وغابت الشمس.
وحل المساء.
وكان أحد أمسيات الشتاء وبدأت نسمات وبدأت نسمات تهب، نسمات ليس فيها جمود اليأس وإنما كان لها مخملية الأمل، وكان حمزة قد أضاء النور وأصبحت الحجرة تسبح في بحر من عواطف متدفقة، كان في جوها ضحكات قصيرة مختصرة وطويلة لا نهاية لها، وأيد تدق على أيد، وقلق وطول بال، وتنقلات سريعة متلاحقة من حادثات فاتت إلى لحظات تصنع الحاضر، إلى ومضات عيون والتماعات خدود وبسمات راجفة كمناديل حريرية معلقة تجف، وكلام كثير يريد أن ينطق، ورهبة من الكلام. وحمزة يجلس فلا يركن إلى الجلوس، ويتمشى في المساحة القليلة الباقية في الحجرة بغير أثاث فلا يركن إلى المشي، وأسلاك خطط طويلة تخرج من رأسه لتمتد إلى الغد وبعد الغد ومئات السنين، وفوزية تبدو فرحة تنظر إليه وتتحسسه بعينيها وتتأمله كالشيء الثمين الذي تقلق حوزته حتى وهو بجانبها، وفي قلبها وعينيها كانت قلقة لا تكاد تستقر على حال، ولا تكاد تصدق أن حمزة أصبح لها وأنها ستصبح زوجة ذلك العزيز الثائر الذي يتوهج ذهنه بمنطق لماع مشع ينفذ إلى الأقوال والأشياء فيفصصها، ويتأمل تركيبها وقانونها كما كان يفعل «بالبريتا»، ثم يصدر عليها حكمه في بساطة وبلا ضوضاء.
ابتسامته وابتسامتها كانا هناك حين فتح الباب فجأة وظهر بدير مصفر الوجه جامد الملامح ترتعش أصابعه التخينة الشاحبة، وخطا خطوة واحدة إلى الداخل وتوقف قليلا، وجاب الحجرة كلها بعينيه وتفحص فوزية بدقة، وكذلك فعل بملابس حمزة ثم قال له: تسمح.
وتبعه حمزة المذهول إلى الخارج، وأغلق بدير الباب ومشى إلى حجرة النوم، وما كادا يصبحان في الحجرة حتى التفت بدير قائلا في مرارة غريبة على صوته: أنا مش قايل دي متجيش هنا؟ - دي مين؟
فقال بدير وعيناه إلى الأرض وأسنانه تتضاغط: الشرموطة بتاعتك اللي في الأوضة التانية.
وكاد حمزة أن يصفعه، وفعلا قام بعمل المقاسات اللازمة بين حجمه وحجم بدير والمسافات التي على يده أن تقطعها لتستقر على وجهه، لولا أنه عاد إلى وعيه ورأى أمامه طفلا ضخما لا يستطيع أن يمد عليه يده. - تفتكر إن دي طريقة يا بدير؟ - ما هو مافيش إلا كده، أمور الشرمطة دي ما أعرفهاش؛ أنا راجل صعيدي، يمكن يبان علي إني متساهل، إنما في الحاجات دي أنا صعيدي قح. - ويصح وانت صعيدي قح تشتم ناس متعرفهمش كده؟! كده؟! - بلا يصح بلا ما يصحش، إنت خليت فيها يصح، أنا قلت متجيش؛ فما دام جت تبقى انت وهي برة على طول. - سيبنا من التهويش ده وبلاش جعير وقول لي ايه حكاية التقاليد الصعيدية اللي ظهرت فجأة دي؟ - مافيش حكاية، بره يعني بره على طول بلا أي تفسير.
وألقى عليه حمزة نظرة أخيرة أيقن بعدها أن لا فائدة من مناقشته، وأنه في حالة لا يعي معها ما يقول أو يفعل، بل إنه في حالة قد يرتكب معها جريمة، ولم يكن حمزة يتصور أن المسألة ممكن أن تتطور إلى هذا الحد وأنها ستتفاقم إلى أن تصل إلى هذه الدرجة.
وأشار إلى فوزية وتقدمها إلى باب الشقة بعد أن جمع حوائجه القليلة ووضعها في الحقيبة القماش، وأغلق وراءهما الباب ومضيا يهبطان السلم، وفوجئا ببدير يطل برأسه من باب الشقة قائلا في صوت مخنوق: الشنطة الكبيرة، تلاتة بالله العظيم إن ما كانت تجيني لأدفعك تمنها غالي.
وأغلق الباب، وخيل لحمزة وهو يهبط بقية الدرجات أنه يسمع وراء الباب المغلق شهقات ونهنهات.
ناپیژندل شوی مخ