ولم يأبه حمزة بالرد عليه، ونفض يده منه، وتجسدت له الحكاية مرة أخرى وبصورة جذابة جديدة، وراح عقله يدور حول نفسه ونغمات حزينة تتصاعد من وجدانه وأنات وعذابات وقهر، تلك الشابة الممتلئة بالحيوية والحركة ذات الجسد الدقيق والملامح الدائمة الانفعال الدائمة الابتسام، تلك الشابة الصغيرة قد أصبحت عزيزة جدا عنده، حتى بعد جلسته الطويلة تلك معها لا يزال يهفو إليها كما يهفو مدمن التدخين إلى سيجارة الصبح ويحن إلى وجودها كما يحن عباد الشمس إلى الشمس والنبات إلى الماء، وكما يحن الغريب إلى أرض الوطن.
لماذا كلما تذكرها يدوخ تفكيره ويكاد يهوي؟ لماذا إذا خطرت بعقله تخطر خلسة وخلف ستار وكأنها جريمة؟
وقال بدير وهو يدخل في بنطلون بيجامته: قول لي يا حمزة؟
وقال حمزة دون انتباه: إيه؟ - إلا بشرفك وشرف والدك ما عملت في البنت دي حاجة؟
ورد حمزة في غضب لا يستدعيه الموقف وبلهجة حادة: بطل تخريف يا بدير، وبلاش سخافة، فاهمني ازاي؟ - يعني مؤدبة؟ - دي من أحسن البنات اللي قابلتهم في حياتي، وأنا أمنعك إنك تتكلم عنها بالشكل ده، فاهمني ازاي؟ - أمال بتسلم على الواحد كده ليه؟ مؤدبة يعني؟ أنت وذمتك بقى.
وأخيرا رقدا جنبا إلى جنب في الفراش، وكان السرير يحتل منتصف الحجرة، والغرفة وثيرة فيها أشياء كثيرة أنيقة، ولكن لا روح فيها ولا انسجام.
وكان بدير يقلب صفحات «المصور» كعادته حين يستعد للنوم، ولكنه لم يكن يقرأ، وفجأة ألقى المجلة فوق «الكومودينو» واستدار إلى حمزة، واستجار السرير وهو يستدير: قوللي يا حمزة، هو فيه قاعدة إنه إذا كان الواحد بيحب واحدة يبقى لازم تكون بتحبه؟ - لأ. - طب يعني مثلا افرض مثلا، مثلا يعني إنك بتحب واحدة وعايز تعرف إذا كانت بتحبك واللا لأ تعمل ايه؟ - أنام. - لا، أنا بتكلم جد. - وأنا بتكلم جد. - أمال أنام ايه يعني؟ - تنام شوية فتصبح الصبح أعصابك أهدأ وتقدر تفكر. - وإن ما جنيش نوم؟ - تاخد منوم. - بيعمل صداع. - تاخد سم. - طبعا، ما هو المسألة يا يكون فيها وطنية وكفاح يا بلاش، يا كلام في السياسة يا مافيش كلام، يا أخي ما تفضونا بقى وتخلوا الناس يكلوا عيش. - متخلي أنت الناس تنام.
وكان حمزة في الحقيقة لا يريد أن ينام، ولكنه يريد أن يهدأ كل شيء ويبقى عقله يعمل، يريد أن يستعيد الغيبوبة اللذيذة التي يدلف إليها كلما اتخذ فوزية مادة لتفكيره، كانت أحاسيس متناقضة تحاصره، كان يريد أن يسبح إلى كل ما يستطيع أن يصل إليه خياله من مدى ، وكان شيء ما في نفسه يكبحه ويوقفه ويبعث في نفسه رهبة وخوفا، كان يحس أنه شيئا فشيئا لم يعد ينظر إلى فوزية كزميلة في الصف، كان يحس أنه شيئا فشيئا تبدو له المرأة التي في الزميلة، وكلما بدت حاول طردها، ويهرب منها إن فشلت محاولته، ولكنه مهما يفعل فإنه يغوص دائما إلى التفكير فيها، في الزميلة المرأة المكافحة الجميلة المتجددة الحيوية الدائمة الانفعال، وانتبه على قول بدير: بس والله يا حمزة أنت ما تعرفش أنت بأقدرك قد إيه؟ أنا بيعجبني تفكيرك جدا، وبيعجبني الذكاء اللي بتعالج بيه المشاكل، ففيه مشكلة أهيه، إن كنت جدع حلها. - مشكلة ايه يا بدير بس؟ الساعة تيجي واحدة، خلينا ننام. - يا أخي ما طول عمرنا بننام جد علينا إيه؟ اسمع، والنبي لانت سامع. - إيه؟ - فيه واحد صاحبي واقع في مشكلة. - يا أخي وده وقته؟ ما صاحبك ده يستنى للصبح حيموت يعني؟ - أصلها بجد مشكلة حياة أو موت.
وهنا جلس حمزة في الفراش ومد يده وظل يبحث عن زر النور المعلق في السرير حتى وجده، وأشعل النور وقال: خلاص بلاش نوم، نحل المشاكل، آدي النضارة وندور على السيجارة الباقية.
وأشعل السيجارة وراح ينظر إلى بدير الذي كان يرقد بجسده المرتفع كجسد الدرفيل، والذي لم يعتدل ولم يحرك رأسه من فوق المخدة، وإنما قال وعيناه تائهتان في السقف مفتوحتان كالفنجان: اسمع. - إيه؟ - افرض إنك بتحب واحدة جدا. - طيب فرضت. - وما تعرفش إذا كانت بتحبك واللا لأ، تعمل ايه؟ - أولا: أنا مش سفسطائي علشان أقعد أفرض حاجات في الهواء، لازم أعرف ايه المشكلة؟ ومين صاحبها؟
ناپیژندل شوی مخ