ومضت العربة.
كانت الدنيا لا تزال صبحا والشمس توزع صفرتها على الناس والأشياء بسخاء، وتألم حمزة لمنظر الناس، وكان قد مضت شهور وهو في سرداب تحت الأرض خرج منه يومها، كانت فيهم ملامح أهل القاهرة الذين يعرفهم ما في ذلك من شك، ولكنهم كانوا غير الناس الذين رآهم لشهور طويلة قبل الحريق: كانت زحمتهم هي هي، وإسراعهم إلى أعمالهم هو هو، ولكن كان يخيم عليهم صمت بغيض، وكانت سرعتهم غريبة هي الأخرى؛ فهي ليست سرعة الإنسان النشيط ولكنها سرعة المرعوب، سرعة الذي يجري خوفا من الكرباج، وكان الترام لا يزال يعوي ويسير والعربات الكارو تتأرجح وتجعجع وتركض أحصنتها، والتاكسيات لا تزال تحوم حول الزبائن، والدكاكين مفتحة الأبواب والكناسين يعملون، وأحيانا تسمع في سماحة الصبح ضحكات وشتائم، ولكن كل ما كانت تقع عليه عيناه كان خاليا من الحياة، كله خال من أية حياة، الناس شخوص، والحركة في الشارع تدور وكأنها تدور على شاشة باردة في فيلم رسوم متحركة، والحديث والضحكات تخرج لا معنى لها أقرب إلى الأصوات التي تخرج عن الأحجار إذا سقطت أو الأخشاب إذا احتكت، منها إلى أصوات تخرج عن أفواه بشر.
وتساءل حمزة: أين الروح في هذا كله؟ وهل يصدق إنسان أن تلك هي القاهرة التي كانت قبل 26 يناير، وهؤلاء هم الناس الذين قاموا بمظاهرة 13 نوفمبر والذين أمسكوا وزيرا ذات يوم من تلابيبه وقالوا: أين السلاح؟
ومن العتبة مضى التاكسي في شارع محمد علي، حتى الموسيقى التي كانت تعزفها فرقة صغيرة كحيانة تزف إعلانا عن فيلم في سينما الحلمية، حتى تلك الموسيقى كانت أقرب إلى نهيق حمير أو عواء أبقار منها إلى نغمات آلات.
ووصل التاكسي إلى باب الخلق.
وأوقفه حمزة وحاسبه، وركب تاكسيا آخر كان قادما من شارع الخليج وقال للسائق: حود في شارع الدرب الأحمر واطلع على باب الوزير.
وهدأ السائق من سيره وهو يجتاز الشوارع الضيقة المتلاحمة المزدحمة، وهدأت كذلك بقية الحياة الباقية حتى انتهت في آخر الأمر إلى أصوات عمال الأحذية في الحوانيت المتباعدة المتناثرة وهم يدقون المسامير في القوالب، وطرقات صانعي النحاس وهي تترى في استدامة مملة على السندان.
وعند باب الوزير غادر حمزة العربة حاملا الحقيبة وهو يتلفت في كل اتجاه ويزن كل رجل يصادفه، وصعد في الطريق المؤدية إلى المقابر وعيناه أمامه وخلفه وعلى جانبيه، وحين وصل إلى المرتفع سار في اتجاه المدافن، وما كاد يمضي بضع خطوات حتى أشرف على أولها وتوقف حينئذ ودار بعينيه باحثا.
وفي الظل الذي يجاور مقبرة وجد هناك رجلا يبدو عليه أنه يمت بصلة ما إلى المكان. - سلام عليكم. - عليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
وحدق حمزة في الرجل وفي عمامته ووجهه الأسمر وعينه الحولاء والجلباب الصوف البني الذي يرتديه، واطمأن إلى أنه ما دام أحول فلا يمكن أن يكون بوليسا، فقال: والله ماتعرفشي سيد فين؟ - سيد مين؟ - سيد اللي بيشتغل هنا؟ - ما هو فيه لامؤاخذة في دي الكلمة سيدين: سيد شطا وسيد محمد براهيم.
ناپیژندل شوی مخ