ونخطو بعد ذلك خطوات أخرى إلى هاتين القصتين وهما: «مملكة نبيل» و«فتاة في المدينة». إن التخطيط الإطاري والموضوعي لهاتين القصتين - في حدود أحداثهما ومواقفهما والتكوين النفسي الخاص للشخصيات - تخطيط ناضج، ولكن المشكلات فيهما كما يعالجها الكاتب مشكلات فردية؛ ومن هنا لم تكن واقعية النماذج البشرية المعروضة واقعية نمط. ترى هل نجد الكثير من أمثال نبيل، في مثل هذه البيئة التي نشأ فيها، والتكوين النفسي الذي صنع منه هذا السلوك؟ هل نجد نماذج متعددة من طراز هذا الفتى الصغير، الذي يحس سعادته الحقيقية في حرية الانطلاق وحب الناس والتجاوب معهم، ولو ضحى في سبيل ذلك بجزء من دخله اليومي، وهو في أشد الحاجة إليه؟ صحيح أن الكاتب قد قدم إلينا عنصر التبرير الموضوعي لهذا السلوك، وهو أن الفتى الصغير - حين قرر أن يترك عمله الممل في دكان البقالة - كان قد مارس من قبل نفس التجربة الشعورية، التي تصنع في اندماجه مع الناس مملكته الكبيرة، يوم أن كان بائعا للصحف يجوب القرى العديدة جريا وراء الرزق؛ ولكننا مع ذلك لا نجد في بيئة نبيل كثيرا من أمثاله.
إننا في واقعية النموذج الفردي لا نحس إحساسا كاملا بأن الشخصية تنبض بدم الحياة والحركة، بل إن الإحساس الذي نتعرض له هو أن الشخصية، لم تكن إلا «مجرد» رمز لفكرة في ذهن الكاتب؛ هذه الفكرة هي أننا نستطيع أن نخلق من حب الناس مملكتنا الخاصة! إن هناك فارقا ملموسا بين واقعية النموذج الفردي وواقعية النمط الجماعي؛ الشخصيات في الواقعية الأخيرة لا تتحول إلى رموز لأفكار، ولكنها تتحول إلى رموز لمشكلات اجتماعية ضخمة، تستمد ضخامتها من ضخامة الكم العددي الذي يمثلها من النماذج الإنسانية، كما رأينا ذلك بصورة مجسمة في «الآخرون» و«حارس المقبرة». وإذا وجدنا في واقعية النمط شيئا من الرمز لفكرة، فهو كما قلنا من الإضافة التفسيرية التي يستخلصها القارئ من المضمون الإيجابي لمشكلة يعيشها المجموع.
وما نقوله عن شخصية نبيل نقوله عن شخصية الفتاة المأزومة، التي عقدتها طبيعة العلاقات السطحية المنهارة في حياة المدينة. إن الكاتب يثير عطفنا على البطلة ، وهو يكثف الأزمة تكثيفا نفسيا مطردا، يتناول الجذور والامتدادات، ولكننا نشعر أن التركيبة النفسية للبطلة كإنسانة مرهفة الحس، لا تمثل ظاهرة عامة. صحيح أننا حين نتعرض في قلب المدينة الكبيرة لأزمة من أزمات فقد الثقة في قيمة من القيم، صحيح أننا تبعا لذلك قد نفقد ثقتنا بكثير من أمثال هذه القيم، ولكن هذا لا يحدث كثيرا بالنسبة إلى القيم العاطفية التي تعيش في أعماق الصخب والضجيج. إن الأغلبية المطلقة من فتيات المدينة قد ألفن هذه العلاقات السطحية المنهارة، لدرجة أن الفتاة التي ترمز إلى هذه الأكثرية إذا فقدت ثقتها فيمن تحب، فإن ذلك قد لا يترتب عليه أن تفقد ثقتها في الآخرين. البطلة التي اختارها الكاتب إذن تمثل واقعية النموذج الفردي، ولا تمثل النمط في محيط المشكلة الجماعية!
لغة الأداء في القصة والمسرحية
شيوخ الأدب في مصر، ومعهم قلة من الأدباء تقتفي خطاهم، يقفون موقف المعارضة من اتجاه نقدي ننادي به، وندعو إلى تطبيقه في ميدان القصة القصيرة والطويلة وبعض ألوان المسرح؛ وهم يتشبثون برأيهم بأن لهم فهمهم الخاص لرسالة الأدب، وهو - أعني هذا الفهم - يعد نتاجا تأثريا لجيل معين نشئوا فيه، وطبعهم بطابع قيمه واتجاهاته. أما نحن كمجموعة من النقاد تحمل لواء الدعوة إلى هذا الاتجاه النقدي الذي أشرت إليه، فمرجع إيماننا الاتجاهي أن لنا فهمنا الخاص لرسالة الأدب وكذلك نظرتنا الذاتية، وهما - بلا شك أيضا - يعدان نتاجا تأثريا لجيلنا الذي يساير ركب التطور، وينشد التجديد إذا ما تحققت من ورائه بعض أهداف النقد، ومن أهمها مثلا أن نشق للأدب مجرى عميقا وطويلا خلال أكبر عدد من الصفوف الجماهيرية القارئة.
