بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، فائدة:
وجدت بخط شيخنا الإمام العلامة، خاتمة الحفاظ، قاضي القضاة، شهاب الدين أبي الفضل أحمد بن حجر الشافعي رحمه الله تعالى ما صورته:
الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى.
أما بعد: فقد أحضر إلي بعض أهل العلم سؤالا محصله أن الشيخ نجم الدين القمولي الشافعي قال في كتاب الجواهر له، في باب العيدين:
مخ ۲۵
فرع: لم أر لأحد من أصحابنا كلاما في التهنئة بالعيدين والأعوام والشهور كما يفعله الناس.
ورأيت فيما ينقل من فوائد الشيخ زكي الدين عبد العظيم المنذري أن الشيخ الحافظ أبا الحسن المقدسي سئل عن التهنئة في أوائل الشهور والسنين أهو بدعة أم لا؟ فأجاب بأن الناس لم يزالوا مختلفين في ذلك.
قال: والذي أراه أنه مباح ليس بسنة ولا بدعة.
مخ ۲۶
ثم ألحق السائل بعد هذا أن الشيخ كمال الدين الدميري نقل في شرح المنهاج كلام القمولي، وزاد أن صاحب البيان والتحصيل نقل منه عن مالك أنه لا يكره، وعن ابن حبيب قال: لا أعرفه ولا أكرهه.
قال السائل:
- فهل وجد نقل لأحد من أصحاب الشافعي في هذه المسألة أم لا؟
- وهل إذا قال قائل إنه يدخل في السنة من جهة أنه محل سرور إذ أدى المكلف ما أمر به من عبادة الصيام مثلا في تهنئة عيد الفطر، وكذا العبادة المشروعة في عشر ذي الحجة ونحو ذلك، يكفي ذلك في حصول المشروعية أم لا؟
فأجبت عما تضمنه هذا السؤال بأن الكلام عليه من أوجه:
مخ ۲۷
الوجه الأول
أن الشيخ نجم الدين إنما نفى رؤيته، فلو قدر وجود نقل يخالفه لم تلحقه ملامة.
وكتابه الجواهر اختصره من كتابه البحر المحيط في شرح الوسيط، وحسبت أنه ذكر هذه الكائنة فيه أبسط مما ذكرها في الجواهر، فلم يعرج عليها فيه.
مخ ۲۸
الوجه الثاني
ما نقله عن المنذري عن أبي الحسن المقدسي لا يلزم منه وجود نقل عن أحد من الشافعية إلا بطريق الاندراج في عموم قوله: (إن الناس لم يزالوا مختلفين)، مع احتمال أنه ما أراد بالناس إلا أهل مذهبه، وكان هو مالكي المذهب، وهو شيخ المنذري في الحديث لا في الفقه.
مخ ۲۹
لوجه الثالث
أن الذي زاده الدميري من النقل عن البيان والتحصيل لا يكفي في تفسير ما أجمله المقدسي من الاختلاف، لأن النقل في هذه المسألة موجود عن المالكية، بل وبقية أهل المذاهب، وعن بعض الصحابة ثم عن بعض التابعين ممن بعدهم من فقهاء الأمصار.
أما الشافعية:
فقد عقد الحافظ أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي -وهو من كبار الشافعية- لذلك بابا في كتاب السنن الكبير الذي صنفه في بيان أدلة المسائل التي اشتمل عليها المبسوط للمزني صاحب الإمام الشافعي من أول الفقه إلى آخره.
فقال رحمه الله تعالى في آخر كتاب العيدين: باب ما روي في قول الناس بعضهم لبعض يوم العيد: تقبل الله منا ومنكم، ثم ذكر فيه من طريق خالد بن معدان -وهو ثقة- قال: لقيت واثلة -يعني ابن الأسقع الصحابي- في يوم عيد، فقلت: تقبل الله منا ومنك، فقال: نعم تقبل الله منا ومنك، لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت له: تقبل الله منا ومنك فقال: ((نعم تقبل الله منا ومنك)).
مخ ۳۰
قلت: وسنده ضعيف، أخرجه أبو أحمد بن عدي في كتابه الكامل في الضعفاء في ترجمة محمد بن إبراهيم الشامي، وقال عن الشامي: منكر الحديث.
ثم قال البيهقي: وجدته بإسناد آخر عن واثلة موقوفا من قوله غير مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم .
قلت: أخرجه الطبراني في المعجم الكبير، وأبو بكر الخلال الحنبلي في كتاب العلل، والإمام أبو أحمد عبد الله بن محمد بن مسلم المقرئ المعروف بالفرضي في مشيخته، وأبو القاسم زاهر بن طاهر في كتاب تحفة عيد الأضحى.
