ولكني حين هدأت قليلا واعتدت على المكان، وتأملت كيف وضع «الكاب» فوق رأسه في وقار مخيف، وزرر معطفه الضباطي - على غير العادة - إلى آخر زرار فيه، وشد جلد وجهه في تزمت صارم، فاختفى كل ما فيه من تجاعيد وأصبح أملس كجلد الطبلة المشدود، وأضفى على نظرات عينيه بريقا تحس معه أنه لا ينظر بهما إلى الناس بقدر ما ينقر ويلسع، وحمل صوته ما لا يطيق وهو يشخط ويهدر بكلمات غير مفهومة كأصوات الرصاص.
حين تأملت كل هذا بدا لي حينئذ كأحد الجنرالات الطليان الأسرى الذين كنا نراهم أثناء الحرب، وحدث أن جاء شاويش أو بيتشاويش لا أذكر، ووقف أمامه ونادى عليه: يا فرحات.
عجبت كيف ينادي بلا تكليف هكذا، ولكن عجبي زال حين قال مرة أخرى: يا فرحات، يا سي فرحات.
ولم يرد الضابط النوبتجي إلا بعد أن قال له الرجل: يا حضرة الصول.
وكنت قد اقتربت حتى استندت مع غيري من المستندين على السور الخشبي وسمعت لهجته التي فيها آثار باهتة من ريف الصعيد، ونم صوته العالي عن الفضاء الواسع الذي ترعرع فيه، وعن مستلزمات الوظيفة من شخط ونطر وقد عملت عملها طوال تلك السنين، فأتلفت صوته وأضافت عليه حشرجة كالتي تلحق براديو القهوة البلدي من كثرة رفع صوته، وذهب الجنرال من خاطري تماما، ووضحت أمام عيني ملامحه التي كان يلفها ضباب الرهبة والسلطة، ورأيتها صعيدية خالصة بأنفه الكبير كأنف رمسيس وجبهته الحادة العالية كجبهة منقرع، وشيخوخته التي تنم عن تاريخ حافل في خدمة البوليس؛ إذ إنه لا بد قضى أجيالا حتى يصل إلى رتبة الصول، وقد دخل الخدمة «نفرا» ككل الأنفار، ورأيت جسده العجوز على حقيقته مستقيما في أجزاء منبعجا في بعضها الآخر، وقد فرضت عليه البدلة العسكرية والحذاء الثقيل و«القايش»، فرضت على جسده شكلها فرضا كما يفرض قالب المكوى على الطربوش شكله وأبعاده، وكان من الواضح أنه يحب هذا المركز حين تسند إليه مهمة الضابط النوبتجي، ويحب أن يعامله الناس كضابط بحق وحقيق، وهو الذي - بلا شك - قد قضى ثلاثة أرباع عمره يحلم بهذا وينتظر اليوم الذي يحمل فيه كتفه «النجمة»، وكان باديا أن كتفه لن تحمل شيئا من هذا القبيل؛ فهو وإن كان يقوم أحيانا بدور الضابط النوبتجي إلا أن الإحالة إلى المعاش كانت تبدو وشيكة، ونجمة الفجر أقرب إليه من نجمة الملازم الثاني، وحين تركته وأدرت بصري في الحجرة ورأيت المكاتب الخاوية التي تركها أصحابها، ودولاب الدوسيهات، والمروحة القديمة الموضوعة فوق الخزانة والتي كان يبدو أنها لم تستعمل منذ عشر سنين على الأقل وقد صنع التراب من نفسه عناكب فوقها، والمصباح الكهربائي الذي له «برنيطة» من الصاج، والذي يتدلى من السقف حتى يوازي رأس فرحات المائل على ما أمامه من أوراق، والناس المزدحمين حول الحاجز الخشبي والذين يكونون خليطا إن تنافر في أشياء فإنه يتفق في نظرات القلق والحزن الغاضب والوجوه المتقبضة الجامدة، كان معظمهم متهمين عائدين من تحقيق النيابة، وتضمهم سلسلة حديدية طويلة، تبينت بعد حين أنهم لا يقيمون وزنا للسلاحليك أو السلسلة أو الصول فرحات نفسه؛ فشخطته تقابل بزمجرة وأحيانا برد لا يقل عنها قسوة، حتى انفجر أحدهم مرة لأن فيشه وتشبيهه لم يكن بعد قد جاء من تحقيق الشخصية، وكان عليه لهذا أن يمكث في الحجز بلا إفراج حتى يجيء، انفجر ولعن الدنيا والحظ والفقر والذين كانوا السبب، ولولا الملامة للعن الضابط النوبتجي هو الآخر، ولمحت الضابط الذي في فرحات يعاني الحرج الشديد وهو يسمعهم يهدرون، ولكثرتهم وشراستهم وضربهم الدنيا صرمة لا يستطيع - كالضباط الحقيقين في نظره - إخماد ضجتهم، ولما انتهى منهم ومضوا وعسكري في أول صفهم وعسكري في آخره، والسلسلة ترن وتصلصل وهم لا يزالون يسبون ويلعنون، تنهد فرحات تنهد الذي وضع أصبعه في الشق.
حين تركته وأدرت بصري لكل هذا وعدت إليه وجدته حينئذ يبدو عجوزا جدا، عجوزا إلى الدرجة التي تحس معها أنه عهدة من عهد الحكومة عثرت عليه ذات يوم أثناء «كبسة» على بلدته فصادرته، وختمته بالطربوش الأحمر والبدلة الميري، وظل في مخازنها حرزا من الأحراز يبلى ويصبح كهنة ولا تبلى ما عليه من أختام.
وقال وهو يجوس بعينيه خلال الموجودين: أف! أقسم بالله الأشغال الشاقة أرحم من دي شغلة.
وتوقفت عيناه علي وفيها دعوة واضحة، وكنت أنا الآخر لي ساعات وأنا صامت فوجدت نفسي أقول: إيه، الشغل كتير واللا إيه؟
وكمن كان ينتظر الفرج من زمن رأيته ينفجر: يو هوه يا أستاذ، هو ده شغل؟! دا سرك، دا موريستان، الناس اجننت، يعملوا إيه؟ حيخس عليهم حاجة؟! كله على دماغنا! والنبي أنا اشتغل في الحديد ميت سنة ولا اقعد هنا ساعة، والأكادة إن كله كلام فارغ، كله كدب، تبالي وحياتك.
اللي معور نفسه، واللي ضاع منه شاكوش، واللي كان نايم قال وراحت طاقيته، ونروح بعيد ليه؟ مش دي واقفة من الصبح؟ مالك يا بت؟ أبقى مش الصول فرحات إن ما قالت إنهم ضربوها وأخدوا سيغتها! ما لك يا بت؟ فيه إيه؟
ناپیژندل شوی مخ