إن الأدب صورة القارئ كما يقول الكاتب الفرنسي جان بول سارتر؛ ومن خلال هذا الوعي التحديدي الناضج لموضوعية العمل الفني عند واحد من رواد التعبير عن روح العصر، نخرج بما يؤيد وجهة النظر النقدية التي ننادي بتطبيقها على فنين من فنون الأدب، ونعني بهما القصة والمسرحية؛ ونستطيع أن نجمل خلاصة الرأي السارتري بأن القارئ هو الذي يوجه الأدب عن طريق الكاتب الأديب، بمعنى أن هذا القارئ - كرمز جامع لأكثر طبقات القراء - هو على التحقيق تلك المادة الحية التي تشكل الخيوط الناسجة لمضمون هذا الأدب؛ إنه بقلقه وانفعالاته، بحاجاته ومطالبه، بوضع ماضيه وحاضره وأحلام مستقبله، يمثل تلك المادة الحية التي تفرض نفسها على إنتاج هذا الكاتب، وتحدد لهذا الإنتاج معالم الطريق. إن القارئ على اختلاف طبقاته ومستوياته وبالنسبة إلى الأدب، هو القوة الدافعة والموجهة؛ ذلك لأنه مركز الخطط وموضوع التجربة. وعلى هذا الأساس نجد أن القارئ قد لون وجه الأدب فجعله كلاسيكيا مرة، ورومانسيا مرة أخرى، وواقعيا مرة ثالثة، ووجوديا مرة رابعة، وواقعيا اشتراكيا في النهاية، على مدار خط التطور العقلي والاجتماعي في مختلف العصور. وعلى ضوء هذا التفسير المجمل ندرك دقة الصلات الرابطة بين موضوع التجربة ومخرج التجربة، أو بين القارئ والكاتب من خلال مشكلة التعبير!
من الطبيعي إذن أن يكون الأدب صورة صادقة للجمهور القارئ؛ ومحور هذا الصدق أن نتحاشى - عند رسم الصورة - تلك «الرتوش» المفتعلة في مضامين التجربة وفي أشكال التعبير. وليس معنى الدعوة إلى البساطة التعبيرية - كما يعتقد من يخطئون الفهم - هو أن نهبط بالأدب إلى مستوى رجل الشارع، هناك فارق ملموس بين الهبوط والوصول؛ إننا نريد أن «نصل» بالأدب إلى رجل الشارع لنتفاهم معه، لنطلعه على مشكلاته، لنقدم إليه صورته؛ لأنه - في هذا العصر الواقعي الذي نعيش فيه - هو الذي يفرض علينا هذا الوصول.
وليست بساطة التعبير بعد ذلك - كما يعتقد أيضا من يخطئون الفهم - منافية للجمال، وإنما يتنافى الجمال مع التعقيد والغموض، وتلطيخ وجه الأسلوب بمساحيق الزخرفة اللفظية. إن جمال الأداء بالنسبة إلى الشكل التعبيري في البلاغة الحديثة، يختلف عنه من حيث المفهوم في البلاغة القديمة؛ فبقدر ما يفهم القارئ من الكاتب ويتأثر به ويتجاوب معه، وبقدر ما يكتسب على يديه جديدا من الخبرة الرفيعة بالنفس والحياة، في تعبير يتسم بالإيحاء والتركيز، والملاءمة بين ثوب الأسلوب وجسم الفكرة، يكون الأدب - وبخاصة في القصة المسرحية - قد قام بدوره البليغ من الناحية الجمالية في الفن والأداء.
رواية «الأرض»
بين أيديولوجية الفن وواقع الحياة
قلت عن هذا النموذج الروائي في العدد الثاني للسنة الثالثة من «الآداب»:
هذه القصة الطويلة التي سماها كاتبها «الأرض»، والتي صور فيها كفاح رقيق الأرض ضد مختلف القوى المسيطرة على وجودهم الإنساني، فقد فيها الاتجاه الملتزم رسالته التأثيرية الموجهة؛ فقدها لأن الكاتب عني بالاتجاه أكثر مما عني بالأصول التكنيكية لبناء الرواية، ومن هنا خرجت «الأرض» وهي أقرب إلى الريبورتاج الصحفي في طريقته وأسلوبه، منها إلى العمل الروائي بمقوماته الفنية.