كلهم من طريق حبيب بن عمر الأنصاري عن أبيه قال: لقيت واثلة يوم عيد فقلت: تقبل الله منا ومنك.
قلت: وسند هذا الموقوف أقوى من سند المرفوع.
مخ ۳۱
وقد رويناه في الدعاء للطبراني بسند أقوى من هذا الثاني، أخرجه من طريق راشد بن سعد -وهو ثقة- أن أبا أمامة وواثلة أتياه في يوم عيد فقالا: تقبل الله منا ومنكم.
[قال البيهقي رحمه الله: وقد روي حديث مرفوع في كراهية ذلك ولا يصح، ثم رواه من طريق عبد الخالق بن زيد بن واقد الدمشقي عن أبيه عن مكحول عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الناس في العيدين: تقبل الله منا ومنكم، قال: ذلك فعل أهل الكتابين وكرهه].
قال البيهقي: هذا حديث واهي، وفي سنده عبد الخالق بن زيد، وهو منكر الحديث، قاله البخاري.
قلت: وصنيع البيهقي يقتضي ترجيح الأول على الثاني، فإن ذكره ما يشهد له مصرح بضعف الثاني.
فقد وجد كلام في أصل هذه المسألة، ووجد أيضا ما يقتضي أنه مستحب في مذهب الشافعي كما سأبينه في الوجه السادس إن شاء الله تعالى.
مخ ۳۲
الوجه الرابع في بيان ما جاء في ذلك عن الصحابة
تقدم النقل عن واثلة بن الأسقع وهو من الصحابة الذين نزلوا دمشق.
مخ ۳۳
روينا في كتاب تحفة عيد الأضحى لأبي القاسم زاهر بن طاهر الشحامي المستملي (ما أورده) بسند حسن إلى صفوان بن عمرو -وهو من رجال الصحيح- عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير -وهو من رجال الصحيح أيضا- عن أبيه -وهو من كبار التابعين، وذكر في الصحابة لأن له رؤية، وهو من رجال الصحيح أيضا- قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا التقوا يوم العيد يقول بعضهم لبعض: تقبل الله منا ومنكم.
وكذا رويناه في مشيخة أبي أحمد الفرضي المقرئ من هذا الوجه.
وروينا في كتاب التحفة المذكور بسند حسن أيضا إلى محمد بن زياد الألهاني -وهو من رجال الصحيح- قال: رأيت أبا أمامة الباهلي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في العيد لأصحابه: تقبل الله منا ومنكم.
وأخرج الطبراني في الدعاء بسند قوي إلى راشد بن سعد أن أبا أمامة وواثلة بن الأسقع لقياه في يوم عيد فقالا: تقبل الله منا ومنك.
مخ ۳۴
وأخرج الخلال في كتاب العلل عن حرب الكرماني عن إسحاق بن زاهر بسند حسن إلى عمرو السكسكي قال: رأيت عبد الله بن بسر المازني وخالد بن معدان وراشد بن سعد وعبد الرحمن بن جبير بن نفير يقول بعضهم لبعض في العيدين: تقبل الله منا ومنكم.
نقل أبو الوفاء بن عقيل في كتاب الفصول عن الإمام أحمد بن حنبل قال: إسناد حديث أبي أمامة جيد.
ونقل الشيخ موفق الدين ابن قدامة في المغني عن حرب قال: سئل أحمد عن قول الناس تقبل الله منا ومنك فقال: لا بأس به، يرويه أهل الشام عن أبي أمامة، قيل له: وعن واثلة، قال: نعم.
فكأنه أشار إلى رواية راشد بن سعد المذكورة.
مخ ۳۵
الوجه الخامس في بيان ما جاء في ذلك عن التابعين فمن بعدهم
تقدم النقل عن خالد بن معدان، وراشد بن سعد، وعبد الرحمن بن جبير.
وأخرج البيهقي من طريق أدهم مولى عمر بن عبد العزيز قال: كنا نقول لعمر بن عبد العزيز في العيدين: تقبل الله منا ومنك يا أمير المؤمنين، فيرد علينا مثله، ولا ينكر ذلك.
مخ ۳۶
وأخرج المستملي بسند صحيح إلى حجاج بن محمد، والطبراني في الدعاء إلى أبي داود الطيالسي، كلاهما عن شعبة بن الحجاج قال: لقيت يونس بن عبيد في يوم عيد فقلت: تقبل الله منا ومنك، فقال لي: منك.
ونقل عن صاحب النصيحة من الحنابلة: هو فعل الصحابة والعلماء.
