، وكان يرجع فقط إلى أن السادات «عليه الدور»، وكان في ذهن عبد الناصر أن يغير قراره ولكنه انشغل، ولم يكن بقاء السادات نائبا حتى موت عبد الناصر إلا ضربة حظ جعلت الرئيس «ينسى» هذا الموضوع. حسنا، لنصدق هذا كله، ولكن إذا صح أن هذا هو رأي هيكل في الموضوع، فكيف سمح لنفسه بأن يقود الحملة الانتخابية للسادات بحجة تفترض أن اختيار عبد الناصر له كان اختيارا سليما، وحقيقيا، وتعبيرا عن رغبته الأصيلة والدائمة؟ إن هيكل نفسه - تبعا لما قال - لم يكن مقتنعا بهذا الاختيار العارض، بل يبدو أنه ناقش عبد الناصر فيه، فكيف يدير هيكل حملته على أساس أن الاختيار كان أصيلا؟ إن المسألة لا تحتمل إلا أحد أمرين: فإما أن عبد الناصر كان قد اختار السادات؛ لأنه كان مقتنعا به، وعندئذ تكون قصة «الدور» و«النسيان» قصة ملفقة (ويكون عبد الناصر ذاته قد أعطى شعبه أسوأ «هدية» لمستقبل أيامه)، وإما أن عبد الناصر كان قد اختاره بصورة مؤقتة، ولم يكن ينوي أن يحتفظ به إلى النهاية، وفاجأه الموت قبل أن يعدل عن رأيه، وعندئذ يكون هيكل قد أدار حملة السادات الانتخابية على أساس علمية غش كبرى موجهة ضد الجماهير البريئة الذاهبة إلى صناديق الاستفتاء. •••
إذن فقد أصبح السادات، بفضل مؤازرة هيكل وتعاونه معه قلبا وقالبا، رئيسا للجمهورية، ولكن الأمر لم يستتب له على الفور، فقد كان هناك الجناح الآخر، الذي لم يكن مقتنعا بالسادات إلا بوصفه رئيسا انتقاليا، ولم يسكت عن ترشيحه إلا لكي يتم عبور تلك اللحظات الحرجة التي أعقبت وفاة جمال عبد الناصر بسلام، وهكذا بدأت الاختلافات والمناوشات والانقسامات، وكان الخلاف محتدما على أشده بين الجناح الناصري التنفيذي، الذي كان أكثر عددا وأقوى رسوخا بكثير، وبين الجناح الساداتي، الذي كان يتمتع بميزة هامة، هي كرسي رئاسة الجمهورية (وهو أمر له أهميته القصوى في نظام حكم غير ديمقراطي)، وكذلك دهاء أقطابه وحنكتهم السياسية، وعلى رأسهم هيكل.
المهم أن الصراع أسفر في النهاية عن انتصار ساحق، وشديد السهولة، للجناح الساداتي على الجناح الآخر الذي كان، رغم سيطرته على أهم مرافق الدولة ومعظم التنظيمات السياسية، يدير دفة الصراع بقصور شديد، وبعد أن حسمت نتيجة الصراع لصالح السادات فيما عرف بحركة التصحيح (وفيما بعد: ثورة التصحيح) في 15 مايو 1971م، أي بعد ستة أشهر من اعتلاء السادات الحكم، أصبح الطريق مأمونا، وكتب هيكل مسجلا موقفه من هذا كله «بصراحة»، ومن المهم جدا أن نتابع هذا الذي كتبه هيكل في تلك الفترة لعدة أسباب:
أولا:
أن هذه الفترة تمثل منعطفا حاسما في السياسة المصرية، تحددت فيه بالتدريج معالم الخط المميز لحكم السادات في السبعينيات وأوائل الثمانينيات.
ثانيا:
أن كتابات هيكل، بما تضمنته من حماسة شديدة للسادات، تكشف عن العلاقة العضوية الوثيقة بين الرجلين، وتؤكد أن هذه العلاقة كانت قائمة منذ عهد عبد الناصر، وخرجت إلى العلن عندما تخلص السادات من منافسيه.
ثالثا:
أن هذا التمجيد الذي أغدقه هيكل على السادات، حدث في وقت كان يعلم فيه من هو السادات، وكان يعرف تاريخه الذي رواه في «خريف الغضب»، والذي كان يمتد على مدى ثلاثين عاما، من أوائل الأربعينيات حتى أواخر الستينيات.
رابعا:
أن هذه الكتابات تتحدث في كثير من الأحيان عن وقائع رويت فيما بعد في «خريف الغضب»، ولكنا نجد الواقعة الواحدة تصطبغ بلونين مختلفين كل الاختلاف: ساطع براق في عامي 1971 و1972م، وأسود قاتم في 1983م، الفرق بين الاثنين، بالطبع، يكشف عن مستوى القيم الأخلاقية لدى أنصار مدرسة معينة في الصحافة والسياسة، لا تجد في ارتداء الأقنعة وخلعها، تبعا للعهود ووفقا للمصالح، أي عيب أو نقيصة.
خامسا:
أن هذه الكتابات تثير سؤالا على جانب كبير من الأهمية، هو: إلى أي مدى كان هيكل ناصريا؟
يصف هيكل، في أول مقال يكتبه بعد أحداث 15 مايو، أيام الأزمة فيقول: «لقد عشت لحظة التفجير، ومن حسن الحظ أن التدمير لم يقع ، وتلك شهادة تاريخية لأنور السادات وشجاعته الأدبية والمادية في لحظات بالغة الصعوبة والخطر.»
لقد كنت أول من دعاه الرئيس أنور السادات إلى بيته صباح الأربعاء 12 مايو ولم يستدعني بالتليفون، كما تعود أن يفعل، ولكنه بعث إلي بكريمته تدق باب بيتي في الصباح الباكر ...» (تأمل مدى التعاون والتفاهم بين الرجلين في لحظة التحول).
يكتب هيكل على لسان السادات، في حملة الدعاية التي شنها لدعم مركزه بعد الحركة: «إن لدي الشجاعة أن أقف أمام الملأ وأقول بأعلى صوت، إنني لا أريد أن أكون رئيسا لهذا البلد وفق شروط يمليها من يدعون أنهم ولاة الأمر علي، إنني أعمل بضميري ولن أعمل بإملاء أحد علي، وأقوى سلاح أملكه في يدي أنني لا أتمسك بأن أظل رئيسا.» «كان أنور السادات في هذه الساعة الحاسمة من التاريخ هائلا بأكثر مما يستطيع أن يتصور أو يصف أحد، كانت قراراته لمواجهة التطورات المفاجئة، مزيجا مدهشا من الهدوء والحسم.» «كانت لحظة حاسمة في تاريخ مصر ... وكانت لحظة رائعة نبيلة.»
1
يتحدث هيكل عن انتصار ذلك الذي قال عنه فيما بعد، إنه تولى الحكم بصدفة تاريخية غير مقصودة، فيقول: «عشنا المحنة مرتين في السنوات الأخيرة، ولولا عناية الله مع جمال عبد الناصر مرة (يقصد أيام تمرد عبد الحكيم عامر بعد الهزيمة)، وعناية الله مع أنور السادات مرة ثانية؛ لسقطت مصر في أعماق الظلام والخوف.»
يصف هيكل الحوار الذي كان يدور بين السادات وخصومه فيقول: «كان أنور السادات صادقا، ولم يكونوا صادقين.» «كان أنور السادات يتصرف على سجيته؛ سجية مصري أصيل مفتوح القلب والعقل معا.» «حدثت المعجزة في المرة الثانية التي استفقنا الآن من هولها؛ بسبب أن مواطنا تحرك ضميره، فذهب بأشرطته في الليل إلى رئيس الجمهورية يضع الحقيقة تحت تصرفه، ثم كانت بعد ذلك شجاعة رجل في موقع المسئولية الأولى، تصرف بجرأة نادرة في لحظات خطر محيق.»
2 «قال الرئيس السادات بلهجته الودودة: محمد ... ودار بيننا نقاش طويل كان فيه الرئيس كريما وحليما كعادته.»
3 «هذه المرحلة التي ستجعل من أنور السادات - بإذن الله - قائدا تاريخيا لشعبه وأمته؛ لأن القيادة التاريخية مرتبة أعلى بكثير من الرئاسة مهما كان وصفها.»
4 «لقد أثبت أنور السادات ذلك عمليا في معركته ضد مراكز القوى، كان أمامها أعزل من أي سلاح ... وكانوا أمامه ومعهم كل أدوات السلطة في مصر، وكنسهم من فوق الأرض كنسا؛ لأن الجماهير كانت معه.»
5
ويصل الأمر بهيكل إلى حد أن يمتدح في السادات نفس المظاهر التي هاجمه من أجلها فيما بعد في «خريف الغضب»، فنشاط السادات السياسي في شبابه، الذي وصف في «الخريف» بأنه عمالة للقصر، وفقره العائلي الذي وصف بأنه سبب عقدته النفسية وعلة تكالبه على مظاهر الترف، كان لهما وصف مختلف تماما في عام 1972م: «كان أنور السادات أكثر ما يكون أمانة حين قال: إنني أفهم ما يعانيه الشباب، وأنا الذي خرجت من طين مصر إلى التمرد، وإلى السجن وإلى التشرد، ثم إلى الثورة.» ويواصل هيكل كلامه قائلا: «يقول أنور السادات نفسه: كنت دائما من قاع السلم الاجتماعي في مصر، من قلب الطين، ولقد تعلمت بمعجزة، وعندما أتممت تعليمي وجدت أن العمل الوطني أهم بالنسبة لي من أي وظيفة مع حاجتي الشديدة إلى مرتبي ... وجدت نفسي في السجن، متهما بالتعاون مع الألمان، وكان ذلك صحيحا، ولكن تعاوني مع الألمان لم يكن من أجل هتلر وإنما من أجل مصر.»
6
أما استراحة القناطر، التي صارت فيما بعد، مع غيرها من الاستراحات، نموذجا للترف الذي يتمتع به السادات على حساب الشعب، فقد قال عنها هيكل: «كنت على موعد مع الرئيس السادات في استراحة القناطر التي يفضل الإقامة فيها كلما استطاع؛ لأنها تجعله بقرب الريف الذي يعتبره مصر الأصيلة ومصر الحقيقية.»
7
إن هذه الاقتباسات تغني عن كل تعليق، وحسبنا أن نقول إن الصفات المعنوية والأخلاقية للشخص الواحد لا يمكن أن تتغير في مرحلة واحدة من حياته، ولكننا عند هيكل نجد أنفسنا إزاء ساداتين لا سادات واحد: أحدهما كان بطلا عندما كان هيكل راضيا عنه وشريكا له، والآخر كان منحرفا عندما حل «خريف الغضب»، ويظل السؤال الأهم ، بعد هذا كله، هو: إذا كان لدينا «ساداتان»، فكم هيكل هناك؟
في الحديث السابق كله كانت هناك إشارات كثيرة إلى الصراع بين جناحين في ظل عبد الناصر، والأمر اللافت للنظر هو أن كلا الجناحين كان يؤكد أنه هو الذي يمثل تراث عبد الناصر على حقيقته، ولما كان هيكل قد انتمى، بقلبه وقالبه، إلى الجناح الساداتي في تلك الفترة، فقد كان من المحتم أن يؤكد، في كتاباته، أن السادات وريث الناصرية الأصيلة، وأنه هو الذي يعبر عن مبادئها خير تعبير.
فهو يقول عن حركة التصحيح: «إننا لسنا أمام بداية جديدة، وإنما نحن على طريق الاستمرار، وإلا وجدنا أنفسنا نقع في شرك ينصبه أعداء الثورة السياسية والثورة الاجتماعية.»
8
ويكتب هيكل عن حوار دار بينه وبين السادات حول الناصرية فيقول: «قال أنور السادات بالأمانة كلها: إنني لا أرى طريقا آخر غير طريق عبد الناصر.»
9
ويدافع هيكل عن ناصرية السادات الأصيلة فيقول: «عبد الناصر والناصرية لا يمكن رؤيتهما من خلال ثلاثة أو أربعة أساءوا إليه وإليها وإلى أنفسهم، وإنما يرى وترى من خلال كثيرين أحسنوا، أنور السادات كان هو الذي اختاره واستخلفه من بعده، ومع أنور السادات مئات من المعاونين والمساعدين يقودون العمل المصري في كل الميادين.»
10
ويدعو شعب عبد الناصر إلى الوقوف وراء السادات فيقول: «إن قيادة أنور السادات، على طريق جمال عبد الناصر، هي الممثل الشرعي لحركة الثورة الوطنية والقومية في المرحلة الراهنة، وظني أن هذه القيادة وتأييدها إلى آخر المدى هو العاصم الحقيقي في هذه الظروف من جاهلية اليمين المتخلف وجهل اليسار المغامر.»
11
ولكن هيكل في الوقت ذاته كان يمهد للتغيير، وعندما كتب في نوفمبر 1970م مقالا بعنوان: «عبد الناصر ليس أسطورة» أثار ضجة كبرى لدى الفريق الآخر، الذي كان يؤكد تمسكه بالناصرية كما وضع معالمها عبد الناصر نفسه، ولقد دار خلاف طويل بين الفريقين حول أسباب الصراع بينهما، وهو خلاف لا يعنينا هنا أن ندخل في تفاصيله ونصدر حكما على طرفيه، بل إن ما يعنينا هو أن هيكل، الذي أعلن نفسه حاميا لتراث الناصرية، كان في تلك الفترة يقف من الناصرية موقفا يدعو إلى التساؤل عن طبيعة انتمائه إليها.
فهو قد حارب الجناح «المتطرف»، إذا جاز هذا التعبير، وساند الجناح المعتدل، إذا جاز التعبير أيضا، ثم عاد في كتابه الأخير فهاجم الجناح المعتدل أيضا! وهكذا تظل الناصرية عنده هي ما يرتبط بشخص عبد الناصر فقط، لا بأي تنظيم معين انبثق عنها.
وعندما حارب الجناح المتطرف، هاجمه على أسس متعددة؛ فهو يصف أقطاب هذا الجناح بالجهل الشديد، إلى حد أنه يدون في أحد مقالاته محتويات شريط لجلسات تحضير أرواح حضرها هؤلاء الأقطاب، مع أستاذ جامعي اتخذوه وسيطا، وأخذوا فيها يسألون «الروح» عن أخطر الأمور المتعلقة بتخطيط حركتهم وتوقيتها،
12
وإذا صحت القصة (وأنا شخصيا غير مقتنع بها)، فإنها تلقي ظلالا من الشك على العهد الناصري كله، الذي كان هؤلاء يشغلون فيه مراكز القوة الحقيقية، وبالطبع لا يرى هيكل، كعادته، أن ما يقوله عن هؤلاء هو قبل كل شيء طعن في عبد الناصر، الذي أسلم مقاليد بلده لأشخاص على هذا المستوى، بل هو طعن في هيكل بدوره، الذي رضي بأن يكون فيلسوفا لعهد يضم في داخله مثل هذه النوعيات.
أما تأييده للجناح المعتدل، فكانت عواقبه وخيمة: إذ إن هذا الجناح هو الذي تولى، في السبعينيات، القضاء على كل المقومات الرئيسية للناصرية، كما حددها هيكل نفسه: أعني الحياد الإيجابي والاستقلال الوطني والتصدي للإمبريالية والصهيونية، والنمو المستقل في ظل اقتصاد مخطط، أي أن نفس المجموعة التي اختار هيكل الوقوف في صفها، كانت هي التي تولت تصفية الناصرية، حسب مفهومه لها.
وحين عاد هيكل بذاكرته إلى الناصرية بعد عبد الناصر، وجد التنظيمات الناصرية مفككة وعاجزة عن العمل السري أو العلني، ومفتقرة إلى القيادات القادرة،
13
ولكن ناصريا معروفا هو «فريد عبد الكريم» يؤكد تماسك الناصرية وثبات مبادئها، وينفي الفكرة القائلة إنها تقوم على شخصية الزعيم، مع اعترافه بالدور الأساسي الذي تلعبه هذه الشخصية، أما «عبد الهادي ناصف»، وهو بدوره ناصري مخلص، ومن النماذج النقية لهذا الاتجاه، فقد كانت معاركه مع هيكل قديمة العهد، منذ أن نشر هيكل مقال «تحية للرجال» الذي تضمن مبالغة شديدة في تصوير صعوبة عبور قناة السويس، ورد عليه «ناصف» بهجوم مضاد عنيف على اتجاهات هيكل التي رأى فيها ابتعادا عن الناصرية، وما زالت المعركة بين الاثنين قائمة.
14
المهم في الأمر أن كثيرا من الناصريين المتمسكين بمبادئهم يتشككون في ناصرية هيكل؛ لأسباب عدة:
فهو قد هاجم أهم رموز الناصرية بمجرد موت عبد الناصر، بحيث يمكن أن ينظر إلى هجوم هيكل عليهم بوصفه هجوما على شيء في صميم الناصرية ذاتها. وهو قد أبدى تأييدا لا شك فيه للتحولات الساداتية في السياسة الداخلية والخارجية، خلال الفترة الحاسمة التي سبقت حرب 1973م، وهي التحولات التي سنرى فيما بعد أنها تنطوي - من وجهة نظر معينة - على بذرة الاستسلام لإسرائيل وفتح الأبواب لأمريكا، وتخريب الاقتصاد الوطني باسم الانفتاح، والأهم من ذلك أنه كان من الدعائم الكبرى لحكم السادات، في الفترة الحرجة الأولى، على الرغم من كل ما يعرفه عن الاختلاف الهائل بين السادات وعبد الناصر في الشخصية والفكر والاتجاه.
وهكذا يتبرأ كثير من الناصريين المتمسكين بعقيدتهم من هيكل، بل ويناصبونه العداء، وعندما يستعرض المرء تطور مواقف هيكل، منذ بدء ارتباطه بعبد الناصر حتى اعتقاله القصير الأمد في عهد السادات، لا يملك إلا أن يتساءل: هل كان أي أساس حقيقي لتلك العلاقة التي ارتبط فيها اسم هيكل بالناصرية، باستثناء ولائه لشخص عبد الناصر؛ ذلك الولاء الذي كان في الوقت ذاته المصدر الأول لشهرته ونفوذه؟ سؤال أترك الإجابة عنه للناصريين أنفسهم، أما عن نفسي فإنني كلما صادفت حالة من تلك الحالات التي تسيء فيها كتابات هيكل إلى عبد الناصر أبلغ الإساءة، دون قصد منه، فإني لا أملك إلا أن أدعو لعبد الناصر بأن يرحمه الله من أصدقائه، أما أعداؤه فقد كان هو ذاته كفيلا بهم!
الفصل الثامن
الجذور
ليغفر لي الأستاذ هيكل استعارتي عنوان هذه الحلقة من كتابه، وربما كان عذري أنه هو بدوره قد استعارها من كتاب «أليكس هيلي» المشهور ، وكان موفقا في استعارتها، لا لأن الحديث فيها كان يدور حول الأصول العائلية الأولى للسادات فحسب؛ بل لأن هذه الأصول العائلية كانت، في حالة السادات، مثلما كانت في حالة بطل أليكس هيلي، زنجية أفريقية، كما يحرص هيكل على أن يؤكد.
ولكن الحديث عن هذه الأصول العائلية، اقتصادية كانت أم اجتماعية أم لونية، ليس في رأيي هو «الجذور» الحقيقية لمأساة حكم السادات، بل إنني أود هنا أن أتحدث عن «جذور» من نوع آخر، أهم وأعمق بكثير، كانت تكمن فيها بذرة التطورات التالية لسياسة السادات، وأسلوب معالجته للقضايا القومية والوطنية والداخلية، هذه «الجذور» التي حددت، منذ سنوات حكمه الأولى، اتجاهاته التالية كلها، هي التي تستحق بالفعل أن تدرس بعمق.
