ثم جاء الكاتب البلجيكي شارل دي كوستيه
Charles de Coster (1827-1879)، فاستعار هذه الشخصية وأودعها روحا فلمنكية مرحة كادت أن تجعلها نموذجا للطبيعة الفلمنكية في سذاجتها التي آذنت بالتحول عند نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.
وخاتمة المطاف في هذه المواسم الفكاهية كتاب «أعاجيب البارون منشهاوزن» الذي ألفه الكاتب الألماني رودلف أريك راسب
Raspe ، وأدار حوادثه أو نوادره على شخصية واقعية عاش صاحبها في القرن السابع عشر وعاد بعد خدمته في الجيش الروسي يصدع الأسماع بأخبار البطولة التي يرويها عن نفسه، وخوارق الشجاعة والدهاء التي امتاز بها في وقائع الحرب والسفارة بين الملوك والأمراء، ومنهم أمراء المشرق في الآستانة والقاهرة.
تلك الشخصية الواقعية هي شخصية كارل فردريك منشهاوزن (1720-1797) نموذج المفاخر المدعاة بين عصر السيف وعصر البندقية والمدفع، وإحدى أعاجيبه أنه نسي النار التي يشعل بها البارود، فأوقد زناد البندقية بضربة على عينه أطارت منها الشرر فانطلق الرصاص ... وإحدى هذه الأعاجيب أنه أراد الخروج من القلعة المحصورة فركب القذيفة التي أطلقت عليها فعادت به أدراجها إلى حيث أراد. وكانت أعاجيب منشهاوزن هذا خاتمة العهد الذي راجت فيه أباطيل البطولة بعد عصر الفروسية وقبل عصر السلاح الحديث، وراجت فيه على الجملة أخبار السياحات والرحلات مما يصدقه العقل أو لا يقبل التصديق.
وهذه فكاهات ظهرت لمناسبات متشابهة بين فرنسا وإسبانيا وألمانيا وبلجيكا وتقبلتها الأمم من المغربيين والمشرقيين حيث تداولتها أيدي القراء بمختلف اللغات، ومن هذه الأمم من اشتهرت بالفكاهة، ومنها من اشتهرت بجهلها وبطء الالتفات إليها، ولا يسع الناقد عند المفاضلة أن يرجح النكتة في إحداها على النكتة في سواها، فربما كان بعض النكات في أعاجيب منشهاوزن أبرع من نكات دون كيشوت، وربما كانت النكتة الإسبانية أحيانا أبرع من النكتة الألمانية، وعامتها من نسق واحد وطبقة واحدة تؤدي رسالتها في مناسباتها وتسجل الحقيقة التي أسفرت عنها المقابلة بين الفكاهات القومية، ودلت على أن الضحك - كالمنطق - مزية إنسانية توجد بالقوة كما توجد بالفعل حيث يوجد الإنسان، وأن اختلافها إنما هو اختلاف بين الظروف والبيئات قبل أن يكون اختلافا بين الطبائع والأصول. •••
على أن طبائع الإنسان العامة لا تمحو الفوارق بين المجتمعات في مواقعها المتباينة، ولا تمحو الفوارق بين المجتمع الواحد في الأزمنة المختلفة والأحوال المتناقضة، وليس من الطبيعي أن تكون الأمة الوادعة كالأمة الكادحة، أو الأمة الغنية كالأمة الفقيرة، أو الأمة التي طال عهدها بالحضارة ومؤنساتها كالأمة التي تحضرت بعد وحشة أو مرت بها الحضارة ناشئة متقطعة، ولا تتشابه في الجد ولا الفكاهة أمة تمرست بالمظالم والشدائد وأمة لم تتمرس بها إلا عرضا في الآونة بعد الأخرى.
فمهما تتفق طبائع الإنسان فستبقى بعد ذلك بقية للصبغة القومية في الجد والفكاهة، وفي العلم والعمل، وفي التفكير والذوق، وفي الضرورات والكماليات.
فوارق الأمم في الفكاهة
ونحن في هذه الرسالة نجمل القول في أصول الفكاهة لنستطرد منها إلى فكاهة جحا أو الفكاهة المنسوبة إليه في الأمم التي عرفته وتمثلت بحكاياته، وهي الأمة العربية والأمة الفارسية والأمة التركية. وكادت هذه الأمة - أي الأمة التركية - أن تستأثر به من معظم نوادره حتى قيل إن جحا المشهور اليوم إنما هو جحا جديد من مخلوقات البديهة التركية تنقطع الصلة بينه وبين جحا القديم الذي عرفه العرب في أمثالهم ورجع به التاريخ إلى صدر الإسلام، فلا يجمع بينهما غير التسمية باسم واحد.
ناپیژندل شوی مخ