وأخذت فوزية تحتسي قهوتها في رشفات سريعة حتى أتت عليها، وحمزة ما يكاد يتذوق كوبه، وسألته فوزية ونشوة بهيجة تطل من عينيها: إلا قوللي. - أقولك ايه؟ - إنت بتشتغل ايه؟
وضحك حمزة ضحكة طويلة مغتصبة وقال: انتي لسه لدلوقتي ما تعرفيش، خمني باشتغل ايه؟ - مدرس؟
وضحك حمزة مرة أخرى وقال: اشمعنى يعني؟! لا. - طالب؟ - لا. - محامي! أمال ايه صحيح! - تسمعي عن الناس اللي بيسبغوا الهدوم، أهو أنا منهم. - كنت بتشتغل في مصبغة يعني؟
وضحك حمزة وأجاب: لأ، كنت باشتغل كيماوي في مصنع شركة الحرير. - أمال ايه اللي خلاني أفتكرك مدرس؟ أنت لازم سبت الشغل بقى؟ - ياما سبت شغل.
ونظرت إليه فوزية، أكانت علامة إعجاب نظرتها؟ لا يدري، فقط جعلته تلك النظرة يخجل ويسقط عينيه إلى الأرض.
وقالت فوزية في عصبية مفاجئة: تعرف أنا النهارده كنت حاضرب الناظرة! ايه ده؟ الناس بقى دمهم تقيل قوي، ناظرة آخر رجعية وسخافة في العالم، تصور هي بنفسها اللي بتفتح كل الجوابات الواردة للمدرسة وتقرأها، امبارح فتحت جواب لي ، الله ما تشرب القهوة، أنت سارح في ايه؟ بتبصلي كده ليه؟
وكان حمزة تائها فعلا في وجهها لا يكاد يعي، وعيناه مثبتتان على بشرتها يرى كلماتها ولا يسمعها، ويراقب ذرات النور وهي تتساقط على ملامحها الدائمة الانفعال، ويفكر في أشياء كثيرة لا يعرف ما هي، وانتبه فجأة على سؤالها فقال: أبدا، آه، أصل أنا ساعات باسرح كده. - الظاهر إنك تعبان. - أبدا، أبدا. - أمال عينيك شكلهم غريب، وبتبص كده، كده، كده فيه حاجة؟ - أبدا، أبدا. - طيب أنا لازم أمشي، ياه! أنا اتأخرت قوي. - تمشي ازاي؟ لسه بدري، لا يمكن حتمشي دلوقت. - لا، لازم أمشي. - لسه بدري جدا، مش ممكن. - طيب أقعد خمس دقايق، لغاية لما تبقى تمانية.
وأحب حمزة أن يشارك في حديث يجعلها تبقى فسألها: هيه، عاملة ايه؟
فقالت وهي تقف في ضيق عصبي مفاجئ: تعرف أنا النهارده كنت حنفجر؛ الناس خلاص استسلموا، عاملين زي التمساح الميت مهما تنغز فيه مايحسش، إيه ده؟ ده لو كانوا عشرين مليون دودة ماكانوش استموتوا بالشكل ده.