يمثل عاما 1971 و1972م تحولا حاسما في السياسة المصرية. كان عبد الناصر قد توفي في العام السابق وترك أمورا كثيرة معلقة، تحتمل السير في أكثر من اتجاه، وعلى رأسها مبادرة روجرز، التي كان قد أعلن قبوله لها قبل وفاته بشهور قلائل، والاستعداد العسكري لمعركة العبور، الذي كان قد بلغ في ذلك الحين درجة عالية من الإتقان، وعندما تولى السادات الحكم في أكتوبر 1970م، كان من الطبيعي أن تظل النغمة السائدة، لفترة ما، هي السير على طريق عبد الناصر، فلم يكن من الممكن أن يسير الإعلام والدعاية للرئيس الجديد في أي طريق مخالف؛ لأن الإعلان عن استمرار النهج السابق هو أفضل ما يمكن عمله في مثل هذه الظروف التي يختفي فيها رئيس قوي ذو شهرة واسعة وماض طويل، ويحل محله خلف لا يزال، إلى حد بعيد، مجهولا، ولا يزال الناس يشعرون بأن كرسي الحكم كبير عليه.
كانت فكرة «السير على درب عبد الناصر» هي إذن الوحيدة الممكنة في تلك الفترة الأولى، مهما كان الاتجاه الحقيقي الذي تسير فيه نوايا الرئيس الجديد وخططه، ولكن بعد حركة مايو 1971م، التي تخلص فيها السادات بضربة واحدة من خصومه الذين شكلوا «جناحا آخر» مناوئا له، طوال الشهور السبعة الأولى من حكمه، بعد هذه الحركة أصبح للرئيس الجديد من حرية الحركة ما يسمح له بأن يبدأ تطبيق أفكاره الخاصة. ولكن الحكمة كانت تقتضي أن يسير كل شيء بتدرج شديد، بحيث يبدو في أول الأمر أن كل شيء سيظل على حاله، ثم تطرح الأفكار الجديدة بصورة عابرة في البداية؛ لمجرد التمهيد، وبعد ذلك يبدأ الإلحاح تدريجيا على هذه الأفكار القديمة، ومن الممكن أن تظل هذه معايشة للأفكار القديمة وقتا ما، ولكن هذه الأخيرة تذبل شيئا فشيئا، إلى أن يتبلور الاتجاه الجديد، ويحتل الميدان وحده، في نهاية الأمر. كل شيء إذن ينبغي أن يتم ببطء، وحذر، وتدرج، ولكن الهدف واضح، ومحدد مقدما، وهو تحويل الاتجاه السياسي في مصر تحويلا جذريا، ولا بأس من الاستشهاد، في عملية التحويل هذه، بعبد الناصر على الدوام، وخاصة إذا كان ذلك على صورة حديث خاص أو أقوال أدلى بها لهذا الشخص أو ذاك، ما دام الموتى لا يستطيعون التكذيب، فالاستعانة بعبد الناصر في عملية التحول ضد سياسة عبد الناصر، هي أسلم الوسائل وأضمنها لتحقيق التغيير المطلوب بهدوء وسلاسة، بحيث لا يشعر الناس به إلا بعد أن يكون قد تم.
في هذا التحول المخطط، المرسوم بذكاء وبراعة، كان من الطبيعي أن يكون للجهاز الإعلامي، الذي يتربع على قمته هيكل، دور أساسي؛ إذ إن الإعلام هو الذي يهيئ عقول الناس للتغيير، وهو الذي يمهد الطريق للسياسات المرسومة، ولو تتبع المرء خط السير الذي سلكته كتابات هيكل في هذه الفترة لوجد المخطط المرسوم للتحول ينفذ فيها ببراعة هائلة، وبتدرج بطيء ولكنه محدد الاتجاه، ولتبين له أن عملية تهيئة الأذهان للتغيير قد ألقيت على عاتق هيكل، الذي اضطلع بها بكفاءة عالية.
فما هو هذا التغيير الذي كان يراد في السياسة المصرية؟ كانت هذه السياسة، في السنوات الواقعة بين هزيمة 1967م وموت عبد الناصر في سبتمبر 1970م، تتلخص في الاعتماد المتزايد على المساعدة السوفييتية، اقتصاديا وعسكريا بوجه خاص، ولم يكن هناك مفر، في ظروف تلك الفترة، من سلوك هذا السبيل؛ ذلك لأن أمريكا كانت، قبل حرب 67 وبعدها، قد انحازت كلية لإسرائيل، وكانت شحنات الأسلحة المرسلة إليها، والتي زادتها قوة على قوتها الأصلية، تستهدف منذ ذلك الحين أن تصبح إسرائيل متفوقة عسكريا على الدول العربية مجتمعة، وكان الحل الوحيد هو الاعتماد على الطرف المضاد في الصراع العالمي من أجل الحصول على أسلحة تعوض التفوق الإسرائيلي. وهكذا خلقت ظروف الفترة نفسها، والهدف الذي حددته السياسة المصرية لنفسها فيها، وهو إزالة آثار العدوان، خلقت وضعا يحتم مواجهة السلاح الأمريكي المتدفق على إسرائيل بسلاح سوفييتي، دون أن يعني ذلك، بأي حال، انحياز مصر كليا أو جزئيا إلى المعسكر الشيوعي، ولذا شاع عندئذ استخدام تعبير «الصداقة» في وصف العلاقات المصرية السوفييتية، وتعبير «الاتحاد السوفييتي الصديق»، وكان ذلك يقتضي في المقابل زيادة حدة اللهجة المعادية لأمريكا، ومع ذلك فإن السياسة الرسمية لم تغلق أبواب الاتصالات مع أمريكا، بوصفها قوة عظمى ينبغي أن يعمل لها حساب، وإن كان الأمل في ممارستها ضغطا على إسرائيل من أجل الانسحاب كان في هذه الفترة شبه مفقود. وفي السنة الأخيرة من حياة عبد الناصر ازداد الحضور السوفييتي في مصر، للرد على الغارات الإسرائيلية التي كانت قد توغلت إلى أعماق البلاد، وعندما زار عبد الناصر موسكو سرا في يناير 1970م، كان هو نفسه الذي طلب حضور السوفييت للدفاع عن العمق المصري عن طريق الصواريخ المضادة للطائرات، ووافق السوفييت بعد تردد، وكان حضورهم هو الذي أوقف الغارات الإسرائيلية على الأهداف المدنية في مصر، ولولا ذلك لشهدت المدن المصرية تخريبا واسع النطاق.
كانت هناك إذن حاجة حيوية إلى وجود السوفييت وإلى الأسلحة السوفييتية، يقابلها تصعيد متزايد للهجة العداء ضد الولايات المتحدة. وعندما اعتلى السادات الحكم، كان من الطبيعي أن يواصل السير، أول الأمر، في هذا الطريق، لا سيما وأن الوجود السوفييتي كان حتى ذلك الحين ضرورة حيوية لحماية الأهداف المدنية في مصر، ولكن السياسة المرسومة، في المدى الطويل، كانت هي التباعد التدريجي عن السوفييت، وطرح فكرة إمكان التفاهم مع أمريكا، ثم الدعوة إلى الكف عن معاداة أمريكا؛ لأن من الممكن «تحييدها» في الصراع العربي الإسرائيلي، وبالتدريج تتهيأ العقول للنتيجة المطلوبة، أعني إنهاء الوجود السوفييتي في مصر، وهو المطلب الأساسي لأمريكا، بحجة أنه يساعد على عملية «التحييد» هذه، وعندما يطمئن الأمريكيون إلى أنهم قد أصبحوا وحدهم في الساحة، وهم وحدهم حلفاء الطرفين المتنازعين، العربي والإسرائيلي، عندئذ يمكنهم أن يسيروا بهدوء وثقة في طريق السيطرة الكاملة على المنطقة، وتحقيق الصلح بين الطرفين اللذين أصبحا داخلين في نطاق ونفوذ أمريكا بلا منافس.
هذا هو المخطط الشيطاني الذي رسم لمصر، وللمنطقة العربية بأسرها، بمجرد تولي السادات الحكم، ولكن لنقل مرة أخرى إن التدرج الشديد كان جزءا أساسيا من نجاح الخطة، فليس من السهل أن تظل تقنع الناس، سنوات طويلة، بأن السوفييت أصدقاؤنا والأمريكان ألد أعدائنا، ثم تنتقل بهم مرة واحدة إلى القول بأن السوفييت هم الشياطين والأمريكان يمكن أن يصبحوا أصدقاء، أو يمكن على الأقل «تحييدهم»، ومن هنا كان من الضروري تنفيذ أهداف هذا المخطط الطويل الأمد خطوة خطوة، فتوضع الأسس أولا، ثم تأتي الخطوات التالية واحدة إثر الأخرى، ولما كانت مرحلة الانتقال الأولى هي الأصعب دائما، فقد كانت تحتاج إلى حذر وبراعة من نوع خاص.
وقبل أن نعرض المراحل التي مرت بها هذه الخطة، دعونا نتأمل تقييم هيكل الأخير، في «خريف الغضب» وفي غيره من كتاباته القريبة العهد، لما حدث في هذه المرحلة.
إن هيكل يتحدث بطريقة يصفها بأنها «منصفة» عن دور السلاح السوفييتي في هذه المرحلة، فيقول: «في الحقيقة، وللإنصاف، فإن الاتحاد السوفييتي لم يقصر في معاملة مصر أثناء حرب أكتوبر أو بعدها مباشرة، ولا يمكن لأحد أن يتجاهل - بصرف النظر عما قيل ويقال - أن كل ما تحقق في حرب أكتوبر تحقق بسلاح سوفييتي، وبعد حرب أكتوبر مباشرة فإن الاتحاد السوفييتي قدم لمصر 250 دبابة من طراز «تي يو 62» هدية ... تعويضا لها عن خسائر الحرب، كما أنه باع إليها فيما بعد ثلاثة أسراب من طائرات ميج 23 المتطورة، ومع ذلك فقد كانت مكافأته هي استبعاده من مؤتمر جنيف في ديسمبر 1973م ...
وفي أبريل 1974م كان السادات عنيفا في هجومه على الاتحاد السوفييتي بأنه قصر في التزامه بتعويض مصر عن كل خسائرها في القتال، دون أن يشرح الأساس الذي جعله يتصور أن هناك التزاما سوفييتيا بتعويض مصر عن خسائرها.» ثم يجري هيكل مقارنة بين ما اشترته مصر من الاتحاد السوفييتي على مدى عشرين عاما (1955-1975م) وقيمته 2200 مليون روبل ، دفعت منها 500 مليون روبل وبقي عليها 1700 مليون، ودخلت بها مصر خمس حروب: السويس، واليمن، وحرب 67، وحرب الاستنزاف، وحرب أكتوبر. أما السلاح الأمريكي فكانت قيمته 6600 مليون دولار في ست سنوات (1975-1981م) لم تدخل بها أي حرب جديدة.
ولنستمع إلى شهادة هيكل في حديث قريب العهد عن أضرار التسلح عن طريق أمريكا: «لقد كانوا (يقصد المملكة العربية السعودية) قلقين جدا مما يسمونه الخطر الشيوعي في المنطقة، وكانوا يريدون إخراج السوفييت ... وصحيح أنهم مولوا بعد ذلك شراء أسلحة غربية، ولكني ممن يعتقدون أن الأسلحة الغربية لا تستطيع أن تدافع ضد إسرائيل، إنها تصلح لعمليات في الكونغو أو السودان أو الصومال، أما إسرائيل فإنها ستتلقى أمام كل قطعة سلاح أمريكية يحصل عليها العرب، ما يوازيها، بل ما يتفوق عليها ويلاشيها.»
1
هكذا يتحدث هيكل الآن، وحديثه الحالي يعبر، بلا شك، عن اتجاه وطني واضح، ومن المهم جدا أن نتذكر تفاصيل كلماته هذه؛ لأننا سنعود الآن إلى الوراء ونستعرض بعض الفصول القديمة والهامة، لقصة علاقات مصر مع المعسكرين الكبيرين، واتجاهات سياسة التسلح، كما يرويها هيكل بنفسه في فترة التحول الذي تحدثنا عنها منذ قليل، وكم أود أن يتنبه القارئ إلى آراء هيكل في هذه الفترة الحاسمة، إذ إن أمورا عظيمة الأهمية كانت تتقرر عندئذ، وبذور الشجرة التي «أثمرت» في زيارة 1977م ومعاهدة 1979م وتحالف حكومة مصر مع أمريكا من أجل خدمة الأهداف الأمريكية في مختلف مناطق العالم الثالث - هذه البذور كانت تغرس في تلك الفترة التي سنتحدث عنها ببطء، وذكاء، وتدرج، ولكن مع إدراك واضح للهدف البعيد، وسوف أكتفي في معظم الأحيان باقتباسات مباشرة مما كان يكتبه هيكل في ذلك الحين، مع تعليقات هنا وهناك للكشف عن تسلسل التفكير وتغير اتجاهاته، وفي ظني أن أقوال هيكل وحدها تغني عن كل تعليق، وأن القراءة الذكية لها تكشف للقارئ عن كل شيء. •••
فلنبدأ بما كان يقوله هيكل في عام 1970م، وقد اخترت هذا العام؛ لأنه آخر الأعوام التي كان هيكل يكتب فيها خلال حكم عبد الناصر، أي إنه كان هنا يعرض آراءه السياسية في الوقت الذي كانت فيه سياسة الدولة الرسمية تؤيد بقوة التسلح من الاتحاد السوفييتي، وتعتبر الصداقة المصرية السوفييتية عاملا أساسيا في صمود مصر، وتمكينها فيما بعد من إزالة آثار العدوان، بينما تنظر إلى الولايات المتحدة على أنها العدو الرئيسي الذي كان أكبر عوامل هزيمتنا في حرب 1967م، فكيف كان هيكل يكتب في هذه الفترة؟ «ما زالت هناك بين قوى القومية العربية عناصر تنسى إسرائيل؛ لكي تغرق نفسها في حرب مقدسة مع الشيوعية، بينما الدول الشيوعية هي التي وضعت سلاحها في يد العرب، ولولاه لما كان هناك أمامهم بديل عن الاستسلام.»
2 «منذ يونيو 1967م ... فإن دور الاتحاد السوفييتي وأثر هذا الدور هو الذي ساعد الأمة العربية على تحقيق إرادتها بالصمود ضد الأمر الواقع الذي حاول تحالف الاستعمار والصهيونية فرضه عليها عسكريا». «المناورة الأمريكية واضحة أمام أي عربي، فهي تريد عزل العرب عن الاتحاد السوفييتي لا لكي يخرج الصراع العربي-الإسرائيلي من نطاق الحرب الباردة بين القوى الكبرى ... ولكن لكي يبقى الطرف العربي تحت رحمة الأمر الواقع الذي يفرضه السلاح الأمريكي الذي تمسك به إسرائيل.» «الاتحاد السوفييتي له دور في الشرق الأوسط بحكم صداقته للعرب، وهو دور أوجده العرب بأنفسهم قبل أن يوجده الاتحاد السوفييتي لنفسه؛ ردا على دور الولايات المتحدة وارتباطها بإسرائيل.»
3 «دور الاتحاد السوفييتي الكبير والخطير ليس فقط في إعادة تسليح الجيش المصري، ولكن أيضا في إرسال المئات من خبرائه للمشاركة في إعداد الجيش المصري للقتال على مستوى الحرب الحديثة، وهو بهذا يسجل سابقة جديدة في التاريخ؛ لأن الاتحاد السوفييتي بهذه السابقة كان أول بلد أوروبي يبعث بالعسكريين من أبنائه إلى أرض آسيوية وأفريقية، لا لكي يسيطروا ويستعمروا ، ولكن لكي يساعدوا هذه الأرض على محاربة السيطرة والاستعمار.» «لماذا يتخذ الاتحاد السوفييتي هذا الموقف المؤيد لنا؟ الرد: أن الأمر بالنسبة للاتحاد السوفييتي مسألة مبدأ، وهو عداء الاستعمار.»
4
أما عن أمريكا فيقول هيكل في هذه الفترة نفسها: «إن الولايات المتحدة صرحت لإسرائيل باستخدام طائرات الفانتوم في غارات بالعمق ضد الأراضي المصرية، ولم تكن إسرائيل تستطيع أن تفعل ذلك إلا بتصريح أمريكي واضح.»
5 «إن العلاقة بين إسرائيل والولايات المتحدة وصلت الآن إلى الحد الذي لم تعد فيه السياسة الأمريكية قادرة على أن تظهر أو تمارس أي قدر من الاستقلال عن الإرادة الإسرائيلية.»
6
ويشير إلى موقف أمريكا فيصفه بأنه: «التعهد باستمرار تفوق إسرائيل في قوة النيران على كل ما لدى العرب مجتمعين من قوة النيران.»
7 «إن السياسة الأمريكية الممعنة في عدائها للعرب، والممعنة في تحيزها لإسرائيل، استمرت على مدى عهدين (جونسون ونيكسون) من سنة 1967م حتى الآن ... ومعنى ذلك أن هناك تخطيطا أعلى من أن تغيره اختلافات العهود أو الأحزاب أو الرئاسات.» ثم يقتبس هيكل في المقال نفسه أقوالا ويشير إلى أحداث تحيزت فيها أمريكا ضد العرب بوضوح، ويعلق على ذلك قائلا إن هذه الوقائع «تستطيع أن ترد على دعوى السياسة الأمريكية المتوازنة.»
8
ويحدد هيكل أهداف أمريكا في المنطقة، فيقول في نص هام: «ماذا تريد الولايات المتحدة من الشرق الأوسط ...
أولا:
إخراج الاتحاد السوفييتي من المنطقة، مع تجنب المواجهة المباشرة معه في نفس الوقت.
ثانيا:
الاحتفاظ بإسرائيل قوية في الشرق الأوسط، قادرة على القيام بدور حارس المصالح الأمريكية في المنطقة.
ثالثا:
إبقاء العالم العربي في حالة من الضعف يسهل معها على الولايات المتحدة تأمين مصالحها.
رابعا:
تحديد دور مصر في المنطقة، أو بعبارة أوضح حصار دور مصر ...
هذا هو مجمل مطالب الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط ... في عالم السبعينيات.»
ثم يذكر هيكل القراء بعبارة هامة قالها كيسنجر: «إننا يجب أن نطرد
expel
الاتحاد السوفييتي من منطقة الشرق الأوسط بكل الطرق والوسائل.» ويعلق عليها بقوله: «ومن المهم لنا جدا أن نتذكر ذلك، وألا يغيب عنا معناه.»
9
هذا ما كان يقوله عن السوفييت وأمريكا في الأشهر الأخيرة من حياة عبد الناصر، ومن المهم أن نؤكد المعاني الرئيسية التي كان يدعو إليها عندئذ: لا غناء لنا عن الاتحاد السوفييتي في التسلح - صداقة السوفييت مسألة مبدأ، لا مسألة مصالح - العرب، ومصر بالذات، هم الذين طلبوا التواجد السوفييتي، الذي لم يفدهم في التسليح فقط، بل في التنمية أيضا - أمريكا تحرص على بقاء إسرائيل أقوى من العرب أجمعين - الإرادة الأمريكية أصبحت عاجزة عن الاستقلال عن الإرادة الإسرائيلية - عداء أمريكا للعرب هدف دائم، يتجاوز العهود والرئاسات - سياسة التوازن بين العرب وإسرائيل هي، في نظر أمريكا، خرافة - أول أهداف أمريكا هو إخراج السوفييت من المنطقة، ثم تقوية إسرائيل وإضعاف العرب، ثم حصار مصر وعزلها عن العرب، وهذه الأهداف ليست مرحلية بل هي أهداف السبعينيات كلها. •••
فلنتأمل بعد ذلك ما قاله هيكل في السنتين الأوليين من عهد السادات، ولنتذكر ما قلناه من قبل من أن الخطة - خطة التحول الحاسم - ينبغي أن تكون شديدة التدرج؛ فهناك شعب مهيأ ذهنيا لأفكار كتلك التي لخصناها من قبل، وهناك تسلح لا يمكن الاستغناء عنه بين يوم وليلة، وهناك اقتصاد كان لا يزال مرتبطا بالمساعدات السوفييتية إلى حد بعيد؛ لذلك كان من الطبيعي ألا تنكشف الأوراق مرة واحدة، فبعد حركة التصحيح في مايو 1971م مباشرة، كان المطلوب هو تفنيد حجة الجناح الذي كان معاديا للسادات، والذي عبر عنه الفريق فوزي بقوله إن السادات «يبيع البلد للأمريكان.» ولذلك كان من الضروري الاستمرار في الضرب على النغمة السابقة، النغمة الناصرية، بعض الوقت، لا سيما وأن السوفييت بدءوا ينزعجون. وهكذا كتب هيكل يقول: «أقول بأمانة وصراحة إنه لولا الاتحاد السوفييتي لما كان أمامنا خيار غير القبول بشروط المنتصرين كما حدث سنة 1948م، وقيمة الصداقة العربية السوفييتية أنها ليست صداقة ظروف، أي إنها ليست صداقة تكتيكية، وإنما هي - كما كان يقول جمال عبد الناصر - صداقة نضال ضمن الجبهة العالمية المعادية للاستعمار، ونضال من أجل الحرية والتقدم ... وإنصافا للاتحاد السوفييتي فإن تعامله مع جمال عبد الناصر ومع أنور السادات بعده كان تعامل الشرفاء، ومن الحق أن يقال إنه لا يمكن أن يكون هناك مصري يحترم مصريته أو عربي يحترم عروبته إلا ووجد نفسه صديقا للاتحاد السوفييتي.»
