وكانت القرين أيامها تحيا على أخبار المعارك التي تدور وقصص البطولات واستعداد الإنجليز، وتتحفز لضرباتهم، وكان حمزة قد انتهى من الاتفاق على صفقة السلاح: ثلاثة رشاشات وخمسة مسدسات وصندوق ذخيرة، يتم تسليمها في القاهرة في صباح باكر من أحد مقبل.
والمساء في قرية كتلك كان شيئا جديدا على حمزة: «كلوبات» شاحبة قليلة، ومصابيح غاز بزجاجات وبلا زجاجات، وأناس رائحون وغادون يأتون من ظلام شارع ويختفون في ظلام آخر، وحركة بطيئة ميتة، وبهائم سارحة وبهائم راجعة، وبلد لا يمكن أن يصدق أحد أنها قتلت وحدها في خلال سنوات مئات من عساكر الإنجليز، حتى قدم بشأن نشاط أهلها المعادي للإمبراطورية البريطانية استجواب في مجلس العموم.
ودقت الساعة الثامنة والنصف واستمع حمزة إلى الأخبار التي تجمع أهل البلدة جميعا لسماعها، وعم لدى تلاوتها سكون عميق كالسكون الذي يسود صلاة الجمعة والإمام يخطب، والغريب أن حمزة لم يسمع الراديو يعقب بكلمة واحدة على مذبحة المحافظة التي حدثت في اليوم السابق، وكانت الأخبار عادية، وعن لصاحب القهوة أن يسمع تعليق الإنجليز على الأخبار من محطة لندن، فأتى بمنضدة ووقف عليها وأخذ يبحث بين المحطات، وكان حمزة منتبها أكثر إلى الرجل ووجهه الضئيل النحيل المنكب على الجهاز في حماس بالغ وهو يتابع مؤشر المحطات، ومنتبها أكثر إلى الناس الذين لم يتفرقوا بعد ولا تزال أفواههم تفسر الأخبار وتتناقلها وتتنبأ وتتوعد، ولكنه تنبه فجأة واستيقظت كل حواسه على صوت المذيع في لندن وهو يقول: إن الأحكام العرفية قد أعلنت في مصر، وأسرع حمزة يغادر مكانه ويقف بجوار الراديو ويكاد يلصق أذنه بالميكروفون، الحرائق تجتاح القاهرة، الأجانب يذبحون في الشوارع، السلب والنهب والقتل يدور على قارعة الطريق، الانفجارات تترى في أنحاء العاصمة والدماء تسيل في شوارعها، النحاس يطلب إعلان الأحكام العرفية، مرسوم إعلان الأحكام العرفية، قوات من الجيش تستدعى، الحالة تنذر بخطورة بالغة.
ولم ينتظر حمزة لحظة واحدة واستأجر عربة أقلته حالا إلى التل الكبير، وهناك ظل يشير لكل عربة مارة على طريق المعاهدة حتى رضيت واحدة أن تأخذه.
وأوقعته أفواه الناس وهي تتناقل شائعات مبهمة سوداء لا رابط بينها في دوامة، ولكنه حين أصبح في محطة مصر ورأى الأدخنة تنعقد كالحة في السماء، ومباني كثيرة تتلظى الجحيم وتبدو حمراء غامقة في سواد الليل، وألسنة اللهب تطل منها كألسنة الشياطين، ونار تتفحم وأخشاب تتوهج ومحلات منتزعة الأبواب مدشدشة المحتويات، والقاهرة الحبيبة تنزف أطرافها خرائب وأنقاضا وتتساءل بناياتها الواجفة عن المصير، وعساكر الجيش بلباس الميدان وخوذاته، ودوريات بوليس في عربات، والوزارة أقبلت، وأحكام عرفية جاءت أسود من الأدخنة التي في السماء وأفظع من اللهب الذي يجتاح الأرض، حين رأى وسمع شعر بالجو مشبعا بظلال أيد سوداء أثيمة، ورائحة مؤامرة تختلط برائحة بارود أجهض انفجاره، والعلامات تشير إلى مستقبل قاتم.
وبين حمزة والأحكام العرفية ثأر مبيت وتاريخ دام طويل يرجع إلى سنة 1948، ولذلك رأى ضرورة البحث عن مكان آخر يلجأ إليه وقد أصبحت حجرته في ظل الأحكام الجديدة غير مأمونة أبدا.
واضطر إلى ركوب تاكسي فلم تكن هناك أية وسيلة أخرى للمواصلات، وكان في جوفه غليان لا يرحم والسؤال يطفو إلى وعيه بين الحين والحين: ترى هل يسعفه بدير هذه المرة أيضا؟
وتوقفت العربة في شارع من شوارع الدقي وهبط ودق جرس الشقة رقم 9 وظل يدقه باستمرار، فالساعة كانت حوالي الثانية عشرة والظلام يغمر الشقة، وفتح الباب في النهاية، وأطل بدير برأسه الضخم وجسده الممتلئ الشاهق وهو يوحوح من البرد.
وباختصار أطلعه حمزة على الموقف وأبى بدير أن يصدق، وجلسا إلى الراديو والمذيع يردد بين الآونة والأخرى: أيها السادة، نحن في انتظار أنباء هامة.
وجاءت الأنباء في الثانية عشرة والنصف، وفي الواحدة تلي مرسوم تشكيل الوزارة الجديدة، وطلب حمزة من بدير أن يبقى لديه بضعة أيام، ووافق بدير وخيل لحمزة أنه يوافق على مضض.
ناپیژندل شوی مخ