في هذه السنة بلغ نابليون ذروة المجد؛ فقد امتدت الإمبراطورية الفرنسية من حدود الدانمرك إلى حدود مملكة نابلي، فكان على هولاندة ملك من أهل نابليون وآخر على نابلي وثالث على واستفاليا، وكان أخوه يوسف ملكا على إسبانيا، وكان برنادوت أحد قواده العظماء ملكا على السويد.
وبما أن نابليون كان حامي جمهورية الرين فقد كانت ولايات ألمانيا طائعة له، وكانت النمسا وبروسيا أطوع إليه من بنانه بعد ما أصابهما من الخذلان المتوالي، كما أنه كان حاميا أيضا للجمهورية الهلفيتية التي أدخل فيها أقاليم سويسرا، أما الروسيا فكانت محالفة له.
كل هذه الإمبراطورية الواسعة، كل هذه السلطة العظيمة، لم تمض عليها أربع سنوات حتى تبدلت فكأنما هي لم تكن ، وقسم لنابليون من قصوره العظيمة ومنازله الواسعة منزل صغير ذو حديقة صغيرة على صخرة في جزيرة صغيرة من المحيط الأطلانطيقي العظيم. فسبحان مذل الملوك! (27) أفول نجمه (27-1) غزو الروسيا سنة 1812
كانت الروسيا قد اتفقت مع نابليون على أن لا تعامل إنجلترا، ولكنها نقضت ذلك العهد فشاء نابليون أن يقتص منها جزاء ذلك، فجهز إليها جيشا يبلغ عدده نصف مليون، وسار إلى الروسيا بالرغم من نصيحة الناصحين، فاخترق بجيشه نهر نيامن وتقدم صوب موسكو، وكان جيش الروس يربو على ثلاثمائة وستين ألف مقاتل، ولكن هؤلاء لم يعتمدوا على قوتهم وسلاحهم كما اعتمدوا على برودة الطقس في بلادهم، فنشأت بينهم مواقع ليست بذات شأن كبير كانت الخسارة واقعة فيها على رءوس الروس، ولم يزل نابليون يتقدم بجنوده نحو مدينة سمولنسك حتى ضربها بمدافعه، ولكن لم تكن المقذوفات تؤثر فيها، ففر أهلها عنها ثم دخلها نابليون فلم يجد بها مأوى، فتقدم بعد ذلك إلى موسكو وحدثت بينه وبين كوتوسوف القائد الروسي موقعة برودينو (7 سبتمبر)، ظلت من أول النهار إلى منتصف الليل، وكان عدد كل فريق يربو على مائة وثلاثين ألفا من الجنود، وانتهت الموقعة بانسحاب الروس إلى الشمال صوب موسكو بعد أن قتل في هذه الموقعة 90 ألفا أو يزيدون. (27-2) حريق موسكو في 14 سبتمبر سنة 1812
مضى أسبوع على موقعة برودينو ونابليون لا يجد لعسكره مأوى بعد إذ أصاب الروماتزم أرجلهم، فسارع في السير إلى موسكو، ولم يكد يرى الجند مآذنها العالية، وقد اتصل بعضها ببعض في سلاسل مذهبة، حتى هللوا فرحا، وكانت المدينة عندما دخلوها هادئة ساكنة لا أثر للروس فيها، ولكن شبت في الليلة الثانية من بقائهم فيها نار حامية، وشبت ثانية وثالثة حتى أصبحت كأنما هي أتون عظيم، فلم يستطع نابليون المقام فيها فعاد منها إلى مدينة كريملين وبقي بها قليلا، وأرسل إلى القيصر يطلب الصلح معه فأبى القيصر ذلك، فلم يجد نابليون بعد ذلك بدا من سرعة العودة إلى فرنسا. (27-3) العودة
ابتدأت عودة نابليون إلى فرنسا في التاسع عشر من شهر أكتوبر سنة 1812، فتبعهم الروس من الوراء وظلوا يناوشونهم، ولكن لم يكن السوء كله ناشئا مما فعلوا، بل مما بلتهم به الطبيعة يومئذ من زمهريرها وثلجها؛ فقد كانوا يسيرون على أرض مغشاة بالصقيع، ثم يهطل عليهم الثلج من كل جانب فيوقفهم في مكانهم لا يتحركون، بل كانت الصفوف تخترق الصفوف؛ هذه متحركة إلى أجل وتلك جامدة بعد ذلك الأجل، وما زالوا كذلك ينقص البرد من رجاله والجوع من خيله حتى نزل بمدينة سمولنسك فوجد فيها مطعما قليلا ومرعى ضئيلا على شاطئ نهر بريسينا، هنالك قطع عليهم خط الرجعة؛ إذ جاءهم الروس من أمام هذا النهر وناوشوهم فقتلوا منهم وأغرقوا أربعة وعشرين ألفا، فلم يسع نابليون بعدها إلا أن يسافر هو إلى باريس على زحافة، فوصلها ووصل الجند بعده لم يبق منه إلا بضعة آلاف أهلكهم الجوع والبرد.