10
الرسالة التي يريد هيكل أن ينقلها إلى السوفييت هنا هي: اطمئنوا ... لقد قضينا على أولئك الذين كانوا يزعمون أنهم أنصاركم، ولكننا ما زلنا أصدقاء بقوة.
ولكن مخاوف السوفييت أخذت تزداد بعد الدور الأساسي الذي لعبته القوات المصرية في إحباط انقلاب هاشم عطا (اليساري) في السودان، ولذلك يحاول هيكل طمأنة مخاوفهم (لأن الوقت لا يزال مبكرا للتخلص منهم)، فيبدأ مقاله بقوله: «لا يمكن لأحد أن يتهمني بممالأة الاتحاد السوفييتي، بل إن عناصر من داخل الاتحاد السوفييتي أو موالية له بالفعل أو بالادعاء رمتني مرات بممالأة أمريكا؛ لأنني طالبت بعدم التصادم والتناطح معها بالقوة.» «كان همس عناصر السلطة (يقصد الجناح الناصري الآخر) ولأهداف صراعهم من أجلها أن أنور السادات، قد عقد صفقة لحل الأزمة من وراء ظهر الاتحاد السوفييتي ... حتى توحي للاتحاد السوفييتي بأن أنور السادات يستعمله كورقة في لعبة وليس صديقا في نضال.»
11
ورغم محاولة الترضية الواضحة، فإن هذا الاقتباس يهمنا في أمرين:
الأول:
هو وجود تلميح إلى موقف جديد من أمريكا تعرض هيكل بسببه للوم من بعض الجهات، وإن كان هيكل لا يزال يؤكد، حتى ذلك الحين، أن كل شيء على ما هو عليه.
والثاني:
هو وصف هيكل للسادات في عام 1971م بأنه صديق للسوفييت في النضال؛ نفس السادات الذي عرض علينا هيكل في «خريف الغضب» تفاصيل عن ماضيه مع أجهزة المخابرات المختلفة المتصلة بالأمريكيين اتصالا مباشرا أو غير مباشر.
ثم تزداد التلميحات وضوحا بالتدريج، مع الاحتفاظ بالموقف القديم (مؤقتا)، فهو في هذه المرحلة لا يزال يؤكد أن «الهدف الأكبر الذي تسعى إليه إسرائيل والولايات المتحدة هو إخراج العامل السوفييتي كله تأثيرا وتواجدا في أزمة الشرق الأوسط؛ لأن هذا العامل هو أهم القوى الضاغطة، وإذا لم ندرك ذلك، وإذا لم نعمل على مواجهته؛ إذن فنحن نقدم للعدو مطلبه على طبق من فضة.»
12
ومع ذلك فإن في المقال نفسه إشارات واضحة إلى أن من الممكن أن يتوقف إمداد أمريكا لإسرائيل بالسلاح، لو أن العرب لعبوا لعبة التوازنات والحسابات، والعقبة الرئيسية في وجه هذه الخطوة، من وجهة نظر أمريكا، هي التواجد السوفييتي، وهكذا ننتقل إلى موقف جديد، فبعد أن كان الموقف السابق هو: لا أمل في أمريكا، أصبح الآن: هناك أمل، بشرط أن نعرف قواعد اللعبة.
وفي الوقت ذاته كانت فكرة «تحييد أمريكا» قد بدأت تظهر في كتابات هيكل منذ أوائل عام 1971م، أي بعد حوالي أربعة أشهر من تولي السادات السلطة، فهو يتحدث - في فبراير من هذا العام - عن ضرورة الاقتداء بإسرائيل في تحقيق أهدافها خطوة خطوة، بحيث يكون هدفنا الحالي هو إزالة آثار العدوان، ثم يعلق على ذلك بقوله: «ومن المحتمل أيضا، وبجهد متواصل وعاقل، أن الولايات المتحدة يمكن تحييدها بشكل ما ولو جزئيا أثناء تحقيقه، وإن كان ذلك متداخلا في أوضاع وظروف قد تقتضي شرحا أوسع.»
13
وفي المقال التالي يزيد فكرته إيضاحا فيقول: «إذا أردنا أن نصل بنتيجة ما حدث سنة 1967م إلى نجاح يماثل نجاحنا سنة 1956م، فإننا يجب أن نحصل على عنصرين؛ أولهما تأييد إحدى القوتين العظميين، وذلك متاح لنا بتعاطف وصداقة وتأييد الاتحاد السوفييتي، والثاني تحييد القوة العظمى الأخرى، وهي الولايات المتحدة، أو على الأقل منع تدخلها ضد مصلحتنا في الأزمة، وغير ذلك مستحيل.»
14
ثم يأتي بعد ذلك كلام أخطر: «من هنا فلقد كنت، ومازلت، أختلف مع النغمة التي تقول إن الذي نواجهه أمامنا في ميدان القتال هو الولايات المتحدة وليس إسرائيل (لاحظ أنه كان يقول بعكس ذلك تماما منذ عام)، والصحيح أن بيننا وبين الولايات المتحدة مواجهة سياسية، أو صراعا سياسيا، وهدف هذا الصراع هو الفصل بين إسرائيل والولايات المتحدة كحد أقصى، أو تحييد الموقف الأمريكي تجاه إسرائيل كحد أدنى، وذلك عن طريق توجيه ضغط دولي وعربي ومصري ضد الولايات المتحدة، هذا الضغط يقنع الولايات المتحدة بأنها تواجه تقلصا مخيفا في هيبتها كقوة عظمى، والهيبة على رءوس الدول العظمى كالتيجان القديمة على رءوس القياصرة.» وبعد قليل يحدد الهدف من صراعنا مع الولايات المتحدة، بأنه «ليس هزيمتها في ميدان القتال، وإنما إخراجها، وبكل وسيلة، من ميدان القتال.» «وأقول إنني أستطيع أن أجد طريقا يقدر به الشعب المصري أن يحارب إسرائيل ويهزمها ... ولكن ذلك يتطلب أن تكون الولايات المتحدة بعيدة عن ميدان القتال.»
إن تصعيد لهجة «تحييد أمريكا» كان يزداد طوال عام 1971م، وكانت المغالطة التي ارتكبها هيكل مزدوجة؛ فبعد أن كان أيام عبد الناصر يربط بين أمريكا وإسرائيل بحيث يستحيل فصلهما، وبعد أن كان يؤكد أن هدف أمريكا الدائم والاستراتيجي هو إضعاف العرب من أجل هدمهم، أصبح الآن يقدم إلى القارئ، في جرعات خفيفة أول الأمر، ثم تزداد كميتها بالتدريج - فكرة إمكان تحييد أمريكا وإيقاف فاعليتها في مؤازرة إسرائيل، بل ويرى أن الحرب بدون ذلك مستحيلة، ولكن إذا أدركنا مدى استراتيجية التحالف بين أمريكا وإسرائيل، وإذا أدركنا أن أمريكا لا بد أن تعمل ما من شأنه منع العرب، بشتى الطرق، من أن يكتسبوا القدرة اللازمة لممارسة الضغط عليها، لوجدنا إلى أي حد تؤدي «وصفة» هيكل الجديدة «لهزيمة» إسرائيل إلى طريق مسدود.
وإلى هذه الفترة ينتمي مقال «تحية للرجال» المشهور (12مارس 1971م) الذي بالغ فيه هيكل، وكأنه جنرال خبير في ميدان القتال، في وصف الصعوبات المميتة التي سيصادفها الجيش المصري، لو حاول عبور قناة السويس التي هي أخطر مانع مائي في العالم، وتحدث عن القوة الهائلة للجيش والطيران الإسرائيليين، وكيف أن العبور يجعل جيشنا «يواجه ما لم يواجهه جيش من قبل»، ولم تكن عملية التخويف هذه إلا جزءا من السياسة الجديدة، فلم يكن من المستغرب إذن أن يثور عليه أنصار السياسة الناصرية السابقة ثورة عارمة.
ولنختتم هذا العرض لفكرة التحييد بعبارات تظهر فيها اتجاهات هيكل الجديدة، التي استدارت بزاوية 180 درجة عن اتجاهاته منذ عام واحد، بوضوح كامل: «إذا كانت إسرائيل قد انتصرت على العرب في معارك بفعل التأييد الأمريكي، فإن هذا التأييد الأمريكي ليس دائما، وإنما الدائم هو المصالح الأمريكية فقط؛ ومن هنا فإن التأييد الأمريكي ليس سلاحا أبديا في يد إسرائيل، وهذه عبرة الأيام.»
15
وفي العام التالي حدثت الخطوة الحاسمة، التي ظهرت فيها معالم السياسة الجديدة بلا مواربة، والتي تعد الكتابات السابقة تمهيدا متدرجا لها، وأعني بها طرد الخبراء السوفييت من مصر في يوليو 1972م، هنا نود أن نذكر القارئ بالاقتباسات التي تعمدنا أن نكررها من قبل، والتي تبين أن هيكل كان واعيا تماما، بأن طرد الخبراء السوفييت هو هدف السياسة الأمريكية في المنطقة، وبأننا إذا لم نواجه ذلك فكأننا «نقدم للعدو مطلبه على طبق من فضة»، ولكنه في ظل السياسة الجديدة، لا يجد أية غضاضة في أن يحمل طبق الفضة بيديه، ويبتلع كلماته ومواقفه السابقة بسهولة تامة، ويساعد «العدو» على تحقيق مطلبه بكل ما يملك من قدرة وموهبة، فحين خرج السوفييت بالفعل، لم يقل لنا هيكل كلمة واحدة عن تأثير ذلك على الولايات المتحدة إيجابيا، ولم تصدر عنه كلمة واحدة يقول فيها إننا كنا نستطيع استثمار هذا الطرد لصالحنا، كما أصبح يقول في أيامنا هذه، ولم يوجه كلمة نقد واحدة، بل إنه، على العكس من ذلك، اخترع قصة اعتقاد الاتحاد السوفييتي بوجود فراغ عقائدي في المنطقة، واستعرض، بلا مناسبة، ولمجرد التحرش بالخصوم الجدد وتمرير سياسة السادات الجديدة، تاريخ الخلافات العقائدية مع السوفييت منذ الستينيات، وكلها أمور حشرت حشرا بصورة ملفقة، إذ إن هذه الخلافات لم تمنعه، أيام عبد الناصر، من امتداح السوفييت المبالغ فيه، والأخطر من ذلك أن هيكل يذيع سرا (يؤكد أنه لم يكن سرا، وإن كان معظم الناس لم يعرفوه إلا عن طريقه) هو أن خمس طائرات سوفييتية كانت قد سقطت في يوم واحد، هو 18 أبريل 1970م،
16
وكان الهدف من هذا الإعلان، الذي بلغ قمة التنكر لتلك «الأفضال» التي كان يسبح بحمدها من قبل، هو التشكيك في قدرة الطيارين السوفييت، ولا مانع لديه من تحطيم معنويات جيشه وأبناء وطنه عن طريق إعلان تفوق إسرائيل إلى هذا الحد حتى على السوفييت.
ويكمل هيكل حملته على السوفييت، الذين كان يتغزل فيهم قبل أقل من عامين، والذين يدعونا إلى الندم على فقداننا لصداقتهم في أيامنا هذه، فينشر وثيقة «سرية» (لا أدري من أين حصل عليها، وأتمنى أن يثبت لنا في هذه الأيام إن كانت صحيحة أم ملفقة)، هي تقرير لجنة داخل الحزب الشيوعي السوفييتي عن برنامج الحزب الشيوعي السوري، وفي التقرير تشكيك في القومية العربية وإمكانية الحل العسكري أو قيام الدولة الفلسطينية، ولا ينسى هيكل أن يقلل من قيمة السلاح السوفييتي، مؤكدا أنه «كان متأخرا عن الولايات المتحدة في هذا المضمار سبع سنوات.»
17
ومن اللافت للنظر أن هيكل قد استخدم، في هذه الحملة على السوفييت، نغمة أصبح السادات فيما بعد يستخدمها على أوسع نطاق؛ لإثارة مشاعر الشعب المصري ضد بقية الشعوب العربية عندما حدثت المقاطعة بعد زيارة القدس، وأعني بها نغمة «مصر أولا»، فخروج السوفييت «حرك نبض الوطنية المصرية، ووضعها في موضع الاعتماد على النفس.»
18
نفس خروج السوفييت الذي كان منذ قليل يوصف بأنه مطلب العدو، وهدف السياسة الأمريكية الأول، وهو في موضع آخر يتحدث عن خطأ السوفييت؛ لأنهم «لم يدركوا قيمة مصر الحضارية، ولم يدركوا أن مصر هي مصر، وسوف تبقى دائما مصر.»
19
كان التحول قد اكتمل وكانت الحلقة قد أغلقت بإحكام، وتحول الصديق الذي وصف قبل ذلك بأنه تعامل مع عبد الناصر والسادات معاملة الشرفاء، والذي «لا يوجد مصري يحترم مصريته، ولا عربي يحترم عروبته إلا وكان صديقا له»؛ تحول إلى عدو لحضارة مصر، وأصبح خروجه علامة على الوطنية ...
وعندما وصل هيكل في كتابه إلى هذه المرحلة، استأذن القارئ؛ ليأخذ إجازة لمدة شهر من الكتابة ...
20
كان مدركا أنه أكمل مهمته، وذهب ليستريح. •••
والآن دعونا نلق نظرة هادئة على تلك الكلمة ذات المظهر البريء، التي كانت الخطة المتدرجة، الشديدة الحذر والذكاء، تستهدف إقناع الأذهان بها، وأعني بها كلمة «تحييد أمريكا»، هذه الكلمة تلخص هدف السياسة الجديدة كلها: فبينما كان هيكل يؤكد، في ظل سياسة عبد الناصر، أن أمريكا لا تقل عداء لنا عن إسرائيل، وأن مصالحهما مرتبطة ارتباطا عضويا يستحيل تفكيكه، وأن الأمور وصلت إلى حد أن الإرادة الأمريكية أصبحت عاجزة عن الاستقلال عن الإرادة الإسرائيلية، وأن دفاع أمريكا عن إسرائيل وسعيها إلى إضعاف الدول العربية، إنما هو سياسة دائمة وليس على الإطلاق وضعا مؤقتا - بينما كان هيكل يؤكد ذلك كله، أصبح في عام 1972م يركز جهوده على طرح هذا المفهوم الجديد، الذي يتناقض كلية مع المفاهيم السابقة، وأعني به مفهوم «التحييد»، ويعني به كف يد أمريكا عن التدخل لصالح إسرائيل ضد العرب، فلنحلل إذن هذا المفهوم، ونستخلص نتائجه.
إن لعملية التحييد هذه وسيلتين:
الأولى هي تنمية القوة الذاتية العربية، اقتصاديا وسياسيا وعسكريا، إلى الحد الذي تضطر فيه أمريكا إلى أن تعمل حسابا لقوتنا، وخاصة حين تصل هذه القوة إلى حد تهديد المصالح الأمريكية في المنطقة، فكيف تتحقق لنا مثل هذه القوة؟ من الواضح أنها، لكي تصل إلى الحد الذي تشكل فيه تهديدا حقيقيا، وليس مجرد تهديد مظهري أو مؤقت، لمصالح أمريكا، تحتاج إلى تغيير شامل في نمط الحياة في العالم العربي وفي أساليب حكمه، ولو وصلنا بالفعل إلى مثل هذا التغيير، فلن نكون عندئذ بحاجة إلى تحييد أمريكا؛ لأننا عندئذ نستطيع أن ننتزع حقوقنا بأيدينا، شاءت أمريكا أم أبت، وأبلغ دليل على ضخامة حجم التغيير السياسي والاقتصادي والعسكري، المطلوب تحقيقه في مجتمعنا من أجل الوصول إلى تحييد أمريكا، أن هذا التحييد لم يتحقق حتى عندما وصل التضامن العربي، عسكريا واقتصاديا، إلى مستوى عال لم يبلغه في أي وقت من قبل، في حرب أكتوبر 1973م، فقد زادت أمريكا من مساعداتها لإسرائيل أثناء الحرب، وقدمت إليها أضخم جسر جوي من معدات القتال عرفه التاريخ؛ مما أتاح لها قلب ميزان الحرب جزئيا لصالحها، وإذن فطريق القوة الذاتية العربية المطلوب من أجل التحييد طويل جدا، ولو بلغنا يوما ما لما أصبح للتحييد عندئذ أي داع.
أما الطريق الآخر، فهو الطريق العكسي، أعني طريق الإذعان لمطالب أمريكا، وتقديم الخدمات والتسهيلات لها، وتحقيق مصالحها في المنطقة إلى الحد الذي يأمل أصحاب هذا الطريق أن يؤدي إلى تخفيف انحيازها لإسرائيل، ما دام هناك أصدقاء جدد يؤدون وظيفة إسرائيل التقليدية، وهي حماية المصالح الأمريكية، هذا الطريق إذن لا يكمن في تهديد مصالح أمريكا، بل في التنافس مع إسرائيل على حماية هذه المصالح، ونظرا إلى أن الطريق السابق طويل وشاق، ويفترض شروطا يحتاج تحققها إلى ثورة كاملة، لو حدثت لما عدنا نحتاج إلى هذا التحييد ، فإن نوع التحييد الذي يمكن تنفيذه عمليا، في ظروف العالم العربي الراهنة، هو النوع الثاني؛ أعني التحييد الاستسلامي، ولهذا التحييد دائما ثمن فادح، فما الذي يدفع أمريكا إلى الامتناع عن مساندة إسرائيل أو التخفيف من انحيازها لها؟ إن إسرائيل حليف قوي، يحقق لها مصالح ضخمة: ردع قوى التحرر في العالم العربي، ضمان تدفق النفط للغرب، صد «الخطر الشيوعي»، وعلى ذلك فالمطلوب منا أن نقوم نحن بأداء هذه الخدمات كلها لأمريكا، حتى تدرك أن مصالحها لا تتحقق على يد إسرائيل وحدها، لا سيما وأن لدينا مزايا خاصة، هي اتساع الرقعة جغرافيا، واستراتيجية الموقع، والموارد البشرية والمادية الكبيرة.
هذه هي النظرية التي تبنتها المدرسة الساداتية، عمليا، وكانت أولى خطواتها هي طرد الخبراء السوفييت إرضاء لأمريكا، وتلتها خطوات أخرى: منح القواعد أو التسهيلات العسكرية، المشاركة في بعض الحروب الصغيرة لصالح الغرب (زائير والصومال وتشاد وأفغانستان وغيرها)، تغيير اتجاه الاقتصاد بحيث يصبح رهينة للبنوك الأمريكية والدولية، وتأكيد دور القطاع الخاص مع الإقلال من أهمية القطاع العام ... الخ.
وهكذا يؤدي الجري وراء سراب «التحييد»، إلى أن يصبح العرب أشبه «بالزوجة الثانية» للزوج الغني والقوي: أمريكا، وككل زوجة ثانية، يتعين على العرب أن يتفننوا في إرضاء أمريكا وإغرائها بالتنازلات حتى تنصرف عن الزوجة الأولى (إسرائيل)، ومع كل ذلك فإن إسرائيل القوية، التي يتسم نظامها بالثبات، ولا يتصف بتقلبات الأنظمة العربية ومزاجيتها، والتي تشارك أمريكا «ديمقراطيتها» واعتمادها على مؤسسات ثابتة، لا على أهواء شخصية؛ إسرائيل هذه هي التي تكسب «الزوج» في النهاية، بعد أن تكون الزوجة الثانية قد أعطت أعز ما تملك!
