على ضوء هذا كله نستطيع أن نقول إن علاقة مي بجبران، لم تكن علاقة قلب وإنما كانت علاقة فكر، وإن عاطفتها نحوه لم تكن عاطفة حب، وإنما كانت عاطفة إعجاب؛ ولقد كان جبران جديرا بإعجابها وتقديرها وتفضيلها له على كل معاصريه من الأدباء؛ لأنه في رأينا ورأي الحق قد سبق بفهمه لحقيقة الفن، ذلك الجيل الذي عاش فيه! إن الفن في جوهره كما قلنا عنه يوما ليس فهما للحياة، يقف بنا عند حد الرؤية المادية والإثارة العقلية، حين تقوم هذه من تلك مقام النتيجة من المقدمة أو مقام النهاية من البداية، وإنما هو إلى جانب هذا حركة في الوجود الخارجي تعقبها هزة في الوجود الداخلي يتبعها انفعال، انفعال يحدث تلك المشاركة الوجدانية بين منتج الفن وبين متذوق الفن، نتيجة لذلك الفناء الشعوري بين الفنان وبين مصدر التلقية الأولى والإلهام الوليد.
ملحمة نجيب محفوظ الروائية
1 «بين القصرين» عمل فني جديد ظفر أخيرا بجائزة الدولة؛ ونجيب محفوظ صاحب هذا العمل، ظفر بتقدير النقد قبل أن يظفر بتقدير الدولة، منذ أن بدأت خطوط فنه الروائي تتجمع في نقطتي ارتكاز رئيسيتين، لا بد من توافرهما لكل عملية انطلاق فنية، هدفها الوصول إلى نقطة النهاية. عنصر المراقبة النفسية الدقيقة لشتى التجارب الجماعية المعاشة هي نقطة الارتكاز الأولى لعملية الانطلاق الفني، حين تتركز هذه التجارب في بؤرة العدسة اللاقطة، لتبرز موقف الكاتب من مشكلات عصره؛ وانصهار الملكة القاصة في بوتقة الممارسة المذهبية لكتابة العمل الروائي هي نقطة الارتكاز الثانية، حين تكون هذه الممارسة تفاعلا ثقافيا واعيا مع المقاييس النقدية المتطورة، بحيث تنبثق من خلاله - أعني هذا التفاعل - قيم الكاتب من الناحية الفنية.
إن أعمال نجيب محفوظ - على مدار نقطتي الارتكاز الأولى والثانية - تمثل نوعا من التصاعد الهرمي الذي يتدرج من القاعدة ب «خان الخليلي»، و«القاهرة الجديدة» و«زقاق المدق»، و«السراب» و«بداية ونهاية»، ثم ينتهي إلى القمة في «بين القصرين»، و«قصر الشوق»، و«السكرية»، وهي الأجزاء الثلاثة التي تكون في مجموعها عمله الروائي الأخير، أو ملحمته الروائية الجديدة. وإذا كان هذا التصاعد الهرمي لم يسجل تفاوتا كبيرا بين الأعمال الأولى والعمل الأخير، من ناحية المستوى الفني للكاتب، إلا أنه قد سجل هذا التفاوت، من ناحية الوعي الاتجاهي بين درجات التصاعد وقمته.
إن المستوى الفني عند نجيب محفوظ، ما يزال يحتفظ بمقوماته، فطريقته في رسم الأبعاد النفسية للشخصيات، وأسلوبه في إبراز الأبعاد المكانية كإطار مادي للأحداث والمواقف، وطابعه في اختيار النموذج الإنساني الرامز إلى المشكلة، هي التي تكون حتى اليوم، الملامح الثابتة لشخصيته الروائية. وإذا كان هنا بعض التغير، فهو خاص بعرض المونولوج الداخلي في صورة جديدة، قوامها تسجيل الحركة النفسية مباشرة قبل كل عملية تطوير موقفية، ورسم الحدث من الداخل وليس من الخارج، كما فعل في تقديم اللحظة التي استشهد فيها فهمى، بطل الجزء الأول من روايته الطويلة.
ولكن الخطوة الكبيرة الزاحفة كما قلنا، هي التي سجلها العمل الأخير من ناحية الوعي الاتجاهي، الذي يمثل موقف الكاتب من مشكلات عصره؛ فبعد أن كان نجيب يقتطع المشكلة الجماعية من واقع مرحلة زمنية واحدة، بحيث تمثل قطاعا عرضيا من قطاعات المجتمع في جيل معين، بعد هذا اتسعت لديه دائرة العرض الفني، بحيث تركزت فيها مشكلات العصر على امتداد أجيال ثلاثة، هي : الجيل الذي عاش قبل ثورة 1919، والجيل الذي عاصر تلك الثورة، والجيل الذي جاء بعدها ومهد لتلك الانتفاضة الشعبية المتمثلة في ثورة 1952؛ ومن خلال قطاع طولي ممتد، عبر الأجيال الثلاثة، استخدمت فيه شتى القطاعات العرضية، كروافد نهرية تعين المجرى الرئيسي على الانطلاق، تبرز لنا أسرة السيد أحمد عبد الجواد تاجر البقالة بالنحاسين، بما فيها من الأبناء والأحفاد، كرمز إنساني صادق لتطور المجتمع المصري في تلك المرحلة التاريخية الطويلة، من مختلف الزوايا السياسية والاجتماعية والفكرية.