كان هذا هو رأيي في «الأرض» لمؤلفها الأستاذ عبد الرحمن الشرقاوي، سجلته وأنا أتحدث عن فردية الاتجاه في الأدب الملتزم، ولكن الناقد المصري الأستاذ محمود العالم قد خالفني في هذا الرأي، بما يثبت العكس من الناحية التقييمية؛ إن «الأرض» من خلال منظاره النقدي: «عمل روائي تتحقق له مقومات فنية أصيلة في بناء أحداثه وشخصياته وأنماطه وتطوير عناصره»، حتى لقد طالبني في النهاية من باب المساجلة النقدية أن أحدد له أوجه النقص في هذا العمل الروائي، تحديدا تفصيليا موضوعيا يمكن أن يتضح فيه الكثير من مسائل النقد المعلقة.
من هنا أضع نقطة البداية لهذا النقد التفصيلي الموضوعي، فأقرر كما سبق أن قررت، أن «الأرض» ليست رواية بالمعنى المفهوم من هذه الكلمة بالنسبة إلى التقييم النقدي؛ والمؤلف نفسه يضع مثل هذه النقطة التقريرية حيث يقول في أول صفحة من صفحات الكتاب: «لست أريد بهذه الصفحات أن أكتب رواية طويلة؛ ولا أن أروي هنا تاريخ بعض الرجال أو النساء، ولا ذكرياتي، ولست أحتال على القارئ لأسرق اهتمامه ويقظته، فأؤكد له أن الأبطال الذين يضطربون عبر هذه الفصول، لم يعيشوا أبدا إلا في الخيال، لن أخدع القارئ لأسرق اهتمامه إلى هذا الحد ... فخيالاتنا في النهاية لا تستطيع أن تخلق الكائنات التي تمضي مع الحياة مثقلة بالحياة: تحلم وتتعذب، وتعرف المتاع واليأس والهوى والدموع والضحكات والأمل الغامض وتصنع المستقبل في إصرار حزين، وما أنا بزاعم أني عرفت حياة الذين أتحدث عنهم، فنحن في مصر لا نكاد نعرف قصة كاملة لإنسان؛ وقصة الإنسان في مصر تظهر فجأة، وتمضي فاترة رتيبة يخالجها الاحتدام والغليان لبعض الوقت، ثم تمهد وتغيض، تغيض شيئا فشيئا كمياه منسابة على الرمال، هكذا كانت حياة وصيفة وعبد الهادي وخضرة وعلواني ومحمد أبو سويلم والشيخ يوسف، والشيخ الشناوي ومحمد أفندي والشيخ حسونة، وكل النساء والرجال الذين عرفتهم في قريتي منذ عشرين عاما.»
لم يحاول المؤلف إذن أن يكتب رواية طويلة، ولا تاريخا لغيره، ولا ذكريات؛ أما أنه لم يرد أن يقدم إلى القارئ عملا روائيا، فحقيقة يؤيدها الواقع في كثير من الإنصاف، ولكن هذا المنطق التبريري الذي يمهد به كقضية متبلورة لنفي الصفة الروائية عن عمله، يثير قبل التعرض لهذا العمل بمختلف خطوط النقد هذا السؤال: هل صحيح أن قصة الإنسان في مصر تظهر فجأة، وأننا في مصر لا نكاد نعرف قصة كاملة لإنسان؟ وهل يمكن أن نطبق هذا المفهوم الاجتماعي على قصة الحياة في الريف المصري، بحيث تندرج تحته أسماء وصيفة ومحمد أبو سويلم وعبد الهادي وعلواني والشيخ يوسف، وبقية النماذج البشرية التي تكون في مجموعها جوهر المضمون الإنساني لعمل المؤلف؟ الذي أعرفه عن يقين أن قصة هؤلاء جميعا؛ أعني قصة وجودهم الضائع بما كان فيه من حيرة المصير، هي قصة الأرض نفسها التي ارتبط بها هذا الوجود؛ وقصة الأرض في مصر قصة كاملة، لها مقدمات ولها بداية ولها تاريخ. إن قصة الأرض التي هي قصة هذا القطيع البشري التعس، يتحدث فصلها الأول عن مفهوم شيء اسمه الإقطاع، ويتحدث فصلها الثاني عن أثر هذا الإقطاع في نظام المجتمع، حين يتحول هذا المجتمع إلى فريقين: قلة تملك كل شيء، وإلى جانبها كثرة لا تكاد تملك شيئا؛ ثم إلى طبقتين: طبقة السادة، وطبقة الرقيق، أعني سادة الأرض ورقيق الأرض. ويتحدث فصلها الثالث عن أثر هذه الطبقية في تكوين الجهاز النفسي للفريق الآخر، وهو الجهاز المعقد الذي يوجه سلوك القطيع البشري في طريق الحياة.
ناپیژندل شوی مخ