واشتهر رجل آخر في تلك الآونة بالمبالغة في الادعاء - أي بالفشر كما يقولون في اللهجة البلدية - وكان حقا يدعي ويبالغ في دعواه، وكان ظريفا يحسن التخلص من المأزق إذا امتحن بمن يتعقبه بالنقد والسخرية، وكان إلى هذا وذاك على يسار يطمع فيه طلاب الاشتراكات للصحف الأسبوعية في ذلك الحين، فامتلأت هذه الصحف بدعاويه وبالدعاوي المقيسة عليها مع التوسع والإغراب، وأصبح اسمه كذلك علما على «الفشر» يكاد يلغي هذه الكلمة لولا أنها متأصلة في الأقوال والأقاويل.
فلا غرابة في نشأة النوادر الجحوية سواء صحت نسبتها أو لم يصح منها إلا القليل.
وكل ما جاء في الكتب العربية من هذه «الجحويات» فلا غرابة في نشأته، ولا غرابة فيه من كل وجه إلا في التناقض بين الغفلة والتغافل في أخبار الرجل الواحد، ولا سيما الأخبار التي تتحقق صفات صاحبها ويثبت أنه من المجانين المسلوبين الذين لا يحسنون تدبير «التغافل»، ولا تجيء منهم الحكمة إلا فلتة غير مقصودة في القليل من الأحايين.
الخوجة نصر الدين التركي
أما جحا التركي المسمى بالخوجة نصر الدين فالمنسوب إليه يملأ مئات الصفحات، وبين أيدينا كتاب بالتركية مطبوع في الآستانة بالحرف الدقيق (سنة 1328 هجرية) يقع في مائتي صفحة وخمس وخمسين، ولا يستوعب كل ما نسب إلى جحا أو إلى الخوجة نصر الدين من نوادر الحكمة أو نوادر الغفلة والبلاهة.
والأمر الذي لا شك فيه أن كثيرا من هذه النوادر وضعت بالتركية ولم تنقل عن العربية، وأنها ترجع إلى شخص عاش في بلاد الترك ولم تكن نشأته على الأقل في بلاد أخرى.
ويدعونا إلى الجزم بذلك أن النوادر تشتمل على جناس يوجد في الألفاظ التركية ولا يوجد في ألفاظ لغة أخرى، كالجناس بين جل وكل في نادرة المسامير والخطوط مع لفظ الكاف كما تلفظ الجيم في بعض الكلمات، والجناس بين جمع أيوب وكلمة «أيب» بمعنى حبل في نادرة يحذر فيها الخوجة نصر الدين أبناء بلده من الإفراط في تسمية أبنائهم باسم أيوب، أو كالجناس في الاصطلاح على تسمية المطر بالرحمة وقولهم عن نزول المطر إنه رحمة نزلت «رحمة انيور» من عند الله.
ويدعونا إلى الجزم بتأليف الترك لكثير من هذه النوادر أنها تذكر المدن والأقاليم في آسيا الصغرى وما جاورها بخصائصها المشهورة إلى هذه الأيام.
ويرجح لدينا أن نصر الدين شخصية تركية غير منقولة عن الأمم الأخرى أنه نشأ في آسيا الصغرى حيث تنتشر جماعات الدراويش الدينيين من قبل الإسلام، وحيث يعهد في آحاد من هؤلاء الدراويش أن يخلطوا خلط المجاذيب ويفتوا فتوى العلماء والفقهاء، وأن يلوذوا بمظاهر التخليط أحيانا بغية السلامة من بطش الحكام المغيرين على البلاد، وقد يلوذ بهم عامة الناس إيمانا بكراماتهم وشفاعاتهم ليدفعوا عنهم مظالم الطغاة، فيحتالون على استرضاء الظالم بالفكاهة أو بالوعظ المقبول أو بالتخليط الذي ينالون به ما طلبوه من الحاكم إذا أضحكوه واستطاعوا في وقت واحد أن يلمسوا في نفسه موطن التقوى والخوف من الله ومواطن الرضا والسرور. •••
والخوجة نصر الدين مشهور بكراماته وكرامات ضريحه في مقبرة «آق شهر» بعد وفاته بزمن طويل، ويذكر الناس أضاحيكه فيضحكون منها ولكنهم يحيلونها إلى حالات أهل الجذب بين عالم الأسرار وعالم العيان، أو يحيلونها إلى حب التقية والاحتيال على الموعظة الحسنة بالأسلوب الذي يؤدي إلى مرماه ويعفيه من عقباه.
ناپیژندل شوی مخ