وعندما نستعرض النماذج البشرية، التي يتألف منها الكيان الاجتماعي لهذه الأسرة التي بدأت حياتها قبل ثورة 1919، نلمس أن لكل نموذج تركيبته النفسية التي تميزه وتوجه سلوكه حيال الأحداث؛ فالسيد أحمد عبد الجواد، رب الأسرة، شخصية ازدواجية تمثل اتجاهين متناقضين في الحياة؛ فهو من جهة: شعار واقعي لطبقة التجار الميسورين في جيله، وهي الطبقة التي كانت تبحث عن المتعة الروحية والجسدية، وتمزج بينهما مزجا كاملا على ما بين المتعتين من تفاوت صارخ؛ يملك الأذن الحساسة والشعور المرهف، لاستقبال الصوت الإنساني المطرب والنغمة الموسيقية الشجية، ويسعى إلى مجالس الغناء والطرب، ويشارك فيها إذا جاوزت النشوة عنده حدها المعقول؛ وهو من جهة أخرى يضيف إلى هذه المتعة الروحية، متعة أخرى تتركز في اتجاهه الديني الذي يحرص عليه، إلى الحد الذي لا يتصور معه، أن مثله قد يفكر يوما في ارتكاب المعصية، ومع ذلك فهو عبد خاضع يستلذ عبوديته لسلطان الغريزة، بدافع الفتوة الجنسية التي كانت المباهاة، عند أبناء جيل عاش في فراغ هائل من تمثل القيم الإنسانية الرفيعة، كنتيجة طبيعية للحرمان من توجيه الثقافة. وهو، ذلك المرح العربيد خارج بيته، شخصية أخرى تتميز داخل البيت بالجد والوقار والاستبداد والعنف، حتى تحول البيت أمام تقاليده الإرهابية إلى سجن مرهق، قيدت فيه - بالنسبة إلى نزلائه - حرية السلوك والإرادة.
وأمينة - الزوجة - تمثل تركيبة نفسية أخرى، هي تركيبة الأكثرية المطلقة من بنات جيلها المتزوجات؛ إنسانة - تبعا لفهم المجتمع المصري لوضع المرأة في ذلك الحين - لا تصلح إلا للقيام بدورها المصنع الآدمي لإنتاج النسل، والبقاء كل فترات العمر خلف جدران البيت، لتؤدي فروض الطاعة للزوج، على طريقة الجواري المجلوبات من سوق الرقيق.
وياسين - الابن الأكبر للسيد أحمد عبد الجواد من الزوجة الأولى المطلقة - شاب يعيش على هامش الحياة كرمز معبر عن كل النماذج التي عاشت في جيله، ممثلة لتكرارية النسخ العقلية المشوهة، حيث تكتفي هذه النسخ بقسط ضئيل من التعليم، لتواجه به المصير في معركة الحياة؛ وهكذا ورث هذا الابن الأكبر - كاتب مدرسة النحاسين - ورث نظرة أبيه إلى القيم الحياتية، حين تتركز هذه القيم في بؤرة إشباع الغريزة عن طريق السلوك الجنسي، هذا السلوك الذي تلقى فيه ياسين - بحكم قانون الوراثة المزدوج - جانب الاندفاع فيه عن الأب النزق، وجانب الانحطاط عن الأم المطلقة.
وفهمي - الابن الثاني لرب الأسرة، الشاب المثقف طالب الحقوق - هو النموذج الوحيد الذي يمكن أن يتخذ عنوانا ضخما لتلك الانتفاضة العقلية المتوثبة التي وعت سطورها الشبيبة المثقفة، وعكست أهدافها الجارفة على خط السير الكفاحي لثورة 1919. إن صورة هذه الشخصية - كما رسمها نجيب محفوظ - تماما مع طبيعة الدور الذي قامت به: شاب هادئ، متزن، لا يتكلم إلا بحساب، وتحت رماد الهدوء الخارجي، تختفي جمرات تنتظر اللحظة المناسبة، لتبهر بوهجها كل العيون؛ وإنسان يغلف اتزانه بأثواب طبيعية من الطموح الحزين. لم يكن فهمي يعيش من أجل ذاته، ولكنه كان يعيش من أجل المجموع؛ ولهذا علق على صورة سعد زغلول - الرمز الكبير الخالد لكفاح الشعب - علق هذه الصورة على جدران فكره وشعوره. كان يدرك الإمكانيات الرهيبة التي يملكها المستعمر، لمواجهة حركة شعبية عزلاء، يقودها زعيم أعزل؛ من هنا كان الشعور بالحزن. ومع ذلك فقد كان طموحه يتفوق على حزنه، حين يمتلئ أملا في أن تنتصر قوة الحق الأعزل على قوة الباطل المدججة بالسلاح. وفي سبيل القيم الإنسانية الرفيعة التي عاش من أجلها فهمي، لقي بطل «بين القصرين» مصرعه في إحدى المظاهرات التي نظمتها لجنة الطلبة التنفيذية، ابتهاجا بعودة الزعيم من منفاه.
ناپیژندل شوی مخ