هذه هي النتيجة التي توصل إليها سياسة «التحييد» عمليا، وقد اختبرت هذه السياسة، كما قلت، في حرب أكتوبر، فكانت النتيجة مزيدا من التدخل الأمريكي لصالح إسرائيل، مما جعل السادات نفسه يقول: أوقفت القتال؛ لأنني لا أستطيع أن أحارب أمريكا! ولكن المأساة هي أن نفس اللحظة التي بلغ فيها تدخل أمريكا لصالح إسرائيل ذروته، كانت هي اللحظة التي بلغ فيها هيام أصحاب سياسة «التحييد» بأمريكا أعلى قممه. ومنذ أن بذلت أمريكا أكبر جهد تملكه من أجل تزويد إسرائيل بأضخم كمية من الأسلحة لكي تقتل بها أبناءنا وتحتل أراضينا، أصبحت هي الصديق، ثم الحليف والوليف!
في كلتا الحالتين إذن، وسواء وصلنا إلى التحييد عن طريق القوة الذاتية أم عن طريق الاستسلام، تنتهي سياسة التحييد إلى نتائج مناقضة لذاتها، وتلغي نفسها بنفسها. •••
ولنتأمل بعد ذلك نتائج هذه السياسة الجديدة، التي نفذت بتخطيط بارع، بالنسبة إلى حرب أكتوبر.
إن هناك جدلا ضخما، يثيره هيكل في هذه الأيام، حول الإدارة السياسية لحرب أكتوبر، ويرى فيه أن هذه الحرب، التي حققنا فيها إنجازا عسكريا جيدا بجميع المقاييس، لم تكن نتائجها السياسية على مستوى الأداء العسكري فيها على الإطلاق، والنقطة الأساسية التي يثيرها هيكل في هذه الأيام، هي أنه كان من الممكن تطوير الحرب حتى الممرات على الأقل منذ الأيام الأولى؛ مما يعطينا مركزا تفاوضيا أقوى بكثير، وفضلا عن ذلك فقد كشفنا أوراقنا للعدو في مراسلات سرية دارت منذ اليوم الثاني للحرب، اعترفنا فيها بأن هدفنا من الحرب محدود، وبأننا لن نعمق الصراع أو نوسع جبهاته؛ مما أتاح لأمريكا، ولهنري كيسنجر بوجه خاص، فرصة معرفة خططنا النهائية مقدما واستغلالها لصالح إسرائيل.
21
وفي تصوري أن الجدل حول هذا الموضوع كله، بالصورة التي طرحها هيكل، جدل عقيم؛ ذلك لأن هيكل يفترض أن كيسنجر لم يعرف النوايا المصرية من الحرب، إلا عن طريق تلك المراسلات السرية، ومن هنا فإنه يوجه اللوم إلى من كتبها، وإلى من أعطى الأوامر بكتابتها، على حين أن كاتبها يدافع عن نفسه بحرارة ضد اتهامات هيكل بشأن هذه المراسلات، وحقيقة الأمر أن أمريكا تعرف نوايا الحرب المصرية منذ أمد بعيد، فهناك عوامل كثيرة كانت كلها كافية لمعرفة هذه النوايا: منها مثلا الصراع بين هيكل والجناح الآخر من الناصريين حول طبيعة الحرب المنتظرة، ومنها الاتجاه الكامل للدبلوماسية المصرية في عهد السادات خلال السنوات السابقة للحرب، ومنها طرد الخبراء السوفييت والسعي إلى مزيد من التقارب والتفاهم مع أمريكا، كل هذه التطورات لم تكن تؤدي بأي حال إلى قيام حرب تحرير شاملة.
ولكن، لندع الاستنتاجات جانبا، ولنستمع إلى الأقوال الصريحة والمباشرة، فطوال شهور فبراير ومارس وأبريل 1972م، كانت كتابات هيكل تركز على «الحل السياسي الذي تسانده قوة عسكرية لا الحل الدبلوماسي فقط، ولا الحل العسكري المطلق»، «لا بد أن نفهم أن الولايات المتحدة لن تتحرك - إذا تحركت - إلا تحت ضغط، وإلا فماذا يدفعها إلى الحركة؟ القوة العسكرية، نعم، ولكن ... وفقا لموازين العصر وفي إطار سياسي شامل.»
22
هكذا كان تصور هيكل للحرب هو أن هدفها التحريك، وتحريك من؟ الولايات المتحدة بالذات، ولماذا نبحث عن تحريك الولايات المتحدة، وليس أية دولة أخرى، كهدف للحرب؟ ألا يفترض هذا أن أمريكا تملك كل، أو معظم، أوراق اللعبة؟ هكذا يدل كلام هيكل بوضوح على أنه يشارك في الموقف السياسي لسياسة السادات في إدارة الصراع العربي الإسرائيلي.
ولنستمع إلى كلمات أصرح: «الحرب المسموح بها الآن، هي استعمال القوة المسلحة لهدف تتوافر له الشرعية الدولية، ويتوافر للطرف الذي سيحمل السلاح لتحقيق هذا الهدف تأييد إحدى القوتين الأعظم على الأقل، ثم يتوافر لهذا الطرف بقوته الذاتية وبما يتلقاه من أصدقائه طاقة لا شك فيها؛ لتحقيق هذا الهدف في إطار محدد أو محدود، ثم يكون القصد من تحقيقه هو التأثير في الوضع السياسي، معنى ذلك أنها حرب محدودة، محدودة الهدف.»
23
هل هناك ما هو أوضح من هذه العبارات في الدلالة على أن هدف الحرب المحدودة، لا الحرب الشاملة، كان مرسوما مقدما، وأن هيكل كان مشاركا في التخطيط لهذا الهدف والترويج له؟
ومع ذلك، فهناك ما هو أصرح حتى من هذا الكلام: «ليكن أن مصر تشعر أن طاقتها تحتمل أن تحرر بالقوة المسلحة ولو مائة كيلومتر مربع فقط من أراضيها ... وإذا كانت مصر دقيقة في حساباتها، فإنها سوف تنجح في تحقيق ما تريد، وسوف تحرر بالفعل هذه المائة كيلومتر مربع من أراضيها، وسوف تحتفظ بها في وجه أية هجمات مضادة من العدو، وهذا يغير صورة الأزمة كلها، ويفتح الباب لتطورات مباشرة أخرى في مجرى الصراع .»
24
تأمل معي، أيها القارئ، هذا الكلام الواضح، وتأمل من جهة أخرى تلك الضجة الكبرى التي يثيرها هيكل في هذه الأيام، بعد عشر سنوات من الحرب، وبعد أن نسي الناس ما قاله في الفترة الممهدة للحرب؛ أعني الضجة التي أقام بها الدنيا وأقعدها حول ما يسميه «بالعبارة الكارثة» الواردة في رسالة سرية من حافظ إسماعيل، مستشار الأمن القومي المصري، إلى كيسنجر، نظيره الأمريكي، وتحدث فيها إسماعيل عن نوايا مصر في جعل الحرب محدودة، وعدم توسيع جبهاتها أو تعميق مسارها. ألم يقل هيكل أكثر من هذا قبل وقوع الحرب، في مقالات علنية لا في مذكرات سرية؟ هل كانت أمريكا مضطرة إلى انتظار الرسالة السرية حتى تعرف نوايا مصر في الحرب؟ والأهم من ذلك، ألم يكن هيكل نفسه من أهم المروجين لسياسة احتلال مساحة محدودة من الأرض، والثبات فيها، وتحريك الأزمة كلها من خلالها؛ وهو ما حدث بالضبط في حرب 1973م؟
إن في وسع هيكل، بالطبع، أن يرد بقوله إن ما كتبه قبل الحرب شيء، وما حدث في الحرب الفعلية شيء آخر، فقد أتت الحرب نفسها بمفاجأة لمخططي سياسة تحرير مساحة محدودة من الأرض: هي في الواقع المفاجأة التي كان يدخرها شعب مصر «لعبقرية» السياسيين، عندما تمكن أبناء الشعب في جيشهم من العبور بسهولة غير متوقعة، وأحرزوا نجاحا سريعا قليل التكاليف، مما أوقع المخططين العباقرة في حيرة، وأوجد موقفا جديدا لم يتوقعه واضعو سياسة الحرب المحدودة، وعلى رأسهم هيكل. ولكن، هل كان من المعقول أن يحدث تغيير مفاجئ للخطط السياسية في أعقاب هذا النصر الأول السريع، بعد أن ظلت الدبلوماسية الرسمية، من سرية وعلنية، وأجهزة الإعلام الساداتية والهيكلية، تبني كل شيء على أساس حرب محدودة تحرر قطعة أرض صغيرة وتحتفظ بها؟ لو كان المخططون والكتاب الصحفيون العباقرة، قد وضعوا منذ البداية بدائل، وعملوا حسابا للموقف الذي تحقق، ضمن هذه البدائل، لربما أمكن عندئذ أن تتغير السياسة بسرعة تماشيا مع الوضع الجديد، ولكن كل شيء كان مرسوما على أساس حرب التحريك المحدودة، ولم تنتظر أمريكا رسالة حافظ إسماعيل السرية لكي تعرف ذلك، بل كان يكفيها أن تثابر - كما أرجح أنها فعلت - على قراءة هيكل.
يبقى أمامنا أن نتساءل: ما تأثير السياسة التي اتخذت مجرى جديدا كل الجدة في عامي 1971 و1972م، على التطورات التالية في مصر وفي العالم العربي؟ إن هاتين السنتين تحملان، في رأيي، بذرة معظم التطورات التالية، وإذا كان هيكل قد قام بالدور الذي حددنا معالمه في تهيئة الأذهان لتحول حاسم في السياسة المصرية، ما بين عام 1970 وعام 1972م، وإذا كان قد غير اتجاهه تغييرا جذريا، مع تغير الحاكم وسياسته، خلال هاتين المرحلتين، فإن معنى ذلك أن مسئولية هيكل عن التطورات السلبية المتأخرة للعهد الساداتي مسئولية لا شك فيها، صحيح أن السنين تضيف عوامل ومتغيرات جديدة، ولكن هذه كلها إضافات للأسس الأولى التي أرسيت في هاتين السنتين الأوليين، وعلى رأسها التحالف مع أمريكا، والحرب المحدودة بهدف الصلح الذي تتوسط فيه أمريكا، والامتناع عن التسلح عن طريق السوفييت والالتجاء إلى أمريكا، نفس البلد الذي يقدم لخصمنا سلاحه، ويعلن على الملأ أنه يضمن تفوقه.
ومنذ اللحظة التي قررنا فيها اللجوء إلى أمريكا، لكي تتوسط بيننا وبين إسرائيل، ومنذ اللحظة التي رفضنا فيها السلاح السوفييتي؛ لكي نختار بدلا منه سلاحا أمريكيا، حسمت أمور عديدة تحقق الكثير منها فيما بعد، فهذا القرار ينطوي، بصورة جنينية، على فكرة الصلح مع إسرائيل، وجعل العداء للسوفييت هدفا رئيسيا لسياستنا، والتعاون مع أمريكا، وتطبيق أفكارها في حياتنا الداخلية، وخاصة الاقتصاد.
ولكي ندرك مرارة هذه الحقيقة، وخاصة في ضوء الضجة التي يثيرها هيكل هذه الأيام ضد العهد الساداتي، الذي نسي أنه كان فيلسوفه الأول خلال السنوات الأولى والحاسمة من تاريخه، دعونا نفكر بإمعان في مغزى عبارة هامة قالها موشي دايان، تعليقا على رحلة السادات بالطائرة إلى القدس في نوفمبر 1977م: «لقد أديرت محركات طائرة السادات حين طرد الخبراء السوفييت، وبدأ سياسة تنويع السلاح وقبل باتفاقات فك الاشتباك بكل ما يعنيه ذلك من استبعاد للخيار العسكري.»
25
هذا كلام خطير بقدر ما هو واضح، فأولئك الذين رسموا سياسة تنوع التسلح عن طريق طرد الخبراء السوفييت، والترويج لفكرة التقارب التدريجي مع أمريكا، هم الذين أداروا محركات طائرة السادات المتجهة إلى القدس؛ لأنهم ربطوا مصير بلادهم وجيوشهم بمصير راعية إسرائيل وحاميتها، ومن الواضح أن هيكل، بالنسبة إلى هؤلاء، كان كبيرهم ومفكرهم وموجههم، فالبذرة الأولى قد غرستها يد هيكل، وما يتبقى بعد ذلك ليس إلا من قبيل التفاصيل، ومع ذلك فإن هيكل نفسه هو الذي يأتي في أيامنا هذه، وينعى على السادات ركوبه تلك الطائرة، التي كان هو ذاته قد زودها بالوقود، وأدار لها المحركات.
أتريد، أيها القارئ، معرفة الأصول الأولى للكارثة الحالية، و«الجذور»؟ اقرأ صفحات هذا الفصل ثانية، وفكر فيها بإمعان.
الفصل التاسع
عمنا سام
لست أدري لم اختار هيكل أن يوجه كتابه عن السادات إلى الجمهور الأمريكي على وجه التحديد، ولكن الأمر المؤكد هو أنه، طوال هذا الكتاب، كان يضع في ذهنه هذا الجمهور، وهو يشرح هذه النقطة أو تلك، ويقوم بهذا التحليل أو ذاك؛ مما أعطى الكتاب، في مواضع غير قليلة، طابعا غير مألوف لدى القارئ العربي.
فمنذ اللحظة الأولى، يركز هيكل على صفة «النجومية»، وعلى «صناعة النجم»، وكأنها هي التي تلخص شخصية السادات، مع أنها - من وجهة نظر كاتب هذه السطور - لا تزيد عن كونها أسلوبا ملائما لجمهور أجنبي، اعتاد التهريج السينمائي حتى أصبحت صفة «النجومية» أساسية عنده، حتى في اختياره لرئيس جمهوريته، وهكذا يتحدث «خريف الغضب» في مقدمته عن نجوم العصر، فيضع ضمنهم «جاكلين كيندي»، ويشعر القارئ العربي بأنه تلقى لطمة، وهو يقرأ عن هذه النماذج المنحلة، وإن كان القارئ الأمريكي لا يرى أية غرابة في ذلك، والواقع أن السادات لم يكن في وقت من الأوقات نجما بالنسبة إلى شعبه، أعني المصريين والعرب على حد سواء، بل كان نجما في نظر الأمريكان وبعض الأوروبيين؛ وذلك لأسباب لا علاقة لها بشخصه، وإنما بسياسته.
إننا نعلم جميعا أن أجهزة الإعلام الغربية، والأمريكية بوجه خاص، قد تعمدت أن تضخم صورة السادات، ولم يكن ذلك راجعا فقط إلى إعجاب هذه الأجهزة بذلك الصديق المخلص الجديد، أو إلى صفات معينة في شخصيته، أهلته لكي يكون في نظرها «نجما»، وإنما كان يرجع قبل كل شيء إلى رغبتهم في الحصول منه على المزيد من التنازلات، عن طريق خدعة الإعجاب الإعلامي الزائد؛ فقد كان من الواضح أن لدى السادات، شأنه شأن معظم الحكام الفرديين، وربما بصورة أشد تطرفا من الباقين؛ ميلا شديدا إلى الإحساس بأهميته وخطورته، وكان ذلك يتجلى بوضوح حين تنشر الصحف المصرية، على الدوام، تعليقات الصحف والإذاعات الأخرى على خطاباته؛ لكي تبين مدى إعجاب الآخرين به. وقد أتقن الأمريكيون فن دراسة نقط الضعف في شخصيات الزعماء، وخاصة في العالم الثالث، للاستفادة من نقاط الضعف هذه بقدر ما يستطيعون. وهكذا كان كل مقال يكتب عن السادات في صحيفة أمريكية، وكل صورة له أو لأسرته، على غلاف مجلة أمريكية، تعني مزيدا من التنازلات، ومزيدا من الترحيب بالنفوذ الأمريكي، ومزيدا من الامتيازات الاقتصادية أو العسكرية التي تمنح للغرب بوجه عام.
لم تكن المسألة إذن مسألة «نجومية»، وإنما كانت «صناعة النجم» هذه، في حقيقتها، استغفالا واستغلالا لغرور حكام العالم الثالث، ومع ذلك فإن هيكل أراد في كتابه أن يصحح فكرة الجمهور الأمريكي عن «معبوده» الجديد، وأن يرسم له الصورة التي يعتقد أنها حقيقية، في مقابل الصورة المتطرفة في الإعجاب، التي صورتها أجهزة الإعلام الأمريكية للسادات. ولكن، ما الذي يدعونا إلى تصحيح فكرة المجتمع أو الرأي العام الأمريكي عن السادات؟ وما الذي سنجنيه من ذلك؟ إن أمريكا هي العدو الأول لأماني الشعب العربي وتطلعاته ، فلماذا نجهد أنفسنا لكي نقدم إليها الصورة الصحيحة، إن كانت بالفعل صحيحة؟ لماذا لم يوجه الكتاب، مثلا، إلى المعسكر الاشتراكي، أو إلى العالم الثالث، أو إلى الشعب العربي، ولماذا يحرص المؤلف منذ الصفحات الأولى على أن يؤكد أن صورة السادات عند الغرب لم يكن لها ما يبررها؟ ألا يزال عندنا نوع من «الأمل» في أمريكا حتى نتعشم منها خيرا عندما تصحح فكرتها عن زعمائنا؟
إن دور النشر الأمريكية أقدر من غيرها على ترويج الكتب، هذا صحيح، ولكن هناك فارقا بين كتاب ينشر في دار أمريكية، وكتاب يؤلف من وجهة نظر تستهدف مخاطبة الجمهور الأمريكي، وأعتقد أن اهتمام هيكل بمحور «الممثل» و«النجم»، وبالعوامل والعقد النفسية في النشأة الأولى، واستخدام تشبيه «ترومان» لتبرير تعاونه مع السادات في السنوات الأولى من حكمه، كل ذلك يدل على أن هيكل كان يخاطب في الأساس جمهورا أمريكيا ولم يكن ينشر في دار أمريكية فحسب.
على أن الهدف الذي كان يرمي إليه هيكل من هذا كله هدف عقيم؛ فمن العبث أن يحاول أي مؤلف تصحيح صورة حاكم، أعجب به الجمهور الأمريكي لأسباب لا علاقة لها، في الواقع، بشخصه أو مسلكه؛ إن ما يهم أمريكا، شعبا وحكومة وصحافة وإعلاما، هو المصالح، وليس خفة دم هذا الحاكم أو طيبة قلب ذاك، ومن الممكن بالفعل أن يعجب الأمريكيون بحاكم من أجل هذه الصفات الشخصية، ولكن «بعد» أن يكون هذا الحاكم قد خدم مصالحهم، أما إذا تعارضت سياسته مع المصالح الأمريكية، فعندئذ لن يشفع له في نظرهم أن يكون في خلقه الشخصي قديسا. وهكذا فإن الأمريكيين لا يكونون صورتهم عن أي زعيم على أساس فضائله الداخلية أو الشخصية، أو حتى طريقته السليمة في الحكم، بل على أساس ما يمكن أن يجنوه منه من فوائد، فالسادات كان معبود الأمريكيين، لا لأن شخصيته كانت محببة لديهم؛ بل لأنه حقق لهم أكثر مما كانوا يحلمون في الشرق الأوسط كله، فأخرج السوفييت من أهم بلد عربي، وفتح الأبواب للأسلحة والخبراء الأمريكيين، وأعطى الاستراتيجية الأمريكية قواعد أو ركائز أو تسهيلات (سمها ما شئت، فالحقيقة واحدة)، وجعل محاربة الشيوعية هدفا له الأولوية المطلقة على مكافحة الصهيونية، وتطرف في تحديد المقصود ب «الشيوعية» حتى أدمج فيها كل حركة وطنية تكافح الاستعمار والاستغلال، أما مسألة ما إذا كان حاكما جيدا أو سيئا، وما إذا كان قادرا على حل مشاكل شعبه أم مشاركا في تخريبه، فهذه مسائل لا تهم الأمريكيين كثيرا، وكم من طاغية في أمريكا اللاتينية، مثلا، كانت فضائحه وجرائمه على ألسنة الناس في العالم أجمع، ومع ذلك كان الأمريكيون معجبين به أشد الإعجاب، ويساعدونه بكل طاقتهم في تثبيت حكمه الإرهابي، كما حدث في حالة سوموزا، وباتستا، وما يحدث حاليا في حالة بينوشيت. وأستطيع أن أقول إن هذا ليس الموقف الرسمي للحكومة الأمريكية وحدها، بل إن الشعب الأمريكي ذاته قد تشكلت عقوله، بحيث يوجه إعجابه بأي حاكم أجنبي في اتجاه مصالحه، لا في اتجاه مصالح البلد الذي يحكمه هذا الحاكم. وهكذا فإن محاولة هيكل أن يفتح عيون الأمريكيين على حقيقة السادات محاولة فاشلة، بل إنها تفترض منذ البداية صفات في الجمهور الأمريكي لا يمكن أن توجد فيه، وهنا لا يملك المرء إلا أن يكرر السؤال الذي بدأنا به هذا المقال: لماذا اختار هيكل الجمهور الأمريكي لكي يوجه إليه حديثه في هذا الكتاب؟
إن المرء يستطيع أن يقول، باطمئنان، إن علاقة هيكل بأمريكا علاقة حميمة، خاصة جدا، فمنذ البداية كانت أمريكا هي الموضوع الرئيسي الذي دار حوله الخلاف بينه وبين الأجنحة الناصرية الأخرى، فضلا عن اليسار بطبيعة الحال، وكان إيمان هيكل بقوة أمريكا وتأثيرها ودورها وعدم إمكان تجاهلها، إيمانا راسخا لا يتزعزع، أما الكتابات التي هاجم فيها أمريكا في السنوات الأخيرة من حكم عبد الناصر، فلا تمثل أي اتجاه دائم لديه، وإنما كان هذا الهجوم ضرورة تكتيكية في ظل الظروف السائدة بعد هزيمة 1967م، وما إن استتب الأمر للسادات، حتى عاد الاتجاه الأمريكي للظهور، وكان التحول الذي طرأ على اتجاه السياسة المصرية نحو أمريكا في عام 1972م، والذي دعا إليه هيكل بحماسة بالغة، هو نقطة البدء الحقيقية في التغلغل الأمريكي في المنطقة العربية كلها، وليس اتفاقية فض الاشتباك، كما يؤكد هيكل باستمرار.