ونقل القاضي شمس الدين السروجي الحنفي في شرح الهداية عن الحسن البصري أنه سئل عن ذلك فقال: محدث.
وعن الأوزاعي قال: بدعة.
مخ ۳۷
وعن الليث بن سعد قال: لا بأس به.
قلت: والذي نقل عن الحسن البصري -إن كان محفوظا عنه- لا يعارضه ما أخرجه الطبراني في الدعاء من طريق حوشب بن عقيل قال: لقيت الحسن البصري في يوم عيد فقلت: تقبل الله منا ومنك، فقال: نعم، تقبل الله منا ومنك.
فيجمع بينهما بأنه عنده من الحادث الحسن، كما قال عمر في التراويح: نعمت البدعة هذه.
مخ ۳۸
ويحتمل مثله في إطلاق الأوزاعي.
مخ ۳۹
الوجه السادس مما جاء في ذلك عن المذاهب الأربعة
أما الشافعية:
فتقدم ما ذكره البيهقي، ونقل الشيخ شمس الدين ابن مفلح الحنبلي في كتاب الفروع عن أحمد: لا بأس به، ورقم عليه علامة موافقة الشافعي، لأن اصطلاحه أنه يرقم للمذاهب الثلاثة وفاقا وخلافا، فعلامة أبي حنيفة (ه) وعلامة مالك (م) وعلامة الشافعي (ش)، فإن كانت المسألة خلافية رقم عليها اسم المخالف، وإن كانت وفاقية زاد للوفاق قبل الرقم واوا، فرقم هنا على لا بأس به ما صورته: ((وش))، يعني وافق الشافعية هذه الرواية فاقتضى ذلك أنه وجد النقل في خصوص هذه المسألة عن الشافعية.
وأما المالكية:
فسبق النقل عن البيان والتحصيل.
وتقبل الشيخ موفق الدين ابن قدامة عن علي بن ثابت قال: سألت مالكا عن ذلك منذ خمس وثلاثين سنة، فقال: لم يزل يعرف هذا بالمدينة.
مخ ۴۰
قلت: وهذا المنقول عن علي بن ثابت -وهو الجزري- نقله عنه أبو حاتم ابن حبان في كتاب الثقات فقال: أخبرنا ابن الباغندي، ثنا محمد بن حاتم، ثنا علي بن ثابت قال: سألت مالكا عن قول الناس فذكره بلفظ: ((ما زال الأمر عندنا كذلك)).
ونقل السروجي في شرح الهداية عن مالك: ((هو من فعل الأعاجم، وكرهه)).
وهذا الأخير هو مقتضى صنيع صاحب الفروع عن الحنفية والمالكية أنه لا يستحب.
وأما الحنفية:
فنقل السروجي عن قنية المنية أنه ذكر هذه المسألة فقال: لم ينقل عن أصحابنا كراهة.
مخ ۴۱
قلت: وذكرها القاضي علاء الدين التركماني في الدر النقي، واستدرك على البيهقي حديث أبي أمامة الذي قدمته، ونقل فيه قول أحمد أن إسناده جيد.
وأما الحنابلة:
فنقل صاحب الفروع:
1- عن أحمد لا بأس به، نقله الميموني عنه قال: يروى فيه غير شيء.
2- وعنه: الابتداء به حسن، وكذا الجواب سواء.
3- وعنه: لا أبتدئ به، ولكن إن ابتدأني به رددت عليه. وهذه رواه الميموني فيما نقل الخلال في كتاب العلل.
مخ ۴۲
4- وعنه يكره، نقلها صاحب الفروع، وعن علي بن سعيد: لا أحسبه يعني الكراهة، إلا أن يخاف الشهرة.
مخ ۴۳
الوجه السابع في مطابقة هذه الأجوبة للسؤال مع كونها أخص من السؤال
لأن توجيه ذلك التمسك فيه بالقياس، لأنه إذا ثبت في خصوص العيدين باللفظ الخاص أمكن أن يستنبط من النص معنى يعمه، فمهما ظهر فيه المعنى الذي شرع له التحق به.
وقد ورد في خصوص ((تقبل الله)) دليل قوي لمشروعية ذلك لمن فعل مأموراته أن يسأل الله تعالى يتقبل الله منه ذلك، وهو ما حكى الله تعالى عن خليله إبراهيم عليه السلام وولده إسماعيل عليه السلام حين بنيا الكعبة حيث قال: {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم}.
وفي الصحيحين ما ذكره أبو حمزة الضبعي أنه أخبر ابن عباس بأنه رأى في المنام من قال له: متعة متقبلة.
مخ ۴۴