هلك من جنود نابليون في هذه الحملة المشئومة مائة وخمسة وعشرون ألفا في ميادين القتال، ومثلها نصبا وجوعا، ومائة ألف أخذوا أسرى. منذ ذلك الحين أفل نجم نابليون. (27-4) واقعة ليبزج 1813
عاد نابليون إلى باريس في منتصف ليلة الثامن عشر من ديسمبر، وكان يعلم أن أوربا كلها متحفزة للوثوب عليه، فسرعان ما جمع حوله جيشا يربو على ثلاثمائة وخمسين ألفا من الرجال في أربعة شهور، ثم نشأت حروب اشتركت فيها أوربا ضده، حتى إن برنادوت نفسه، وهو الذي جلس على عرش السويد بفضل نابليون، انضم إلى هذا التحالف! وكان نهر الألب مشهد تلك الحروب، ففاز نابليون بالنصر في موقعتي لوتزن وبوتزن في شهر مايو سنة 1811، ولكنهما لم توقفا أوربا عند حدها، بل جرأتهم خسارته الأولى على استمرار الحرب، فاجتمع مندوبو الدول في مدينة براج وقرروا أن تترك النمسا جانب نابليون، ثم استمروا في الحرب واقعة بعد موقعة حتى قاتل نابليون الواقعة الأخيرة؛ واقعة ليبزج، هنالك وسط القتال خانه عشرة آلاف من السكسونيين فتركوا مواقعهم وانضموا إلى أعدائه، وبذلك انقطع خط السير الذي رسمه نابليون (18 أكتوبر) فضاع النصر على الإمبراطور. (27-5) غزو فرنسا
عزمت الدول على غزو فرنسا فساروا بجيوشهم نحو باريس، وكان ولنجتون القائد الإنكليزي في الجنوب، فجمع نابليون كل ما كان لديه من قوة وذكاء واستعداد فطري، فكان مجموع ما جمعه من العساكر لا يزيد عن مائتي ألف رجل، وكان قد خان عهده كثير من ضباطه، حتى نسيبه مورات. تقدم جيش أوربا المتحالف نحو باريس فخرج إليهم نابليون يقاتلهم فانتصر عليهم في عدة وقائع كادت تقضي على آمال أوربا جميعا، واستمر كذلك شهرين كاملين تزداد القلوب فيها وجلا من الاندحار حتى غلط نابليون غلطة كانت القاضية؛ وذلك أنه أراد أن يهاجم مؤخرة جيوش أوربا ففعل، وكان قصده من ذلك أن ينزل الرعب في قلوبهم، ولكنهم أسرعوا إلى الأمام فدخلوا باريس من غير تعب، وكان تسليمها على يد القائد مارمونت. (27-6) نفي نابليون إلى جزيرة ألبا
دخل البراطرة عاصمة نابليون يمشون فيها ريحة وجيئة، وكان نابليون بعيدا عنها، فلما وصلها ذهب من فوره إلى فونتينيلو، وبعد ذلك بيومين أصدر مجلس الشيوخ قرارا بعزل نابليون، ثم أمضى نابليون إعلان نزوله عن ملك فرنسا وإيطاليا في الرابع من شهر أبريل. وفي العشرين من ذلك الشهر وقف نابليون وألقى على بعض جنده خطبة وداع مؤثرة أسبلت دموع الحاضرين وصعدت زفراتهم، ثم غادرهم بعد ذلك إلى فريجوس، ومنها نقلته مركب إنجليزية إلى جزيرة ألبا الواقعة في البحر الأبيض المتوسط في مياه إيطاليا العليا بالقرب من شواطئ تاسقونيا. وقد حفظ لنابليون لقب الإمبراطور، ومنح مرتبا سنويا قدره ستة ملايين من الفرنكات، ولم يكد نابليون يستقر في ألبا يومين حتى توفيت زوجته المخلصة جوزفين، فلما بلغه نعيها حزن عليها حزنا كثيرا. (27-7) عودة البربون إلى فرنسا
ناپیژندل شوی مخ