وكان حمزة مستمتعا بحالة الاسترخاء السلبي الذي كان يستقبل بها حديثها وملامحها، ولكنه لم يعجبه كلامها الأخير، وتردد برهة بين أن يسكت ويواصل الاسترخاء وبين أن يرد فينشب جدل يعكر الجو الحالم الذي ساد الغرفة، ولكنه وجد نفسه يقول: بس أنت غلطانة إذا كنتي فاكرة إن الشعب مستسلم. - غلطانة ازاي والناس ميتانة خالص؟ دا ولا كأن البلد بلدهم، وملك حقير عمال بيخون ويلعب بقضية البلد زي ما هو عايز. - إنتي شايفة الظاهر بس، وعمر المظاهر ما تصلح أساس للحكم، فاهماني ازاي؟ - يا شيخ مظاهر ايه؟ احنا أصلنا شعب مسالم استعمر آلاف السنين وخد على الذل، حتى الحرب الأخيرة ما حركتشي فيه ساكن، أصل طبيعتنا الزراعية وأرضنا السهلة وجونا اللي مفهشي تغيرات كبيرة مش ممكن يخلق شعب مقاوم زي الشعب اليوناني مثلا، احنا ناس عاديين ومش ميالين للعنف. - برضه أنا مصر إن دي نظرة سطحية محضة، شعبنا ده فيه قوة مقاومة لا يمكن تصورها، قوة مريعة مستخبية ورا السبح والصهينة وضرب الدنيا صرمة. - بس الزمن عمل عمله في الناس يا حمزة، والظلم اللي استمر آلاف السنين ترك أثره، أنت مش متصور. - أنا متصور كل حاجة، والظلم اللي بتقولي عليه ده مش أضعف المقاومة دا زودها، فاهماني ازاي؟ انتي لو كنتي في إسكندرية يوم 6 مارس وشفتي العيال وهم فاتحين صدورهم وداخلين على المترليوزات ماكنتيش تقولي كده. - دا كلام بيني وبينك بنقوله احنا بس، إنما الحقيقة ... - أبدا الحقيقة إن ده حصل فعلا وشفته أنا بعيني. - حصل ازاي؟ مش معقول، هو ده معقول حد يدخل على الرصاص بصدره؟! - بس ده فعلا حصل: كان الانجليز الاربعة فاتحين المدافع والرصاص زي المطر، والعيال كانوا واقفين في الميدان فعلا ونازلين فيهم ضرب بالطوب والحجارة. - إنت حتجنني! اسمع يا حمزة، أنا مش ناقصة حماس، مافيش داعي تبالغ. - بشرفي ما ببالغ، أنا كنت في المظاهرة يومها، ومش أنا بس اللي شفت، على الأقل 5000 واحد شافوها يوم 6 مارس. - كان في إسكندرية الكلام ده؟ - آه، يوم 6 مارس بالذات ده كان يوم تاريخي بالنسبة لي شخصيا، كنا أيامها بنمر بفترة رهيبة من تاريخنا: كنت طالب في كلية العلوم في إسكندرية، وكل يوم والتاني مظاهرة ومؤتمر، وكان لي صديق اسمه أمين كان طالب في كلية الحقوق، دلوقتي بقى وكيل نيابة، قابلته في الصيف اللي فات، كنت أنا وهو ما نكاد نسمع عن مظاهرة أو إضراب إلا ونطير على هناك، وكان لأمين بالطو مربعات مشهور جدا في المظاهرات كان أصله بالطو جبردين وقلبه، والجبردين قماشه من جوه مربعات، كنا لما نعرف إن فيه مظاهرات يلبس هو البالطو ويجري على هناك، وكانت مصر بتتوالى عليها حكومات صدقي والنقراشي، والبلد كلها ثائرة وواقفة ضد أي تسليم في حقوقها، وكنت أنا مجرد طالب عادي من اللي بتشفيهم يملوا الشوارع في المظاهرات، خرجت من بيتنا الصبح، وإسكندرية يومها كان مفروض إنها في حالة حداد على الشهداء اللي ماتوا في 21 فبراير في القاهرة، وليلتها بالليل كان في البلد رأيين: رأي ينادي بوجوب أن يمر اليوم هادئا وهذا كان رأي الإخوان، والرأي الثاني كان بيصر على أن تقوم مظاهرات واسعة النطاق لتخلد اليوم ويصبح جديرا بذكرى الشهداء، وانتصر الرأي الثاني والصبح كانت البلد كلها تعج بالمظاهرات، خرجت من البيت وفت على أمين وذهبنا للبحث عن مظاهرة نشترك فيها.
ناپیژندل شوی مخ