12
فوق حب الاستطلاع الذي ينفرد به حمزة كان الخطاب من فوزية، وبعد ماذا؟ بعد أهوال جسام، ولهذا كان الأرق الذي يحس به ناحية المظروف الموضوع في جيبه شيئا طبيعيا، كان لا يمكن أن ينتظر كما أرادت فوزية إلى ما قبل النوم حتى يعرف ما فيه؛ ولهذا سرعان ما جمع أرقه وقال: إيه رأيك، أنا مش قادر استنى، لازم اقرا الجواب.
وعارضته فوزية قليلا، ولكن قرأ في ملامحها أنها لن تغضب، فأخرج الخطاب باحتراس من جيبه وتأمل المظروف السميك على مهل كالذي يتهيأ لالتهام وجبة دسمة. كان واضحا أنه خطاب طويل، واحتار حمزة أيستبشر به أم ينزعج.
وقال لها قبل أن يفض الخطاب: انتي متأكدة إن ما فهش حاجات زي «لازم نحترق ونترهبن»؟
فأجابت فوزية: يوهوه يا حمزة، بلاش تعذيب.
فابتسم وفتح شيش النافذة وفض الخطاب، وقرأ كلمة حمزة التي في أوله وأحس لها وهي مكتوبة بخطها بنفس فرحته حين سمعها وهي ترددها، وتأنى وهو يتأمل الكلمة، ثم وهو يلقي على فوزية نظرة أخيرة قبل أن يدلف إلى محتويات الخطاب.
كان أهون عندي أن أموت قبل أن أقف منك هذا الموقف. أنا يا حمزة أخجل حتى من أن أسمح لنفسي أن أناديك أو أكتب اسمك، قلت لك أمس إنك «تخون دورك وثقتي فيك»، ويبدو أن الإنسان حين يكون مذنبا يتهم غيره بنفس ما يقترفه، كيف أبدأ؟ وكيف أزف إليك أنباء الإنسانية التي أحسست نحوها «بإحساسات أخرى غير إحساسات الكفاح»؟ يكفي أن أقول لك: إنني مثلت أمامك دور البطولة وإنني فيما يظهر كنت موفقة إلى الدرجة التي لم تلحظها أنت. كل ما عرفته عنك من سعد قبل أن ألقاك أنك «وطني مخلص ومكافح من حديد»، وحين دخلت عليك الخيمة ورأيتك والبندقية أجزاء بين يديك وسوادها بلونك، ونظرت إلي بعينين ساهمتين ثابتتين من خلف نظارتك، تلك النظرة التي لا تزال راسخة في عقلي، قد يموت ولكنها لن تموت، قررت من ساعتها أن أعرفك معرفة وثيقة، ورحت أفتح لخيالي وديانا رحبة وأماني خضراء جميلة، وأنا حين جلست لأكتب لك هذا الخطاب عاهدت نفسي على ألا أكتم عنك شيئا بالمرة، ولا تحسب أن هذه مهمة سهلة؛ فليس سهلا أن يقر الإنسان بأخطائه، فما بالك حين يستخرج خفايا نفسه ويعرضها أمام عين أخرى غير عينه حتى لو كانت عينك؛ لهذا فاعلم يا عزيزي أنه لم تكن هناك لجنة مدرسات بالمعنى الذي تناقشنا حوله وحول تنظيمه، كانت هناك بعض مدرسات متحمسات، وكنت أكثرهن حماسا، وأطلقنا على أنفسنا اللجنة.
وحين وعدتك بإحضار التبرعات التي جمعناها لم نكن قد جمعنا شيئا ولا حتى فكرنا في الجمع، ولست أدري ما دفعني إلى الكذب عليك ووعدك بإحضار التبرعات في اليوم التالي، وحقيقة أحضرت لك السبعة والعشرين جنيها، ولكن أتدري كيف جاءت وبأي اسم اقترضت؟
لقد درت على زميلاتي أقول لهن: إن أبي مريض وأطلب منهن سلفة، ودفعت من عندي سبعة جنيهات، ولم أترك حتى الطالبات، كنت أود مفاجأتك بمبلغ كبير، مائة جنيه مثلا، حتى أبدو ضخمة في عينيك.
كان كل همي هو أنت والظهور أمامك، ولما جاء 26 يناير لن تستطيع أن تتصور مبلغ فرحي حين أمكن أن أعثر عليك بعدها؛ ليس ذلك لأنني كنت مهتمة بقضيتنا الوطنية هذا الاهتمام، وإنما لأني كنت قد بدأت أهتم بك وأفكر فيك، وأنا كنت طالبة في كلية الآداب ورأيت مئات الطلبة وقابلت في حياتي عشرات الرجال، ولكني لم أهتز ولم أحفل بأحد غيرك وكأنهم جميعا كان ينقصهم شيء وجدته لديك، أو كأنني أنا كان ينقصني شيء ووجدته عندك، وأنا قرأت كثيرا وآمنت بما آمنت أنت به من نظرة علمية للمجتمع، ولكني ما كنت أتصور أن يوجد إنسان مثلك يهب النظريات التي في الكتب ما وهبته أنت لها، ويضحي بما كنت على استعداد للتضحية به، ويتكلم عن أعقد المشاكل ببساطة كما كنت تتكلم.
ناپیژندل شوی مخ