ومما يلفت النظر أن هيكل، في كتابه عن السادات وفي أحاديثه الصحفية عن فترة 1973 و1974م، التي تزايدت بصورة ملموسة في الآونة الأخيرة، لم يذكر شيئا عن حصار الجيش الثالث في الضفة الشرقية للقنال، من حيث هو أحد الأسباب الرئيسية للتوقيع على اتفاقية فصل القوات، أو فض الاشتباك، التي بدأ فيها الخلاف يظهر بين السادات وهيكل؛ ذلك لأن الحصار الكامل الذي فرضته إسرائيل على هذا الجيش، كان هو الأساس الأهم للصفقة التي تمت بين السادات وأمريكا؛ إذ تعهدت هذه الأخيرة بأن تحفظ للسادات ماء وجهه، ولا تسمح لإسرائيل بتجويع الجيش الثالث أو بدفعه إلى الاستسلام، وفي مقابل ذلك اعترف السادات لأمريكا بالجميل، لكي يظل قادرا على القول إن جيوشه كانت في الضفة الشرقية حتى نهاية الحرب، ووقع اتفاقية فض الاشتباك الأولى، وهذه جرت الثانية، كما جرت معها مزيدا من النفوذ لأمريكا في المنطقة، فما سبب تجاهل هيكل لهذا العامل الحاسم، على الرغم من أحاديثه المسهبة حول هذه الفترة؟
لقد تم هذا الحصار وتحقق بمساعدة مباشرة من أمريكا، وكانت الدبابات تنزل من سفن الشحن أو الطائرات الأمريكية إلى ساحة المعركة مباشرة، كما لعبت الأقمار الصناعية ووسائل التجسس الأمريكية دورا أساسيا في تحديد مكان الثغرة التي أدت آخر الأمر إلى هذا الحصار، وهو موضوع شرحه هيكل بالتفصيل في مقالاته التي كتبها عن هذه الفترة، فما الذي جعله يمتنع عن الخوض في هذا الموضوع الحيوي في كتابه الأخير؟ هل يرجع ذلك إلى أنه لم يشأ أن يقول للجمهور الأمريكي، الذي وجه إليه الكتاب، إن الوضع السيئ الذي وجد فيه الجيش الثالث نفسه كان من صنع أمريكا؟ هل يرجع إلى أنه لم يشأ أن يتحدث عن الصفقة التي يمكن أن تكون قد عقدت بين السادات وأمريكا، بحيث يقايض السادات إنقاذ أمريكا له من الكارثة المحلية والفضيحة الدولية المترتبة على خنق الجيش الثالث وإحكام القبضة على عنقه بالتدريج، مقابل إبداء الاستعداد التام لقبول المطالب الأمريكية؟ إننا هنا ندخل منطقة البحار العميقة، التي تمس صميم الصفقات والاتفاقات السرية، والتي يصعب الكلام عنها إلا عن طريق الاستنتاج، ولكن تسلسل الأحداث جاء كما يلي: أخذت السياسة المصرية تتجه منذ عام 1971م، نحو الميل إلى الطرف الأمريكي والابتعاد عن الطرف السوفييتي، وتقدم هيكل بالنظرية التي تقول بإمكان إيقاف فاعلية أمريكا في مساعدتها لإسرائيل، في ظل ظروف وتوازنات دولية معينة، وطبقت هذه السياسة عمليا ، وكانت أهم خطواتها طرد الخبراء السوفييت بطريقة مدوية، ثم قامت حرب أكتوبر، وكانت لدى أمريكا معرفة كاملة بالطبيعة المحدودة لهذه الحرب، في ضوء اتجاهات السياسة المصرية كلها، وفي ضوء كتابات هيكل الصريحة والواضحة حول هذا الموضوع. ولكن السياسة الجديدة التي كان النبي المبشر بها هو هيكل، أتت بنتائج عكسية تماما؛ فبدلا من «تحييد» أمريكا، قامت أمريكا بأعظم وأسرع عملية إنقاذ في التاريخ، زودت فيها إسرائيل عبر جسر جوي جبار بما يكفيها للصمود في وجه الأداء المصري والسوري الممتاز في الأيام الأولى للحرب، ثم الانتقال إلى الهجوم الذي أسفر، في سوريا، عن تهديد دمشق ذاتها، وفي مصر عن ثغرة أخذت تتسع بالتدريج حتى حاصرت الجيش الثالث كله حصارا كاملا، كان هذا الانقلاب في الميزان العسكري من صنع أمريكا في المحل الأول، وعندما أمسكت بكل الخيوط في أيديها، بدأت تحركها كما تشاء، وبدلا من أن تتمكن السياسة المصرية من «تحييدها»، أصبح الجيش الثالث وسمعة مصر وهيبة النظام ورجاله رهينة في أيديها، وبدأ مسلسل توقيع الاتفاقات الاستسلامية.
هذا الجانب من الموضوع سكت عنه هيكل تماما وسط الضجيج الهائل الذي أثاره في كتابه الأخير، وفي أحاديثه الصحفية الكثيرة هذه الأيام، حول حرب أكتوبر، فهل كان سكوته شعورا بالحرج من أن تنكشف النتائج المأساوية لدعوته إلى سياسة «التحييد»، أم كان امتناعا عن الغوص في البحار العميقة، التي تهدد من يقترب منها بالغرق؟
أيا ما كان الجواب، فإن هذه هي المرحلة التي أقام فيها السادات اتصالا وثيقا مباشرا مع الأمريكيين ، وفيها يروي هيكل قول السادات لكيسنجر، عندما اجتمع به في بداية محادثات فض الاشتباك الأول، «لماذا لم تأت من قبل؟» وفي رأيي الشخصي أن هذا الاتصال المباشر الذي أقامه السادات مع الأمريكيين منذ ذلك الحين، والذي ازداد توثقا مع الأيام خلال السنوات التالية، كان من الأسباب الرئيسية للجفوة ثم الخلاف بين هيكل والسادات؛ إذ كان السادات قبل هذه الفترة يعتمد كثيرا على هيكل في كل ما يتعلق بالاتصال بالأمريكيين، على أساس الصلات الوثيقة التي كانت تربط هيكل بهم، وعلى أساس ما كان شائعا عنه من أنه يفهم الأمريكيين أكثر من غيره، ولكن منذ أن أقام السادات جسوره المباشرة بنفسه، ومنذ أن فتحت قنوات اتصال واسعة بينه وبينهم، لم يعد في حاجة إلى صلات هيكل أو خبرته الأمريكية، وبدأ يتجه إلى الاستغناء عنه، وفي الوقت ذاته فإن هيكل، عندما شعر بأنه يستبعد بالتدريج، أخذ يوجه انتقاداته إلى سياسة السادات، لا سيما وأن هذا الأخير قد سكر بنشوة الغرام الأمريكي، إلى حد أنه أوقع نفسه في أخطاء لا حصر لها، بينما كان هيكل يعرف جيدا أن أمريكا لا ترتبط طويلا بالعشيق الولهان بحبها أكثر مما يجب، والذي يفصح عن هذا الحب علنا ودون مواربة، أنها سرعان ما تنبذ كل من يفضح غرامه بها؛ لأنها تفضل دائما العلاقات الخفية، المستورة، الشديدة الفعالية، ولا بأس - حتى - من مهاجمة أمريكا في العلن من آن لآخر، حتى تظل الروابط الخفية قائمة. هذا هو قانون الغرام الأمريكي الذي لم يفهمه السادات، فدفع حياته ثمنا لعدم الفهم. •••
وهنا نصل إلى منطقة أخرى من مناطق البحار العميقة، مر عليها هيكل في كتابه سريعا، وعالجها بطريقة غير متعمقة، مع أنها كانت تستحق وقفة متأنية وتحليلا متعمقا - وأعني بها موضوع مقتل السادات، واحتمال وجود دور لأمريكا فيه، فهيكل قد حرص على تبرئة الأمريكيين من أية شبهة في هذا الحادث، بعد مناقشة موجزة تنم عن رغبته في أن ينفض يديه بسرعة من هذه المسألة الشائكة، في الوقت الذي حرص فيه على أن يتقصى خبايا مسائل أقل أهمية من هذه بكثير.
فحين طرح هيكل النظرية القائلة بوجود مؤامرة أمريكية في قتل السادات، استبعدها بسرعة لثلاثة أسباب تبدو في نظرنا غير مقنعة على الإطلاق.
السبب الأول أن نظام السادات كان أحد الدعائم الرئيسية في سياسة ريجان المعادية للشيوعية في المنطقة، واستطاع التدخل في بعض بؤر المتاعب الأفريقية (متاعب من وجهة نظر أمريكا بالطبع، أما من وجهة نظر العالم الثالث فهذه «المتاعب» هي حركات تحرير وطني)، والسبب الثاني أن الولايات المتحدة لا تستطيع تحمل سقوط شاه آخر بعد أقل من سنتين من سقوط الشاه الأصلي في إيران. أما الثالث فهو أن من الصعب تصور وجود تلاق في الفكر أو العمل بين وكالة المخابرات المركزية الأمريكية وبين التنظيمات الإسلامية.
هذه الأسباب لا تكفي على الإطلاق لتبرئة أمريكا من تهمة التآمر على قتل السادات؛ إذ إن محاربة السادات للشيوعية تتوقف على مقدار فاعليته كحاكم، بين شعبه والشعوب العربية الأخرى، أما فقدان السادات لفاعليته بين الشعوب العربية فكان قصة معروفة، بدأت منذ فض الاشتباك الأول، وانتهت إلى قطيعة تامة بعد اتفاقية كامب ديفيد، وهو أمر ينبغي أن تضعه أمريكا في اعتبارها، عندما تحسب مدى فائدته لها كصديق، وأما فاعليته بين شعبه فقد شهد بضياعها كثير من الأمريكيين، ومنهم سفراء في المنطقة نشروا تقارير مشهورة تضمنت نقدا مريرا لسياسة السادات، وكان الشاهد الأكبر على فقدان السادات فاعليته كصديق ينفع أمريكا في تحقيق سياستها في المنطقة، هو حركة اعتقالات سبتمبر، التي أغضبت الجميع، ولم تترك للسادات صديقا في مصر، بدءا بأقصى اليمين، حتى أقصى اليسار، مرورا بأحزاب المعارضة والسياسيين المخضرمين، فما قيمة هذا الصديق الذي يفقد فاعليته في بلده إلى هذا الحد؟ إن من اللافت للنظر أن حجم الانتقادات التي وجهت إلى أسلوب حكم السادات، بعد اعتقالات سبتمبر، التي سبقت اغتياله بشهر واحد، كان هائلا إلى درجة أدهشت السادات نفسه، فقد ثارت الصحافة الغربية، في أمريكا بوجه خاص، ثورة عارمة على ممارسات السادات غير الديمقراطية، وهو أمر ليس من عادتها أن تقوم به بالنسبة إلى أصدقائها في أمريكا اللاتينية، مثلا، الذين يصفون الألوف من معارضيهم جسديا، دون أن تتحرك الصحافة إلا فيما ندر، وهكذا كان واضحا أن نفس أولئك الذين «صنعوا النجم»، قرروا أن وقت أفوله قد حان.
أما عدم تحمل أمريكا لسقوط شاه آخر بعد أقل من سنتين، فهو حجة لا تقنع أحدا؛ إذ إن أمريكا تستطيع أن تتحمل سقوط ألف شاه ما دامت واثقة من أنها ستجد البديل، ولا ننسى أن الشاه كان يؤكد دائما أن أمريكا هي التي ألقت به بعيدا «كالفأر الميت»، بل إن احتمال اشتراك مخابراتها في التعجيل بموته، قد أثير بقوة في كثير من الأوساط.
تبقى أخيرا مسألة استبعاد وجود تلاق في الفكر أو العمل، بين المخابرات المركزية الأمريكية والتنظيمات الإسلامية، وهذه في الواقع حجة شديدة السذاجة، لا يملك المرء إزاءها إلا أن يقول لهيكل: أنت تعرف خيرا من ذلك! فالمخابرات الأمريكية لن تتلاقى مباشرة بالطبع، في الفكر أو العمل، مع أي تنظيم كذلك الذي قتل السادات، وإنما ستعمل من خلال «وسائط» قريبة من فكر هذا التنظيم وعمله، وما أكثر هذه الوسائط في البلاد الإسلامية، ولا بد أن يكون أسلوب العمل هو الاتصال عن بعد، بحيث لا يشعر المنفذون الأصليون بوجود أي تحريض خارجي على الإطلاق، وتظل دوافعهم الدينية الأصلية هي التي تدفعهم طوال الوقت، وينبغي أن نلاحظ أن تغلغل أجهزة المخابرات العالمية في الجماعات الشديدة التطرف، يمينا ويسارا، هو أسهل الأمور، وهو حادث بالفعل على نطاق عالمي. وعلى أية حال فإننا هنا ندخل منطقة من أخطر مناطق البحار العميقة، التي ينبغي فيها على شهرزاد أن تسكت عن الكلام المباح، وإلا فلن يدركها الصباح!
إن إبداء رأي قاطع في مثل هذه الأمور، التي هي بطبيعتها شديدة الخفاء، والتي تدبر بإحكام وتكتم بالغ، هو أمر مستحيل، ويكفي أن رئيس جمهورية أمريكيا مشهورا هو جون كنيدي قد اغتيل في ظروف مريبة إلى أقصى حد، وشعر الكثيرون أن أجهزة أمريكية خفية هي التي قتلته، ولكن الموضوع ظل حتى يومنا هذا غامضا، يثير علامات استفهام كبرى، بعد أن قدمت هذه الأجهزة شخصا على أنه القاتل، ثم قتلت هذا القاتل، ثم قتلت قاتل القاتل! إنها أمور لا تتكشف حتى لأدق لجان التحقيق، ولكن «الضحايا» الذين يعرفون أساليب هذه الأجهزة خيرا منا جميعا، لأنهم تعاملوا معها طويلا؛ غالبا ما يفهمون طبيعة ما حدث. فقد أدرك شاه إيران، كما قلنا، أن سلبية قادة جيشه إزاء المظاهرات العارمة في أيامه الأخيرة، لا بد أن تكون راجعة إلى أوامر من أسيادهم الأمريكان، وكانت زوجة السادات وأسرته، كما قال هيكل نفسه، من أقوى المؤيدين لنظرية المؤامرة الأمريكية، ولم يعدلوا عنها لأسباب منطقية، بل لأسباب مصلحية: «فقد وجد أفراد الأسرة أنها (أي النظرية) لا تستطيع أن تصل بهم إلى شيء، بل بالعكس قد تضر مصالحهم مع قوة يعتبرون أنها قادرة على حمايتهم.»
إنها كما قلت موضوعات شديدة التعقيد، يكاد يستحيل كشف وقائع ملموسة تلقي الضوء على خباياها، وكل ما يملكه المرء إزاءها هو أن يستنتج، ويرجح الفرض الذي يفسر أكبر عدد ممكن من الظواهر، وأحسب أن افتراض وجود مؤامرة أمريكية، بالصورة التي عرضناه بها، أقدر من غيره على تفسير أشياء كثيرة، فضلا عن أنه لا يتعارض مع الفرضين الآخرين، أعني وجود مؤامرة داخل الجيش، ووجود تنظيم إسلامي واسع النطاق هو الذي تولى تنفيذ العمليات، فمن الممكن أن يكون لهذه الجهات الثلاث معا دور في تلك العملية، التي خططت ونفذت بإحكام يفوق الوصف، وهو احتمال لم يعرض له هيكل، في حرصه الشديد على استبعاد الفرض الأمريكي بسرعة.
ولكن، إذا تركنا هذا الميدان الشديد الغموض، المحفوف بالمخاطر، وانتقلنا إلى التحليل السياسي المرتكز على أرض أكثر صلابة، لوجدنا أن أمريكا، إن لم تكن قد خططت لقتل السادات، فإنها حكمت عليه بالإعدام سياسيا، بعد أن استهلكته واستنفدت أغراضها منه.
فبعد أن وقع السادات معاهدة كامب ديفيد، بما فيها من بنود مفصلة، بشأن انسحاب إسرائيل من سيناء والتطبيع معها، وبما فيها من إشارات قليلة شديدة الغموض عن القضية الفلسطينية، وبعد أن ثارت ثائرة العالم العربي على هذه المعاهدة، وقطعت معظم بلاده علاقاتها بنظام السادات، كانت أمريكا تستطيع أن تسلك طريقا من طريقين:
الطريق الأول هو أن تدعم السادات وتضمن مستقبله السياسي، عن طريق إثبات صحة موقفه أمام العالم العربي، ويقتضي هذا الأمر أن تتطور الاتفاقية بحيث تصبح أكثر من مجرد صلح منفرد بين إسرائيل ومصر، أي أن تسير - كما طالب السادات مرارا - في طريق التسوية الشاملة. مثل هذا المسلك سيكون فيه إنقاذ للسادات؛ لأنه رهن مستقبله السياسي، وعلاقاته مع العالم العربي بأسره، على هذا التوقع، ولو سارت أمريكا، ومعها إسرائيل، في هذا الطريق، وحققت للسادات على الأقل جزءا مما يريد، خارج نطاق التسوية المحلية بين مصر وإسرائيل، لاستطاعت أن تعيد إليه مكانته في العالم العربي، ولأمكنها أن تربط كثيرا من البلاد العربية بعجلة الاتفاقية الجديدة.
ولكن هذا الطريق كان ينطوي، من وجهة نظر أمريكا، على عيوب واضحة: إذ إنه يؤدي إلى دفع ثمن باهظ، هو الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي المحتلة بعد 1967م، وإلى توحيد البلاد العربية في خط سياسي واحد، يقوي جبهتها في المطالبة بالحقوق الفلسطينية، وقد يؤدي في المدى الطويل إلى إنشاء كيان فلسطيني على مستوى معقول، فضلا عما تؤدي إليه التسوية الشاملة، بشروط معقولة، من توفير ضخم للأموال والطاقات العربية في اتجاه التنمية والتعمير.