الخلاف بيننا كما قلت، لا يتعدى مجال القصة القصيرة والطويلة وبعض ألوان المسرح، وهو خلاف من شأنه أن يتحول إلى معركة، إذا ما كانت المعركة بطبيعتها حربا بين رأي ورأي، أو نضالا بين فكرة وفكرة، أو صراعا بين مجموعة من القيم الفنية؛ ومن حق النقد أن يخوض هذه المعركة ما دام هدفه البعيد أن تنتصر دعوة نبيلة، مضمونها أن يتخلص الأدب من بعض القيود التي تربطه بالمثقفين «وحدهم»، حتى يستطيع أن يخاطب كل الطبقات وأن يحطم الأبراج العاجية، ويهبط من عليائه إلى الشارع؛ وحتى يستطيع آخر الأمر أن يحمل رسالة التوجيه ويلوح بعصا القيادة.
لماذا كانت القصة والمسرحية بالذات ميدانا للخلاف أو ميدانا للمعركة؟ لأنهما أكثر فنون الأدب على الإطلاق رواجا في عصرنا، وأصدقها تعبيرا عن الواقع الاجتماعي للشعوب، وأبعدها دلالة على المستويات النفسية والعقلية للجماهير، وأحقها - تبعا لذلك - بتحمل مسئولية الدور القيادي الذي يمكن أن يؤديه الأدب للفرد والمجموع.
محور الخلاف الذي تدور حوله المعركة هو اللغة، اللغة التي يعبر بها كاتب القصة وكاتب المسرحية؛ إنها خيط الاتصال بين الأديب المنتج والجمهور القارئ، وإذا ما تعرضت هذه الخيوط الاتصالية لبعض ألوان التعقيد في النسيج الفني، تعقدت معها بالتبعية عملية التجاوب الفكري والشعوري بين جهاز الإرسال والاستقبال؛ أعني بين منتج الفن ومتذوق الفن!
نحن في اتجاهنا النقدي الذي ننادي به، نرى أن تكون عملية السرد في القصة باللغة الفصحى على أن تكون مبسطة، بحيث لا يصعب فهم تعبير معين على رجل الشارع أو أنصاف المتعلمين؛ أما الحوار الذي يدور بين الشخصيات سواء أكان ذلك في القصة أو المسرحية، فيجب أن يكتب بنفس اللغة التي تنطق بها الشخصيات في الواقع المعاش، أو بتعبير آخر بلغة حياتها اليومية. ولنا من وراء ذلك هدف مزدوج؛ هو أن نضمن سلامة المفهوم الفني لعملية التصوير القصصي من جهة، وسلامة التحقيق الفعلي لظاهرة التجاوب الجمهوري مع مضمون الأدب من جهة أخرى.
إن اللغة الأصلية للشخصية في الحوار القصصي والمسرحي، تحمل في ثناياها أكثر من دلالة ... منها دلالة المستوى النفسي ودلالة المستوى العقلي ودلالة المستوى الاجتماعي لهذه الشخصية، بالإضافة إلى أننا نلتزم صدق الواقع التعبيري للغة المنطوقة؛ ذلك لأن التركيبة النفسية لأي نموذج إنساني، من شأنها أن تطبع سلوكه الحركي والكلامي بالطبع الملائم لاتجاهها الداخلي. وكذلك الأمر فيما يختص بالتكوين العقلي لهذا النموذج، حين نلاحظ وحدة التلوين بين المناهج الذهنية وخطوط الاتجاه اللفظي كانعكاس مباشر. وما نقوله هنا نقوله مرة أخرى عندما نتحدث عن أثر الرابط التفاعلي بين طبيعة الوسط الاجتماعي للشخصية وبين منطق التعبير، فإذا ما كان هدف القصة أو المسرحية هو أن تقدم لنا قطاعات حية وتجارب معاشة من حياة الناس، فمن حق هؤلاء الناس - ممثلين في مختلف النماذج المرسومة - أن يجدوا أنفسهم على حقيقتها في مرآة الكاتب القصصي المسرحي، بكل مشكلاتهم وانفعالاتهم وملامحهم النفسية والتعبيرية، وعندما يتحقق لهم ذلك - عن طريق لغة الكاتب المبسطة في عملية السرد، ولغة حياتهم اليومية في عملية الحوار - فقد تحقق للأدب أن يرسل خيوطه الإشعاعية إلى كل اتجاه، وأن يشق طريقه في كل الدروب.
ناپیژندل شوی مخ