في هذه السنة، واتخذ المؤلف من شخصية جحا في هذا الكتاب داعية جوالا يضطرب في البلاد الآسيوية هربا من ظلم الحكام، وكراهة للمقام، ويمضي هنا وهناك ليشهر بالنظم الحكومية التي ترهق الناس بالضرائب وتلتمس لها أسبابا من الهباء لا تعفي منها المقيم ولا المترحل بين الأرض والسماء، ومثال هذه المعاذير التي تنتحل لتحصيل الضرائب أن المكاسين استوقفوا جحا على باب مدينة ليسدد الضرائب عمن ينوي أن يزورهم فيها، فلما قال للمكاسين إنه لا يقصدهم للزيارة بل للعمل والتجارة طالبوه بالضريبة ضعفين: إحداهما للعمل المربح والأخرى للزيارة «الضمنية»؛ لأن من يتجر مع قوم يزورهم بغير مراء.
ونخال أن القراء الغربيين أقبلوا على نوادر جحا لأنها وافقت عندهم نماذج من الشخصيات المضحكة يألفونها ويتناقلون حكاياتها الصحيحة أو الموضوعة. وربما كانت نوادر جحا نفسه قد تسربت إلى الغرب بالتنقل والرواية الشفوية والاطلاع على الكتب العربية في أصولها أو ترجمتها، ولا يبعد أن يكون كثير من هذه النوادر قد انتقل من المغرب إلى أبناء جزيرة مالطة الذين يتحدثون في لغتهم الممتزجة بالعربية عن شخصية كشخصية جحا تسمى عندهم جهان، وهو تصحيف يسير كتصحيف كثير من الأسماء العربية التي يتسمى بها أبناء تلك الجزيرة. أما اسم «جوكا» المشهور باللغة الإيطالية فلا نخاله من قبيل هذا التصحيف كما خطر لبعضهم؛ لأن مادة «جوكا» بمعنى المزاح والضحك شائعة في اللغات الغربية اللاتينية والسكسونية، ومنها كلمة «الجوكندا» لصورة موناليزا الخالدة بمعنى «المبتسمة» من عمل ليوناردو دافنشي الفنان الكبير.
وقد أشرنا فيما تقدم إلى شخصيات في الغرب تشبه شخصية «جحا » في جانب الحكمة تارة وفي جانب الحماقة تارة أخرى، ولا ننسى في هذه العجالة أبقيت هذه الشخصيات لأنها باقية إلى يومنا هذا عنوانا لصحيفة سيارة باسم «البنش»
المختزل من اسم
من بقايا التمثيل الصامت في العصور الوسطى أو «القرقوز» المعروف عندنا بصندوق الدمى والألاعيب؟
والتناقض كثير في رد هذه الكلمة إلى أصلها القديم، فمن الشائع في الأسانيد الشعبية الإيطالية أن الاسم مصحف من اسم مهرج سخيف يسمى بتشيو دانيلو
كان معروفا في القرون الوسطى ثم اتخذوا اسمه علما على صناعة التهريج.
ولا سند لهذه الرواية غير الإشاعة والمشابهة في اللفظ مع الاختزال والتصحيف. والأرجح أن الاسم مصحف من اسم بنشيوس بيلات
أو بيلاطس الذي حدثت في عهد ولايته محاكمة السيد المسيح، فقد كانت هذه «الشخصية» محور السخرية والإهانة في المسرحية الدينية التي كانت تمثل محاكمة السيد المسيح وتعرض أعداءه في صورة رمزية يقابلها النظارة بالتهكم والاستهزاء. وقد يكون وصف القرقوز بالسواد - كما يسمى باللغة التركية - منظورا فيه إلى هذه المسرحية «السوداء»، أو مأخوذا من الستار الأسود الذي يحجب الدمى والألاعيب. وهكذا تنتقل الشخصيات والمناظر بين الشعوب ثم تنعزل في كل أمة بخصائصها بعد نسيان وسائل الانتقال.
وأيا كان مصدر هذا «البنش» فهو باق إلى اليوم يصغي الناس إلى فكاهاته متفرعة متجددة، متطورة، كما نقول بمصطلحات زماننا وقلما يعنيهم أن يتتبعوها إلى جذرها القديم. •••
ناپیژندل شوی مخ