أما الطريق الثاني، الذي يرجح أن إسرائيل قد ألحت عليه، واستجابت لها أمريكا بعد أن اقتنعت بأنه أكثر تحقيقا لمصالحهما المشتركة، فهو عدم مجاملة السادات، وعدم بذل أي جهد من أجل إنقاذه من ورطته، ما دام قد أدى مهمته الأساسية، وعدم التنازل لبقية العرب عن شيء، هذا الطريق يتضمن من وجهة النظر الأمريكية-الإسرائيلية، مزايا عديدة: بقاء العالم العربي ممزقا وفي حالة ضعف شديد، والاستفراد بكل دولة بعد الأخرى وعزلها عن الباقين، وإخراج مصر نهائيا من الصراع العربي الإسرائيلي، وضمان حرية الحركة الكاملة لإسرائيل. وهكذا فإن مزايا هذا الطريق أعظم بكثير، من وجهة نظر جبهة الأعداء، من الطريق الآخر.
وكان الثمن الوحيد الذي ينبغي دفعه في حالة اتباع هذا الطريق الثاني، هو التضحية بالسادات ...
والآن، تخيل نفسك أيها القارئ أمريكيا مخلصا، حريصا على مصلحة بلدك وعلى ارتباطات هذا البلد بالدولة الصهيونية، التي تحقق له كل أهدافه في المنطقة، فأي الطريقين تختار؟ تهديدك لمصالح بلدك وحلفائك من أجل فرد واحد مخلص لك، أم التضحية بالفرد وبمستقبله، مهما كان إخلاصه، من أجل ضمان مصالحك وزيادة مكاسبك؟
لقد كان جواز المرور الوحيد لدى السادات أمام العالم العربي، والمبرر الوحيد لتوقيعه المعاهدة، هو أن تستمر قوة الدفع إلى أن تتحقق التسوية الشاملة، ولكن الطرف الآخر - وله كل الحق فيما فعل، من وجهة نظره الخاصة - وجدها فرصة ذهبية لتوريطه، وتركه عاريا في منتصف الطريق، فضمن المكسب وتجنب الخسارة، وهكذا، فمنذ اللحظة التي ساندت فيها أمريكا حليفتها إسرائيل في تعنتها، ومنذ اللحظة التي قررت فيها أمريكا ألا تضغط على إسرائيل إلى الحد الذي يلزمها بالسير قدما نحو التسوية الشاملة؛ منذ هذه اللحظة كانت قد حكمت على السادات بالإعدام.
ولقد أدرك هذه الحقيقة بوضوح تام السفير الأمريكي الأسبق في مصر، لوشيوس باتل، وعبر عنها بكلمات بالغة الدلالة في المقال الذي كتبه في رثاء السادات: «كلما كانت الولايات المتحدة تضغط عليه للدخول في كامب ديفيد، كانت تعرضه للخطر يزداد، فلن نقبل نحن ولا الإسرائيليون نتائج الأخطار التي كنا ندفعه إليها، ولقد كانت الطريقة الوحيدة التي كان يمكن بواسطتها أن يصبح لاتفاقيات كامب ديفيد معنى في نظر السادات، هي افتراض إمكان التقدم نحو صلح شامل. وكان من الضروري أن تظهر علامات واضحة على أن طريقه هو الصحيح، حتى يحذو العرب الآخرون في الوقت المناسب حذو السادات، وهو أمر كان يقتضي فهما من جانب إسرائيل وضغطا من الولايات المتحدة على الفريقين لتحريك مباحثات الحكم الذاتي وخفض عدد المستوطنات في الضفة الغربية، ولكن بدلا من ذلك، زادت المستوطنات، وأضيفت إهانة ضرب المفاعل في العراق وقصف بيروت، ولم تفعل الولايات المتحدة شيئا. وهكذا أصبح السادات شهيدا لنفسه وللعالم الغربي، ولكن ليس للشرق الأوسط، سواء منه العربي أو الإسرائيلي.» «لقد كانت المجموعة الأمريكية التي شيعت جنازته ضخمة إلى حد لم يعرف له مثيل من قبل، وهكذا فإننا بعد أن خذلناه حيا، قد احتضناه ميتا.»
1
في هذه الشهادة المباشرة، يظهر بوضوح أن السادات كان، بالنسبة إلى أمريكا، قد استنفد أغراضه، وأدى ما هو مطلوب منه ثم ترك لمصيره المحتوم، ولم يعد مجديا بعد ذلك أن يحاول استرضاءهم بتصريحات حامية ضد الشيوعية؛ إذ إنهم كانوا قد أداروا له ظهورهم، وعندما زارهم قبل مصرعه بشهرين، كان واضحا أنه لم يعد في نظرهم الزعيم المفضل الذي كان، ومنذ كامب ديفيد، بل منذ زيارة القدس، أدرك أصدقاء أمريكا، الأكثر منه ذكاء والأبعد منه نظرا، أن السفينة غارقة لا محالة، وهكذا قفز منها إسماعيل فهمي، ثم منصور حسن، ثم هيكل، الذي كان على أية حال واعيا بأبعاد الأزمة قبل الجميع، ولو لم يكن القتل الفعلي قد تم بتدبير من أمريكا، لأمكن القول - على أقل تقدير - إن أمريكا هي التي قيدت يدي السادات بالسلاسل، وأمسكت برأسه وشدتها إلى الوراء، ولم يبق إلا السكين التي تذبح.
ومن هنا فإني أرى أن مرور هيكل السريع على مسألة دور أمريكا في مقتل السادات واستبعاده أي فرض يحملها مسئولية ما حدث لصديقها العتيد، هو أمر لا يمكن تفسيره إلا بأحد أمرين: إما أن هيكل يشعر بالخطورة الشديدة لخوض هذا الموضوع، الذي لا بد أن «أرشيفه» يمتلئ بالوثائق والمعلومات عنه، وإما أنه يريد أن يبعد عن ذهن القارئ أي احتمال لتورط أمريكا، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، في هذه العملية. •••
إن المنحى العام لكتابات هيكل، في مراحلها المختلفة، يقنع كل من يتابعها بدقة بأنه كان يرتبط بأمريكا في علاقة حميمة جدا، أما الانتقادات التي يوجهها إليها فإنها الاستثناء الذي يؤكد القاعدة؛ لأن أصدقاء أمريكا، إذا كانوا أذكياء، لا بد أن يهاجموها من آن لآخر، بل إنها هي ذاتها التي تطالبهم بذلك.
وأنا أعرف أن هذا الموضوع يثير حساسية خاصة لدى هيكل؛ ولذلك فإنني سأتبع في إثباتي لما أقول، أكثر الطرق أمانا، وأعني به الاستعانة بما يقول هيكل نفسه.
في أحد المواضع في كتاب «مدافع آية الله» يتحدث هيكل عن وساطة، طلبتها منه أمريكا من أجل حل مشكلة الرهائن الذين كانوا محتجزين في السفارة الأمريكية بطهران، مرة قبل محاولة أمريكا الفاشلة لإنقاذ الرهائن بالقوة الأولى في صحراء تاباز، ومرة أخرى بعد قيام هذه المحاولة وفشلها الذريع. في المرة الأولى سأله هارولد سوندرز، وكيل وزارة الخارجية الأمريكية، عما إذا كان على استعداد لمساعدة الرئيس كارتر، فأجاب هيكل بأنه على استعداد لمساعدة الإيرانيين، ومن الواضح أن السؤال أهم ألف مرة من الجواب، فما الذي يدفع موظفا رسميا أمريكيا إلى أن يسأل صحفيا مرموقا في دولة يوجد بينها وبين أمريكا تضارب شديد في المصالح، عما إذا كان على استعداد لمساعدة رئيس دولته؟ وعلى أي أساس بنى توقعه بإمكان قيام هيكل بهذه الخدمة للرئيس الأمريكي؟
ولكن الأهم من ذلك هو الوساطة التي طلب إلى هيكل القيام بها، عن طريق رسالة بعثها إليه الأمريكيون، ونص الرسالة، كما كتبها هيكل بنفسه،
2
هو: «واتضح أنها عبارة عن اقتراح، القصد منه أن أقوم أنا باستخدامه في محاولة جديدة لمفاتحة السلطات في طهران، وكانوا يأملون أن أوافق على هذه الخطوة، وكانت الوثيقة غريبة بالفعل، ولعل أفضل طريقة لإظهار مدى ابتعاد التفكير الأميركي عن الواقع هو أن أورد الوثيقة كما هي:
الفكرة هي أن يذهب هيكل إلى إيران، ويقدم إلى بني صدر طريقة تمكن الإيرانيين من استخدام كارثة عملية الإنقاذ؛ لإطلاق سراح الرهائن، وأن يضعوا نهاية لهذه القضية، كما يقوم هيكل بإقناعه أن مثل هذا العمل، فرصة نادرة ليركب موجة قومية إسلامية لتدعيم مركزه، ويمكن تقديم نفس الفكرة إلى الخميني باعتباره مشاركا في نفس الرغبة للتخلص من المشكلة.
ويمكن لهيكل أن يستفيد من النقاط التالية: (أ)
إن نجاح الثورة الإيرانية أمر قد اتضح وتمت البرهنة عليه من جراء الهزيمة المخزية لبعثة الإنقاذ الأمريكية، فلقد بين الله سبحانه وتعالى للعالم، أنه مهما كان العدو جبارا، فإن الحق في جانب المظلومين وفي هذه الحالة ستتاح للجميع فرصة ليشهدوا التسامي الخلقي للجمهورية الإسلامية؛ ولهذا: (ب)
خدمت قضية الرهائن الغرض الذي كانت ترغب فيه إيران، فقد كانت بمثابة الأداة التي أظهرت للعالم، وبشكل مثير، مساوئ حكم الشاه ودعم الحكومة الأمريكية له، إن عجز الحكومة الأمريكية عن القيام بعملية إنقاذ لهو الشهادة الثانية والأخيرة على عدالة أخذ الرهائن، (ولو على سبيل المثال: أدى الفعل الإيراني إلى رد فعل أمريكي، نتج عن فشله تأكيد للرسالة، التي كانت إيران تود أن تنقلها أساسا)؛ لذلك لم يعد هناك أي حاجة للرهائن. (ج)
سيتم الإفراج عن الرهائن؛ لأن إيران لم تكن تنوي أبدا إلحاق الأذى بهم، وهذه اللفتة ستظهر بشكل مثير وواضح مدى سماحة الإسلام ورحمته، وليس هناك شعور بالكراهية تجاه الشعب الأمريكي، وإنما ينصب الكره على الحكومة وحدها (فيطلق سراح الرهائن الآن، وليظهر غباء الأمريكيين وعدم مهارتهم أكثر من ذي قبل ولتنقلهم الطائرات من تاباز نفسها أمام مندوبي الصحف، ولتدون كل ملاحظاتهم الساخرة المستخفة بالولايات المتحدة ... إلخ)، ولتظهر إيران والجمهورية الإسلامية بمظهر المنتصر ذي الأخلاق السامية. (د)
وهكذا يظهر مختطفو الرهائن بمظهر المنتصرين والأبطال القوميين، فهم لم يلحقوا الأذى بأحد، كما أنهم نفذوا تعاليم الإمام، وستقوم الحكومة بمكافأتهم بسخاء، ويعترف الإمام بفضلهم بشكل خاص، قد تكون هذه هي آخر فرصة لقوة المختطفين لترك مجمع السفارة، دون حدوث ضرر لأحد في إيران. (ه)
يجب أن تعلن إيران نفسها قرار الإفراج، وكأنه حدث درامي يدل على الرحمة والعطف بالرهائن، وهي خطوة اتخذها الخميني بنفسه، وإجراءات الإفراج عن الرهائن ستمنح إيران فرصة هائلة للدعاية، تغطي بها الخمسة أشهر البائسة بمسحة من الأخلاق الحميدة والرحمة، وهكذا تجدد إيران صورة الإسلام، وهذا شيء يسعد كافة المسلمين في العالم، وتهاجم الحكومة الأمريكية مرة أخرى لعدائها للقضايا العادلة، وهذا لا يقلل من معركة إيران مع الحكومة الأمريكية، ولا يمثل أي نوع من المهادنة معها.
انتهت الرسالة.
ولقد تلقيت رسائل أخرى من واشنطن بعد ذلك، لكن حسب معلوماتي التي كانت ترد من طهران، كانت كل خطوط الاتصال مع الأمريكيين قد تداخلت بشكل يبعث على اليأس، فلم يكن لدى الإيرانيين أي فكرة عن المفترض فيه أن يتحدث معهم، ولا حتى عن تلك الإشارات التي كانوا يتلقونها من الأمريكيين وتعبر عن الموقف الأمريكي الحقيقي.» •••
آمل أن تكون، أيها القارئ، قد قرأت هذه الصفحات المنقولة حرفيا بإمعان، فلم يكن ما تطلبه أمريكا هنا من هيكل مجرد وساطة، بل إنهم اختاروه شخصيا للقيام بعملية خداع واستغفال لعقول الإيرانيين، مستغلا مشاعرهم الإسلامية، بحيث يتعامل معهم كما لو كانوا مجموعة من الهنود الحمر البدائيين، الذين يمكن الحصول على كل شيء منهم مقابل عقد من الخرز الملون، وبالطبع فقد تصور هيكل أنه يدافع عن نفسه، حين قال إنه لم يقم بتنفيذ المهمة المطلوبة منه، ولكن هذا، في الواقع، ليس دفاعا على الإطلاق؛ إذ إن المشكلة لا تكمن في التنفيذ أو عدم التنفيذ، وإنما في الطلب ذاته.
المشكلة الكبرى هي أن الأمريكيين «كانوا يأملون أن يوافق على هذه الخطوة.» فعلى أي أساس جاءهم هذا الأمل؟ كيف تصوروا أنه سيقبل الاشتراك في عملية خداع الحكام الإيرانيين ومعاملتهم كأنهم أطفال؟ من أين جاء كل هذا الأمل، وكل هذا «العشم» في هيكل؟ وكيف توقعوا منه أن يتجاوز مهمة الوساطة ويقوم بتمثيلية خداعة على الإيرانيين باسم الإسلام، أي أن يخاطبهم وفي نيته أن يغشهم ويستغل سذاجتهم لصالح أمريكا؟ وما هو نوع الروابط التي تربطه بهم حتى يطلبوا منه شيئا كهذا؟
إن هيكل يستطيع أن يقول، بالطبع، إنه ما دام قد نشر الرسالة فلا بد أنه كان حسن النية، ولكن الواقع أنه لا يدرك ما يمكن أن تكشفه رسالة كهذه عن الطريقة التي ينظر بها الأمريكيون إليه، فمن المستحيل أن تطلب أمريكا من إنسان عادي - مهما كانت مكانته - أن يعرض نفسه للأخطار من أجل أداء كل هذه الخدمات لصالحها، وحتى لو كانت أمريكا قد أساءت التقدير، وتصورت خطأ أن هيكل يمكن أن يقوم بهذا كله لحسابها، فإن لهذا الخطأ ذاته دلالته البالغة؛ لأنهم لا يمكن أن يكشفوا أوراقهم على هذا النحو لأي شخص غير ملتصق بهم، ومن جهة أخرى فقد كان المفروض، في حالة خطأ أمريكا، أن يرد عليهم هيكل بشدة، لا معتذرا فقط، بل مستنكرا هذا الطلب بكل قوة، كان المفروض أن يرد عليهم ردا شديد العنف، يقول فيه، مثلا: هل تتصورون أنكم تخاطبون شخصا يشتغل لحسابكم حتى تطلبوا مني شيئا كهذا؟ وكيف تتخيلون أنني سأقوم بعملية خداع واستخفاف بعقول أناس وضعوا ثقتهم في؟ ولكن هيكل لم يفعل ذلك، والدليل على هذا هو أن كل ما انتقده على الأمريكيين، في تعليقه على رسالتهم، هو «ابتعاد تفكيرهم عن الواقع»، والدليل الأهم على أنه لم يستنكر، ولم يوقف الأمريكيين عند حدهم، هو أنهم عادوا فبعثوا إليه برسائل أخرى.
إن هيكل لم يدرك النتائج الخطيرة للكلمات التي قالها، وكل ما طاف بذهنه هو أنه كان في هذه القصة رجلا مهما، يسعى إليه وزير الخارجية الأمريكي ويختاره شخصيا للتوسط بين دولتين، إحداهما أكبر وأقوى دولة في العالم، وفي نشوة الإحساس بالسعادة الناتج عن الشعور بأهميته، لم ينتبه إلى المعاني الواضحة التي يستطيع أي عقل على قدر ضئيل من الذكاء أن يستخلصها من روايته.
وفي ضوء هذه الاعترافات الخطيرة، غير المقصودة، التي أدلى بها هيكل، ألا يشعر المرء بالإشفاق حقا على الإيرانيين الذين فتحوا له أبوابهم، وأطلعوه على أخطر وثائق السفارة الأمريكية، بعد أن خدعتهم شهرته المرتبطة بجمال عبد الناصر، ثم خرج هو من الزيارة بكتاب تضمن كثيرا من السخرية من الإيرانيين، وربما خرج بما هو أكثر من ذلك؟
إنني، إدراكا مني لحساسية هذا الموضوع عند هيكل، حرصت على ألا أستخدم نوع الألفاظ الذي يغضبه، ولكن الأهم من ذلك أنني لم آت بشيء من عندي، وكل ما فعلته هو أنني تركت هيكل يدين هيكل.
الفصل العاشر
من الذي هدم الهيكل؟
ما نوع ردود الفعل التي يمكن توقعها إزاء بحث هكذا الذي كنت أقوم به طوال الفصول السابقة؟ سأترك جانبا ردود الفعل الإيجابية الممكنة، وأركز حديثي على ردود الفعل السلبية.
إن هناك فئة غير قليلة من القراء تفكر على النحو الآتي: ما دام هيكل قد أساء إلى السادات، وما دام هذا الناقد (كاتب هذه السطور) قد استهدف كشف أخطاء هيكل، إذن فنقده مفيد في الانتقام من هيكل لصالح سياسة السادات.
وهناك فئة أخرى، ربما كانت أكثر عددا، تنظر إلى المسألة بالطريقة العكسية: بما أن هيكل قد فضح عهد السادات، وهو عهد غير وطني، إذن فلا بد من الوقوف إلى جانبه، أما من يهاجم هيكل في الظروف الراهنة فإنه يضعف الجبهة المعادية للسادات، بعد أن كانت قد انتعشت بظهور كتاب هيكل، وواضح أن الأساس الذي يقوم عليه هذا النوع من التفكير هو مبدأ: عدو عدوي صديقي (عدوهم السادات وهيكل عدوه)، وتبعا لهذا المبدأ يكون كاتب هذه السطور، في انتقاده لهيكل، هو في الواقع «عدو عدو عدوهم، أي عدو صديقهم، أي عدوهم!»
ومع اعتذاري للقارئ عن هذه الألغاز اللفظية الأخيرة، فإني أجد في هاتين الطريقتين في الفهم لب الخطأ الذي أحاول منذ البداية أن أقنع القارئ بألا يقع فيه، فموقفي، كما قلت مرارا، منصب على نقد جو فكري عام، وأسلوب كامل في النظر إلى عملية الحكم، وعلاقة الحاكم بالمحكوم، وطريقة اتخاذ القرارات الحاسمة، وهذا الأسلوب أوسع نطاقا من أي فرد تحدثت عنه في هذا الموضع أو ذاك، بحيث لا يمثل هيكل وكتابه الأخير إلا حالة صارخة، حادة، قريبة العهد، من حالات ظاهرة أقدم وأوسع انتشارا وأقوى رسوخا بكثير.
وإذا كان الساداتيون، الذين ينتمي إليهم أصحاب الرأي الأول، قد قرءوا ما كتبت بإمعان، فسوف يدركون أن نقدي للعهد الساداتي ربما كان أشد حدة من نقد هيكل؛ لأنني أرجعت كثيرا من الظواهر إلى جذورها الحقيقية؛ ومن ثم فإن أية محاولة يبذلونها للإفادة مما كتبت هي، كما قلت في مقالي الأول، مرفوضة من أساسها.
أما أصحاب الرأي الثاني، الذي يضم عناصر من الفئات الناصرية واليسارية والقومية، فإنهم يرتكبون خطأ جسيما حين يستعينون، من أجل دعم موقفهم، بشخصيات مثل هيكل. إن الكثيرين منهم، بالطبع، يصفون موقفي بأنه نوع من المثالية التي تفتقر إلى الحس العملي. إنه بحث عن الصواب المطلق أو الخطأ المطلق، لا يعرف كيف ينتهز الفرص السانحة ويستفيد من أي عنصر - بصرف النظر عن طبيعة هذا العنصر في ذاته - من أجل خدمة قضيته، هذا رد أتوقعه من الكثيرين، بل أتوقع ما هو أشد منه، فمن هؤلاء من سيهاجمني بعنف، مؤكدا أن هيكل الآن يخوض معركة ضد المؤسسة الساداتية كلها، ولا بد من تأييده ومساندته، لا إضعافه ومحاربته.
ولكن هذا المنطق، في رأيي، مرفوض من أساسه ، فالمسألة ليست على الإطلاق مثالية مفرطة في الابتعاد عن الواقع، وإنما هي - على عكس ذلك - موقف واقعي وعملي بكل معاني الكلمة؛ ذلك لأننا لن نستطيع أن نفهم العوامل المؤدية إلى السقوط الذي وصلنا إليه، في كافة جوانب حياتنا، إلا إذا حللنا بدقة أساليب التفكير والممارسة عند أولئك الذين تحكموا في مصائرنا طوال عشرات السنين، وانتقدنا هذه الأساليب دون أية مهادنة. وحالة هيكل تقدم لنا نموذجا بارزا لهذه الأساليب، وإن كان يظل رغم كل شيء مجرد نموذج، لا يهمنا إلا بقدر ما يدل على المناخ السياسي والفكري العام الذي كان ينتمي إليه.
والواقع أنني لا أجد، من منظوري الخاص، أية فائدة ترجى من التحالف مع شخصيات اعتادت التقلب مع عهود الحكم، بحيث لا ندري، إذا كانت تتخذ اليوم خطا وطنيا (سنقدم له تفسيرا فيما بعد)، وهي أن هيكل أسهم بدور أساسي في إرساء دعائم الاتجاهات التي ينتقدها اليوم على السادات، عندئذ يبدو التحالف معه أمرا محفوفا بالخطر، ويبدو انقلابه الأخير على السادات موقفا لا علاقة له بالمبادئ السياسية، وإنما هو في حقيقته، ومهما أنكر هيكل، انتقام شخصي يلبس رداء الوطنية.
وفي غمرة الغضب الذي اجتاح هيكل، خلال فترة اعتقاله القصيرة الأمد، نسي أشياء كثيرة، ولم يتذكر إلا أنه يريد أن ينتقم، وكان لديه بالطبع مخزون المعلومات الهائل الذي يضمن له انتقاما مدويا، وهكذا تحدث هيكل عن أخطاء السادات، مدعمة بالوثائق التي تفضح أشياء كثيرة وخطيرة، كما لو كان مشاهدا محايدا، ونسي الدور الخاص الذي لعبه في هذه الأخطاء، بل إنه حين تدقق في سرد المعلومات من مخزونه الكبير، نسي أن الكثير مما قاله له دلالات عكسية، ويأتي بنتائج سلبية على الجميع، سواء عليه هو، أو على الحكام الذين عاش في عهدهم، ومرت عليه أشياء خطيرة انزلق إليها دون أن يدرك معانيها، حتى ليشعر المرء - كما سنرى فيما بعد - أن غضبه قد سد عليه منافذ التفكير.
ولو كان هيكل متسقا مع نفسه، لتمالك غضبه وبدأ كتابه بانتقاد نفسه. كان من واجبه تجاه ذاته، وتجاه وطنه، أن يقول: «لقد أيقظتني فترة السجن من غفوة طويلة، كنت على خطأ في كثير من مواقفي طوال الأعوام الثلاثين الماضية، وكان أكبر أخطائي مساندتي القوية للسادات ودعمي لحكمه، وها أنا ذا أكفر عن أخطائي ...» لو كان هيكل قد بدأ بكلمات كهذه، وصاغ كتابه في هذا الإطار، لما تعرض لكلمة نقد واحدة مني أو من غيري، بل لصفقنا له جميعا؛ إذ إنه كان سيقدم إلينا عندئذ عملا رائعا، يكشف الحقائق المخفية، ويلقي - بموضوعية - أضواء باهرة على أخطر مرحلة في التاريخ العربي المعاصر.
ولكن هذه أمنية يستحيل أن تتحقق؛ إذ كيف تنزل الآلهة من عليائها وتعترف بأخطائها؟ إن هيكل يرى نفسه أرفع حتى من الرد على منتقديه، فكيف نتوقع منه نقدا ذاتيا شاملا؟ على رسله إذن، وليتحمل نتيجة موقفه.
لقد كانت لدى هيكل حاسة سياسية مرهفة، جعلته يتخذ حتى النهاية موقف المحامي عن عبد الناصر، وبدرجة أقل، عن عصر عبد الناصر، رغم أنه شارك بدور رئيسي في بذل الجهد الضخم الذي أدى إلى القضاء على أهم مقومات العهد الناصري في 15 مايو، وكان من دعامات التحول الحاسم الذي كان لا بد أن يفضي في النهاية إلى انهيار سياسة الحياد الإيجابي، وإلى الانحياز لأمريكا، بكل ما يعنيه ذلك من انضمام إلى صف أعداء الشعوب ومكافحي التحرر الوطني، ومن تصالح وتطبيع مع إسرائيل، ومن سيطرة للطبقات الطفيلية والبنوك الأجنبية. وإذا كان هيكل قد انتقد هذه النتائج كلها بشدة في الآونة الأخيرة، فإن دعمه الحاسم للسادات ، الذي كان هيكل يعرف جيدا ميوله واتجاهاته واتصالاته، كان لا بد أن يؤدي إلى نتائج كهذه في المدى البعيد.
ولقد أتاحت هذه الحاسة السياسية المرهفة ذاتها لهيكل، أن يقفز من مركب السادات في الوقت المناسب، ويدخل من أجل ذلك السجن فترة قصيرة، وكان دخوله السجن في الواقع أكبر «ضربة حظ» نالها في السنوات الأخيرة؛ فعندما أصدر «خريف الغضب»، استطاع أن يكتسب لنفسه تأييد كل الساخطين على عصر الانفتاح، ولصوص التموين والارتماء في أحضان بيجن، وتوصيل ماء النيل إلى القدس، وبيع آثار مصر ومواقعها التاريخية. تحول هذا كله إلى رصيد لصالح هيكل، واعترف هو نفسه بذلك حين قال في الفصل الأول من كتابه، معلقا على مهاجمة السادات له: «حين يجعل رئيس الدولة من أحد مواطنيه هدفا دائما لمهاجمته، فهو بذلك يرفع من قدره ولا ينتقص منه، وبالتالي فلعلي لا أتجاوز إذا قلت إنني على نحو ما مدين للرئيس السادات بما أضافه - دون أن يقصد - إلى قيمتي في الساحة الوطنية والساحة الدولية على السواء.» وبصرف النظر عما يمكن ملاحظته بسهولة من أن تضخيم الذات واضح في هذا الكلام، فإن الحقيقة الواقعة هي أن هيكل قد أصبح في نظر الكثيرين «بطلا» وطنيا، وأخذ الوطنيون الشرفاء يتبنون قضيته، إما عن كراهية للسادات تحتم التصفيق بلا تفكير لكل من يهاجمه، وإما عن عجز عن الربط بين حلقات التاريخ، وفي المقابل، فإن خصومه من الساداتيين أخذوا يهاجمونه بعنف؛ مما جلب له مزيدا من الشعبية ... وحين اتخذت الحكومة بعض الإجراءات القمعية، بإصدار تشريع استثنائي آخر يمنع أي «مسئول» من الإفشاء بأسرار كان مطلعا عليها، تحول هيكل، الذي طالما برر الحكم الفردي وصاغ له النظريات البارعة، إلى شهيد لحرية الرأي والديمقراطية المهدرة.
إن قصة هيكل مع الحرية والديمقراطية قصة طويلة، ليس هنا مجال الكتابة عنها، وكل ما نود أن نفعله هو أن نركز انتباه القارئ على جوانب معينة من الانتقادات التي وجهها، مؤخرا، إلى السادات، والتي وقف فيها يدافع بقوة عن هذه المبادئ السامية، ثم نسأل أنفسنا: هل كان هيكل، في انتقاداته الأخيرة، يدين السادات وحده، أم يدين نفسه أيضا، ويدين كل المناخ السياسي الذي كان يعمل فيه؟
يتحدث هيكل في الفصل الخامس من كتابه عن الهدايا التي كان السادات يتلقاها فيقول: «وخلال سنوات عمله في المؤتمر الإسلامي، كان السادات يتلقى الكثير من الهدايا، في عالم يؤمن بالهدايا كوسيلة من وسائل توثيق الصلات.» فإذا تساءلنا: أي عالم كان يقصد؟ أتانا الجواب سريعا: «لكن الحق يقال إنه كان كريما في تقديم الهدايا قدر كرم الآخرين في تقديمها له، لقد قدم أنور السادات في تلك الفترة أكثر من سيارة «كاديلاك» كهدايا لعبد الحكيم عامر.» إذن فالمقصود عالم أقطاب ثورة 23 يوليو، أولئك الثوار الذين استهدفوا تطهير مصر من «فساد» الأحزاب القديمة، والذين يهدي أحدهم إلى الآخر بعضا مما أنعم الله به عليه، هو مجرد «سيارات» كاديلاك تقدم إلى الرجل الثاني بين الثوريين، الذي وصفه هيكل في الموضع نفسه بأنه: «كان في نفس الوقت أقرب أعضاء مجلس قيادة الثورة إلى قلب جمال عبد الناصر.»
حسنا، إن مثل هذه الأشياء تحدث في أحسن «الثورات»، ولكن ألم تكن هذه الواقعة تستحق من هيكل تعليقا على النظام الذي سمح بهذا، وجعل من الهدايا وسيلة لتوثيق الصلات، هل هذه هي الدروس التي يقدمها فلاسفة الثورة للأجيال الجديدة؟
ينتقد هيكل العهد الساداتي على كثير من ممارساته اللاديمقراطية، وهو قطعا على حق في هذا النقد، ولكنه لا يقدم إشارة واحدة إلى الإطار التاريخي الذي ظهرت في ظله هذه الممارسات، ويصورها كما لو كانت قد ابتدعت في عهد السادات.
فهو يعيب على السادات إصداره تشريعا يمنع الذين «أفسدوا الحياة السياسية قبل الثورة أو بعدها» من النشاط السياسي، وينسى أن تشريعات كهذه كانت تصدر من آن لآخر طوال عهد الثورة، كان أولها ما صدر في عام 1953م تمهيدا لحل الأحزاب. وهكذا فإن تشريع السادات حلقة في سلسلة طويلة من الإجراءات القمعية ضد التجربة الحزبية في مصر، ولم يكن السادات في إجرائه هذا إلا ابنا مخلصا للتراث الذي تربى سياسيا في ظله. وما دام هيكل قد وجد في التشريع الساداتي إجراء تعسفيا - وهو بالفعل كذلك - فلماذا سكت عن الإجراءات المماثلة السابقة، بل لماذا أيدها ودعمها بتنظيراته؟ هنا نرى هيكل واحدا ضمن سلسلة طويلة من رجال الثورة الذين كانوا يؤيدون الدكتاتورية وهم في الحكم، ثم يتحولون بقدرة قادر إلى ديمقراطيين متحمسين عندما يتم استبعادهم، من أمثال البغدادي وكمال الدين حسين وهويدي ... إلخ.
وهو يسخر من تلاعب السادات في الدستور، وتعديل المادة الخاصة برئاسة الجمهورية، بحيث تتجدد مدة الرئاسة إلى ما لا نهاية! هل كانت هذه هي المرة الأولى التي حدث فيها ذلك؟
بل إنه يلاحظ في الفصول الأخيرة، عن حق، أن السادات كان لديه دستور لا بأس به، ولكنه لم يكن يتقيد به ... ألم تكن هذه فرصة لنقد مبدأ التلاعب بالدستور بوجه عام، ولإعطاء القارئ درسا في أهمية الدساتير ووجوب احترامها في كل العهود؟
وحين يسخر هيكل من استفتاءات السادات، التي كانت نتائجها مضمونة مقدما، والتي كان يلجأ إليها لإضفاء صبغة قانونية زائفة على إجراءات أو تشريعات مخالفة بطبيعتها لروح القانون والدستور؛ فهل كان هيكل يهاجم مبدأ الاستفتاء ذاته، أم كان يهاجمه فقط عندما طبقه خصمه السياسي؟ ألم يكن الاستفتاء مبدأ معمولا به قبل عهد السادات بوقت غير قصير؟
ومما يلفت النظر أن هيكل قد انتقد بشدة، في كتابه الأخير، طبيعة التنظيمات السياسية غير الشعبية التي تخلقها السلطة لدعم مركزها، ويشير إلى عيوبها بقوله: «لم تكن لدى حزب مصر - على سبيل المثال - ولا الحزب الوطني بعده، من القوة السياسية إلا ما أسبغه النظام بالسلطة عليهم ليكونوا واجهات يتستر وراءها الفعل الحقيقي، وكان أكثر من نصف أعضاء مجلس الشعب من هؤلاء الذين غيروا آراءهم مع تغيير الحكومة لسياساتها، كانوا اشتراكيين في الوقت الذي كان من الحكمة فيه أن يكونوا أعضاء في الاتحاد الاشتراكي العربي، وأصبحوا رأسماليين عندما انفتحت الأبواب لرأس المال الأجنبي، وكانوا أصدقاء للاتحاد السوفييتي حين كان ذلك ملائما، ثم انتقلوا بسرعة - حين تغيرت الظروف - إلى الصداقة مع الولايات المتحدة، وكانوا دعاة الحرب مع إسرائيل، وبعد المبادرة أصبحوا كلهم من دعاة السلام.»
هذا تشخيص سليم بغير شك، ولكن هل ينطبق على أعضاء حزب مصر والحزب الوطني وحدهم؟ ألم ينتقل عدد كبير من الأعضاء قبل ذلك، من هيئة التحرير إلى الاتحاد القومي إلى الاتحاد الاشتراكي، رغم اختلاف المبادئ والأسس في كل حالة؟ ألم يكونوا بدورهم رأسماليين في البداية، ثم أعلنوا ولاءهم للاشتراكية حين أصبحت سياسة رسمية؟ إن جوهر نقد هيكل كان ينبغي أن ينصب على أسلوب الحكم الذي يفرض تنظيما شعبيا مقلوبا، يسير نشاطه من القمة إلى القاعدة، على حين أن التنظيمات، لكي تكون شعبية بحق، لا بد لها أن تبدأ بالقاعدة وتنقل رغباتها ومطالبها إلى القمة، ومثل هذا الأسلوب لم يبدأ فجأة في عهد السادات، بل كانت له مقدمات طويلة.
أما الحديث عن أولئك الذين كانوا أصدقاء للاتحاد السوفييتي حين كان ذلك ملائما، ثم انتقلوا عندما تغيرت الظروف إلى الصداقة مع الأمريكان، فإنه حديث جريء حقا، وخاصة حين يصدر عن هيكل، وأرجح أنه كتب هذا الجزء وهو جالس أمام المرآة!
وحين وصف هيكل عملية اعتقاله وصفا دراميا مفصلا، كان يتحدث في الواقع عن نقطة هامة في حياته، جعلته يتخذ قراره بأن يتكلم، والأمر المذهل حقا هو أن هذا الاعتقال المخفف جدا، سواء من حيث مدته أو أسلوب معاملته في السجن، لم يكن مما يمكن مقارنته على الإطلاق بما حدث لألوف الأشخاص من قبل، ممن ذاقوا أشد الأهوال لمدد أطول كثيرا، وفي ظروف أصعب ألف مرة، ومع ذلك فإن هيكل يصور حادثة اعتقاله كما لو كانت شيئا فريدا في نوعه، ولم يحاول أن يعالجها، ولو في سطر واحد، بوصفها ظاهرة عامة ونتيجة ضرورية لأسلوب معين في الحكم.
وواقع الأمر أن هيكل لم ينطق بحرف حين كانت الاعتقالات تحدث جزافيا، وتنتهي في حالات معينة بعاهات مستديمة للمعتقلين، وربما موتهم، لم يحركه امتهان كرامة الإنسان أو لجوء فئة معروفة من السجانين إلى ممارسات غير آدمية، وكل ما دافع به عن نفسه أنه هو الذي صاغ عبارة «زوار الفجر» ... ومتى؟ عندما كان الانهيار قد حدث، وكان النظام في حاجة إلى ما يهدئ مشاعر الشعب المجروح بالهزيمة عن طريق ممارسة محدودة للنقد الذاتي، أما في ذروة أيام القمع فلم يحرك ساكنا.
ويقدم إلينا هيكل أوصافا وتفاصيل طريفة عن إحساس السادات بالعظمة، وبأن الآخرين إلى جواره «أقزام»، وعن عزلته المتزايدة وتناقص عدد مستشاريه يوما بعد يوم، ولكنه يصف هذه الظاهرة كما لو كانت عيبا شخصيا في السادات، ولو تعمق في الأمر قليلا لأدرك أن أسلوب الحكم الفردي لا بد أن يؤدي إلى هذا النوع من جنون العظمة، فحين يمسك فرد واحد، لمدة سنوات عديدة، بسلطات هائلة في يديه، وحين يسمع كلمات الموافقة والطاعة من كل المحيطين به، وحين تملأ صوره وأخباره وكلماته أجهزة الإعلام صباح مساء، وحين تتحول أية رغبة له إلى واقع فعلي بمجرد أن ينطق بها، وتتقرر المصائر والسياسات بكلمات من قلمه ... حين يحدث ذلك كله لفرد واحد، لا بد أن ينتهي تكوينه النفسي إلى عدم التوازن. وكم ألفت كتب عن هذه الظاهرة في حالة عدد كبير من الحكام الفرديين، ومع ذلك فإن هيكل يقدمها إلينا كما لو كانت تعبيرا عن اختلال في شخص السادات نفسه، ويتجاهل الجانب العام للظاهرة، الذي يجعلها نتيجة ضرورية لانفراد إنسان واحد بعدد هائل من السلطات.
إن القضية ليست قضية السادات وحده، ولا عبد الناصر وحده، بل قضية أسلوب الحكم الذي لا يستند إلى تمثيل شعبي حقيقي؛ ذلك الأسلوب الذي أدركه هيكل في حالة السادات، ولم يدركه قبل ذلك، والأمر المؤسف هو أنه كان واعيا به؛ إذ كان هو الذي نصح السادات، بعد انتصاره في حركة التصحيح، بأن يحدث الناس في خطابه إلى مجلس الأمة عن قضية الديمقراطية؛ لأنها هي «القضية التي تهم الناس مباشرة في هذه الظروف. إن الناس يريدون أن يسمعوه وهو يؤكد لهم ضمانات حرياتهم. لقد أفلتوا بالكاد من شبح دكتاتورية كان يمكن أن تصل في تجاوزاتها إلى حد بعيد.»
1
إذن فقد كان هيكل يعلم أن الناس تواقة إلى الديمقراطية، وأن الجناح الذي هزم، والذي هو الملتصق بعبد الناصر والمنفذ لسياسته، كان دكتاتوريا، فهل حاول في ذلك الحين أن يدافع عن المبدأ الذي تحول الآن إلى داعية له، أم أن الديمقراطية لا تجد من ينادي بها إلا حين يكون الحاكم في موقع الضعف، بينما تسحق بالأقدام بمجرد إحساسه بالقوة؟
إن هيكل على العكس من ذلك، طلع علينا - خلال فترات الشعور بالقوة - بنظرية «الديمقراطية بالموافقة»، ويعني بها أن يكون الحاكم على وعي بمطالب الجماهير وأمانيها، فيحققها لها ، وعندئذ لا بد أن يكون تصرفه ديمقراطيا؛ لأن الجماهير ستوافق حتما عليه؛ ولأنه تعبير صادق عما تريده الجماهير. ويدافع هيكل، في حديث قريب، عن هذه الفكرة، مؤكدا أنه لم يقل بها إلا بعد أن اتخذت القرارات الكبرى المعبرة عن موافقة الشعب، كتأميم قناة السويس والتطبيق الاشتراكي وبناء السد العالي ... إلخ. ولم يدرك هيكل أنه حتى هذه القرارات الكبرى ينبغي أن تستند قبل اتخاذها لا بعده، إلى إرادة شعبية، أما لو اقتصر الأمر على اتخاذها من أعلى، فستظل معرضة للخطر، وهذه بالفعل كانت الغلطة الكبرى للعهد الناصري؛ فقد اتخذ بالفعل قرارات كبرى وحاسمة، ولكنها لم تنبثق عن الشعب وإنما أتت من أعلى، وظلت معتمدة على بقاء الزعيم الذي أوجدها، فلما اختفى، انهارت بعده وكأنها بيت من ورق.
وهكذا كانت نظرية «الديمقراطية بالموافقة» بدعة هيكلية، ينكرها أي حس ديمقراطي سليم، بل إننا لا نعدو الصواب إذا قلنا إنها سلاح ذو حدين؛ إذ إن السادات كان يؤكد، من جانبه أن «99,9٪ من شعبي يؤيدني في زيارة القدس، وفي الصلح والتطبيع مع إسرائيل، ولا يعارضني في ذلك إلا مجموعة من الأرذال! ...» أترون إلى أين يمكن أن تؤدي بالشعب أفكار خطيرة كالديمقراطية بالموافقة؟
إن الحكم الفردي، حتى لو بلغت إنجازاته عنان السماء، يظل معرضا للوقوع على الدوام في كوارث، وما كانت كارثة 1967م - التي لم يعرض لها هيكل في كتابه إلا بطريقة سريعة وفي مساحة تقل بكثير عما خصصه للحديث عن مسكن السادات أو زوجات أبيه - ما كانت في حجمها وفي فداحتها إلا نتاجا للحكم الفردي. والواقع أن مشكلة هذا الأسلوب في الحكم هي أن خطأ الفرد فيه يمتد إلى أمته بأسرها، على حين أن تأثير الخطأ في الحكم الديمقراطي يكون أضيق نطاقا بكثير، فضلا عن أن احتمالاته أقل، وإمكانية إصلاحه أكبر، ومن هذا النوع كان خطأ عبد الناصر في التقدير عام 1967م، وخطأ السادات في أسلوب التفاوض بعد حرب 1973م، وزيارته للقدس عام 1977م، إنها كلها قرارت فردية لحاكم فرد، معرض كسائر البشر للخطأ، ولكن خطأ يتحول، بسبب طبيعة حكمه، إلى كارثة.
وتلك كلها مسائل لم يحاول هيكل أن يتطرق لها، بل عرض في الفصل الأخير من كتابه لأخطاء السادات كشخص، ولم يتناول أسلوب الحكم الذي كان السادات أحد مظاهره؛ ومن هنا شاع التفاؤل في صفحات الكتاب الأخيرة، ما دامت الشخصية «الشريرة» قد اختفت، وحلت محلها شخصية ذات مزاج مختلف. •••
والآن فلقد كنت طوال حديثي السابق أتحدث بلسان المفكر السياسي أو الاجتماعي، ومع ذلك فإني لا أستطيع أن أقاوم إغراء العودة، في نهاية هذا الحديث الطويل، إلى ممارسة مهنتي الأصلية: الفلسفة! فحين تأملت مواقف هيكل وأساليب تفكيره، توصلت إلى مجموعة من النقاط، أستطيع أن أطلق عليها اسم «مبادئ الفلسفة الهيكلية»، فما هي هذه المبادئ؟
المبدأ الأول: في البدء كان النسيان
إن المتأمل لتقلبات هيكل وتغير مواقفه، يستطيع أن يدرك بوضوح أن النسيان أساس ضروري، يعتمد عليه هذا النوع من المفكرين، من أجل إقناع الناس بآرائهم، ولقد ضربنا أمثلة واضحة، بل صارخة، لتحولات جذرية طرأت على مواقف هيكل من القضايا المصيرية للأمة العربية في ثلاث سنوات متعاقبة: 1970، 1971، 1972م، بحيث بدأ هذه السنوات بموقف راديكالي متشدد، وانتهى - بعد تدرج مرسوم بعناية - إلى موقف شديد الاعتدال، وانعكس اتجاه تأييده المعلن، من الاتحاد السوفييتي إلى الولايات المتحدة، واختلف تصوره للحرب المنتظرة ... إلخ. مثل هذه التحولات الجذرية لا يمكن أن يجرؤ أحد على تقديمها إلى الناس في سنوات متعاقبة كهذه، إلا إذا كان واثقا من أن الناس سرعان ما ينسون، وإنك إذا كررت موقفك الجديد وألححت عليه بما فيه الكفاية، فلن يعود في ذهنهم سواه، ولن يحاسبك أحد على ما قلت من قبل.
إنها عقلية تحتقر ذكاء الجماهير، وتفترض أنها تعيش، وتفكر، يوما بيوم، وتتصور أن كل ما يحتاج إليه السياسي هو أن يكرر الأكذوبة لكي تصبح حقيقة، ولو تصور أحد أن الكاتب نفسه هو الذي ينسى مواقفه السابقة، وليس الجمهور، لكان في ذلك مخطئا أشد الخطأ، فمثل هؤلاء الكتاب، ومعهم الحكام الذين يعملون هم لحسابهم، يتذكرون كل شيء، ولكنهم يؤمنون بأنهم هم وحدهم الأذكياء ، ويسلمون تسليما كاملا بغباء الآخرين، وفي ضوء هذا المبدأ نستطيع أن نفسر جرأة هيكل على اتخاذ عدد كبير من المواقف، التي كانت متعارضة فيما بينها تعارضا شديدا؛ إذ بدأ برفض التجربة الحزبية، وأيد عبد الناصر بكل قوة ولم يقل شيئا عن ممارساته القمعية، ثم شارك في تحطيم أقرب أعوان عبد الناصر، ومهد الطريق بكل ما يملك من قوة لعهد هدم كل الأسس التي قامت عليها سياسة عبد الناصر، وساند حياد عبد الناصر الإيجابي، وتوجهه بالتالي نحو السوفييت، ثم توجه السادات نحو أمريكا، ثم عاد أخيرا يتباكى على أيام التوازن الاستراتيجي بين السوفييت والأمريكان، ومشى مهللا ومصفقا في جنازة الديمقراطية في النصف الأول من الخمسينيات، وشارك في تحديد وتبرير الاتجاهات الرئيسية للحكم الفردي، ثم بكى لوعة على الديمقراطية الضائعة في آخر عهد السادات، ورفع السادات في أول عهده إلى عنان السماء، ثم اتضح لنا أخيرا أنه كان يعرف عن طفولة السادات وشبابه وكهولته معلومات مشينة مخجلة ...
أكان في استطاعة أي إنسان أن يتقلب بين هذه المواقف لو لم يكن يرتكز على مبدأ سياسي، هو أن الإنسان حيوان ناس، وأن فقدان الذاكرة صفة مشتركة بين جميع البشر، وأن عقول الناس تعمل يوما بيوم، ولا تربط الماضي بالحاضر، أو الأمس باليوم، وإنه هو وحده الذكي، «الفهلوي»، الذي يستطيع أن يغير مواقفه دون أن يتنبه لذلك أحد؟
المبدأ الثاني: ديمقراطية «أنا وحدي»
في حديث قريب العهد لهيكل،
2
يتحدث ببطولة عن موقف حازم، وقفه ضد وزير طالبه بأن يعرض مقالاته على الرقابة قبل ثلاثة أيام من نشرها، فرفض هيكل بشدة، وأرسل إليه يقول: «إنني لا أستطيع أن أكتب وفي ضميري أن ورائي من سوف يجري بقلمه على ما أكتب ...» ثم يقول: «إنني لم أكتب بانتظام، وتحت عنوان: بصراحة، إلا بناء على اتفاق مع الرئيس عبد الناصر ألا يخضع شيء مما أكتبه للرقابة.»
موقف رائع، بطولي، أليس كذلك؟ ومع ذلك فإن دلالات هذا الموقف محزنة ومؤسفة، والمؤلم حقا أن هيكل يتحدث عن هذا الموقف في معرض التفاخر، ودون أن يلمح من ورائه شيئا آخر. إن هيكل هنا يجعل نفسه فئة قائمة بذاتها، فئة مستثناة، فجميع الكتاب الآخرين يخضعون للرقابة، أما هو فقد اتفق مع عبد الناصر على أن يكتب بلا رقيب، وأعجب ما في الأمر أنه على وعي بالاختناق الذي يصيب الكاتب من جراء الرقابة، ويدرك بوضوح كيف أن قلم الرقيب يشل ضمير الكاتب، ومع ذلك فإنه لم يحاول أن يعالج القضية بالنسبة إلى الجميع، أو يكتب إلى المسئولين منتقدا «مبدأ» الرقابة، وإنما كتب يقول: لا بد أن أنال حريتي ... أنا وحدي! وتكتمل المأساة حين يصور هذا الموقف كما لو كان بطولة عظيمة، وتنشره الصحيفة المعارضة دون أن تعلق عليه أو تستخلص دلالاته.
ولقد أثبت هيكل في مواقف أخرى كثيرة، أنه يقف بحزم ضد التصرفات الاستبدادية، عندما تمسه شخصيا، أو تمس المقربين منه، ويتمسك «بالإعفاء الشخصي» من تجاوزات الحكام، ولكنه لا يحاول الدفاع عن «المبدأ» نفسه، أو أن «يحب لأخيه ما يحب لنفسه.» كما تقول النصيحة المشهورة. فحقوق الآخرين لا أهمية لها ما دام حقه الخاص مكفولا، وإذا حلت مشكلته الشخصية، مع أجهزة قمع الحريات، فإن كل شيء يصبح على ما يرام ... هذا، في نظر هيكل، هو الوضع الطبيعي، أما ما يتجاوز ذلك فلا يهمه في شيء.
هكذا تصرف هيكل في واقعة أخرى ورد ذكرها في مقال سابق، هي واقعة اعتقال أجهزة عبد الناصر لزميل له في «الأهرام»، فقد ثار ثورة فردية؛ لأن الموضوع مس كرامته وسلامة المقربين منه، أما المبدأ العام؛ مبدأ عدم جواز اعتقال البشر بلا سبب، وبلا محاكمة، فلم يتطرق إليه من قريب أو بعيد.
ومثل هذا ينطبق على موقفه من اعتقاله في آخر أيام السادات؛ فقد تحدث عن «محنته» الشخصية ولم يذكره السجن بألوف الضحايا الذين سجنوا قبله في «جرائم» الرأي أو العقيدة، فلم يقل كلمة واحدة عن مساوئ الاعتقال بوجه عام، ولم يسهم برأي واحد من أجل ضمان الحريات الشخصية للجميع على حد سواء.
وعلى العكس من ذلك، فإن هيكل اكتسب جزءا كبيرا من مجده، بفضل هذه الديمقراطية التي كان يتمتع بها وحده، في الوقت الذي يختنق فيه الآخرون، وكم من آراء كان يعرضها، طوال الوقت الذي كان فيه هو وحده المتحرر من الرقابة، كان من الممكن نقدها وتفنيدها وهدمها بسهولة تامة، لو أتيحت فرصة مماثلة للكتاب المعارضين! وكم من «نظرية» جادت بها قريحته، أو «تبرير» من نتاج عبقريته، كان من الممكن إثبات تفاهته بيسر، لو كان الناس قادرين على المناقشة الحرة! غير أنه ظل وحده في الميدان، مستمتعا بانتصاره على خصم مغلول الأيدي، وظل يغزو عقول الناس صباح كل جمعة، دون منافس أو معترض. والحق أن أي مفكر حقيقي يستحيل أن يقبل لنفسه هذا الاحتكار الفكري، أو أن يخطو خطوة واحدة في حلبة هذا الصراع غير المتكافئ؛ فهو لا يرضى لنفسه بأن يعلو صوته، بينما الأصوات الأخرى مكتومة، أو بأن يتفلسف شاهرا سيفه على أفواه مكممة وألسنة مربوطة. ومجرد قبول هيكل بهذا الوضع، وإصراره على أن يحقق لنفسه، هو وحده، مثل هذه الحقوق الديمقراطية، يدل على أنه في صميمه بعيد كل البعد عن الديمقراطية.
أيريد القارئ مثلا آخر، قبل أن ننتقل إلى النقطة التالية؟ إن هيكل يشير، في الفصل الخامس، وفي معرض التفاخر كما هي العادة، إلى أن عبد الناصر كان يبدأ دائما بسؤاله عن رأيه في الموضوع الذي يناقش؛ لأنه كان يتكلم بغير حرج، «وكان يشك في أن بعض الآخرين عادة، يحومون حول الموضوع حتى يتعرفوا على رأيه (رأي عبد الناصر) فيه، ثم يسبقوه إلى ما يتصورون أنه يريده.»
هذه هي النتيجة المأساوية للدكتاتورية: الخوف، النفاق، تملق الزعيم والاستجابة لرغباته بدلا من تحقيق مصلحة المجتمع، الامتناع عن المعارضة، وفي مقابل ذلك، شجاعة المتكلم الأوحد، الذي يستطيع هو وحده أن يتكلم «بغير حرج»، هل هذا أسلوب في الحكم يمكن أن يقيم ثورة أو يبني مستقبلا أو يكون رجالا؟
ومع ذلك فإن الموضوع يمر على هيكل، كما هي العادة، دون أن يتنبه إلى أن ما يعتقد أنه سبب للفخر، هو في الحقيقة أمر مؤسف ومخجل، فهل من تعليل لعدم التنبه الدائم هذا؟ إنه بالقطع ليس نقصا في القدرة على الفهم والتحليل، وإنما هو ببساطة، اعتياد على العيش في جو الحكم الفردي والاستمتاع بمزاياه الشخصية، يؤدي في النهاية إلى أن تصبح أكثر جوانب السلوك بشاعة؛ أمورا عادية، مألوفة، ليس فيها أي خطأ ...
المبدأ الثالث: الوطنية بأثر رجعي
أسهل أنواع الكفاح وأقلها تكلفة هو أن تكافح بعد فوات الأوان، بينما تظل متفرجا، أو تتواطأ، عندما تكون الأحداث ساخنة، يمكن التأثير عليها وتغييرها إلى الأفضل، فبهذا اللون من الكفاح بعد فوات الأوان، تبدو أمام الناس وطنيا، مع أنك لم تفعل شيئا.
وفي حالة هيكل لم يقتصر الأمر على الكفاح بأثر رجعي ضد سياسات كان أثناء حدوثها متفرجا، بل إنه كافح بعد فوات الأوان ضد سياسات كان هو نفسه قد أسهم بنصيب كبير في صنعها، ومثل هذا الكفاح ليس سهلا قليل التكلفة فحسب، بل هو أيضا كفاح خادع، إذا شئت أن أستخدم أخف الألفاظ.
وسنضرب لهذا الأسلوب في الكفاح، وفي إظهار الوطنية، بضعة أمثلة قد لا تحتاج إلى شرح مفصل؛ لأنها سبق أن عرضت بتوسع من قبل، فكل ما يقوله هيكل الآن عن الافتقار إلى الديمقراطية وانتهاك الدستور والقوانين الاستثنائية ... إلخ هو كفاح بأثر رجعي؛ لأنه لم يكن يدعو إليه في الوقت المناسب، بل نادى به - فقط - بعد أن كان كل شيء قد انتهى. وكما رأيناه من قبل، فقد كان لهيكل دور هام في تهيئة الأذهان لطرد الخبراء السوفييت والتشكيك في قيمة أسلحتهم، وكذلك في الدعوة إلى تحييد أمريكا. وبعد أن تحقق ما كان يدعو إليه، ثم استخلص النظام الحاكم نتائجه الطبيعية منه، عاد هيكل فنعى على السادات تعاونه مع الأمريكان وتجاهله للسوفييت ... ومتى حدث ذلك؟ بعد أن أصبح إصلاح الأمر مستحيلا، وفرض الأمر الواقع الجديد نفسه على الجميع، أما في الوقت الذي كان من الممكن فيه تدارك الأمر، فإن كتابته كانت تسير في الاتجاه العكسي.
وبالمثل، فإن حملته الراهنة على إدارة حرب أكتوبر سياسيا ، وعدم تطويرها عسكريا، وإفشاء سر الحرب المحدودة إلى الأمريكان، كل هذه وطنية بأثر رجعي، لأن الأحداث انتهت منذ زمن بعيد. أما في الوقت الذي كان يمكن فيه التأثير في مجرى تلك الأحداث، فقد كان هيكل يدعو بكل صراحة إلى الحرب المحدودة، وإلى التفاهم مع الأمريكان.
وأخيرا، فإن نقده للاتجاهات التسلطية أيام عبد الناصر لم يصبح مسموعا إلا أيام السادات، بعد أن أصبحت مراكز القوى في حالة دفاع عن النفس، أما عندما كان هؤلاء الجبابرة يسومون الناس عذابا، ويعتقلون الآلاف بلا محاكمة، فلم نسمع له صوتا! وهكذا تأتي البطولة دائما متأخرة، ويظل هيكل مشاركا في الخطأ أثناء حدوثه، ثم يستنكره بعد فوات أوانه، من أجل كسب النقاط ورفع الأسهم وزيادة رصيد الوطنية على غير أساس.
كلمة أخيرة
أكاد، في لحظتي هذه، أسمع احتجاج القارئ، وخاصة لو كان شابا، وهو يقول: لقد هدمت كل مقدساتنا، ولم تترك إلا حطاما، وشككت الناس في كل شيء وكل شخص، ولم تقدم بديلا إيجابيا.
وردي على هؤلاء هو أنني لم أستهدف، كما قلت مرارا، أي شخص بعينه، وسيكون قد أساء فهم مقصدي، كل من يتصور أنني أريد أن أهدم أسطورة هيكل، أو أكشف عيوب هذا الحاكم أو ذاك، فهذه نتائج يمكن أن تأتي بطريقة عرضية أو هامشية، أما الهدف الأصلي الذي كنت أسعى إليه، فهو أن أحث قرائي على أن يفكروا فيما يرونه حولهم بوعي وتبصر، ولا بأس خلال ذلك أن تتزعزع مقدسات كثيرة، فأول مراحل العقيدة الصحيحة هي تحطيم الأصنام، ولا بأس من جرعة كبيرة من النقد والتشكك في عصر أصبحنا فيه ممنوعين من أي اعتراض أو احتجاج.
إن هدفي الحقيقي ليس هيكل ولا السادات ولا عبد الناصر، بل هو عقولكم أنتم، فمن هذه العقول تأتي الهزيمة أو النصر.
ولقد كتبت هذه الصفحات كلها في أيام قليلة، بعد نشر كتاب هيكل مباشرة، وكنت طوال كتابتها أعجب لحماستي التي تتدفق، وكأنني أريد أن أسوي حسابا طويلا قديما، بل إن بعض القراء تصوروا بالفعل، أن بيني وبين هيكل ثأرا خاصا، وذلك جريا على عادتنا في تفسير كل شيء بعوامل شخصية.
وحقيقة الأمر هي أن هناك بالفعل حسابا أردت أن أسويه، ولكن ليس مع هيكل أو أي شخص آخر بعينه، بل مع أسلوب في الحكم وفي التفكير، وفي معاملة الإنسان للإنسان، كنت أرفضه على الدوام.
كان يكفي أن أسير في شوارع القاهرة كل صيف، وأرى الفارق بين قاهرتي الجميلة التي شهدتها في طفولتي وصباي، وقاهرة اليوم التي خربت بأكثر مما يستطيع عدو مجنون أن يفعل ...
كان يكفي أن أقارن بين تعليمي في طفولتي والقشور، التي يتلقاها أطفال اليوم بأقل الأساليب أمانة وإخلاصا ...
كان يكفي أن أتأمل تعاسة أبناء وطني، حين يبحثون عن العلاج، أو عن مسكن، أو عن وسيلة اتصال ...
كان يكفي أن أتأمل انهيار آمالنا الوطنية والقومية، منذ أن صعدت لتناطح أقدم إمبراطوريات الأرض، حتى هبطت إلى حضيض «إزالة آثار العدوان»، بعد أن أصابتنا هزيمة نكراء على يد دولة عميلة هزيلة، يسكنها خليط لا يزيد مجموعه عن سكان بلدة متوسطة في وطني ...
كان يكفي أن أرى طائرات العدو، تمرح فوق سماء بغداد، وجيوشه تصول وتجول في شوارع بيروت ...
كان يكفي أن أتأمل هذا كله لكي أتساءل: ما الذي حدث؟ ولكي أجد نفسي مدفوعا بقوة عارمة إلى تسوية الحساب، لا مع هيكل بالذات، بل مع كل القيم وأساليب الفكر والحكم التي كان يجسدها ويبررها ...
كان يكفي أن أتأمل هذا كله لكي أغضب، ولكن غضبي لم يكن وليد خريف عاصف، بل كان عمره أطول بكثير ...
ناپیژندل شوی مخ