ورغم أن أصدقاء كل ليلة كانوا لا يتغيرون، فإنني لم أشعر بالملل مطلقا. فإن لكل منا منحى في الحياة ومتجها، فإذا جمعنا الليل فلكل منا حديث وتعليق، والحديث حر لا خوف به ولا توجس، وإن كان دري يهمس به دائما. والتعليق ذكي عميق، فجميعهم لماح، يستخدم ذكاءه طريقا إلى الثروة، ولا يحرم نفسه من التعليق الذكي على هذه الحياة التي تمكنه من الوصول إلى مبتغاه.
وقد استطاعت الإعلانات التي أصبحت أحصل عليها منهم ومن أصدقائهم بانتظام أن تجعلني أشعر أنني ند لهم، وأنني أستطيع أن أجلس إليهم وأنا مطمئن إلى غدي الشخصي.
ولعل هذه الصداقة وانشغالي بأعمالي في الصحيفة وحياة تحية الاجتماعية المزدحمة؛ لعل هذا جميعه جعل الزواج بالنسبة إلي متعة لا تنغيص فيها ولا كدر، فأنا لا أكاد أذكر أنني وتحية اختلفنا في شيء، فكلانا على شوق حين نلتقي ولا يدركنا الملل من أوقاتنا، واستطاع الشباب أن يضفي على أيامنا بهجة، فما عرفنا الطبيب إلا حين حملت تحية في طفلنا الأول.
3
قال رئيس التحرير: عليك أن تغطي لنا أخبار الاتحاد الاشتراكي. - أنا يا أستاذ عبد الحليم؟ - نعم أنت.
كنت واقفا فجلست، لقد عملت بهذه الجريدة لأكتب في الأدب، فما صلتي أنا بالاتحاد الاشتراكي؟ أقسم بالله أنني ما عرفت - وما أحسب أحدا يعرف - ما عمل الاتحاد الاشتراكي. - ولكني أكتب في الأدب. - وهل عمولة الإعلانات أدب؟
سكت. ولم يسكت رئيس التحرير: ألا تريد علاوة؟ - وهل لا بد من الاتحاد الاشتراكي؟ - لا بد. - هل لي أن اكتب عنه ما أشاء. - على ألا يصل ما تكتبه إلى أن تطرد من الجريدة. - وهل أوقع باسمي. - ألا تريد أن توقع؟ - طبعا. - ولكنك ستوقع. - أمرك.
وأصبحت فجأة مسئولا عن الاتحاد الاشتراكي في الجريدة. حاولت في أول الأمر أن أكون محايدا، لا أهاجم ولا أمدح، ولكن هيهات يصلح هذا للجريدة؛ فرئيس التحرير رجل لا تجوز عليه هذه الألاعيب، إنه يطلب مقالات واضحة الاتجاه لا لبس فيها ولا حياد. وكتبت، وكنت واضحا، ونلت العلاوة.
حين قبلت أن أعمل بالإعلانات لم أحس بالغضاضة الشديدة، شاب فقير يعيش في جو غني ويحاول أن يحصل على المال عن طريق شريف، ولكني حين كتبت المقال الأول أحسست أنني عاهرة تبيع نفسها مرغمة لمن لا تحب، ولازمني هذا الشعور فترة، ثم راح يتلاشى ويتهافت ويتخفى حتى اختفى أو كاد، وأصبح الأمر طبيعيا. لقد تلاءمت مع الجو الذي أعيش فيه بعد أن كنت غريبا عنه. والعجيب أن اتصالي بالاتحاد الاشتراكي جعل لي سلطانا واسعا، وعاد علي بثراء يتضاءل بجانبه كل ما حصلت عليه من الإعلانات، ووجدتني في مدى شهور قلائل جالسا أمام كاميرات التليفزيون، وإذا أنا نجم. ولكن العجيب أن شعوري بأنني عاهرة عاودني مرة أخرى ومذيع التليفزيون يسألني وأنا أجيب؛ لماذا عاودني هذا الشعور بعد أن كنت نسيته؟! لا أدري. ما الذي قذف بهذا الشعور إلى كياني؟ ألح علي هذا الإحساس ورحت أفكر فيه بجدية شديدة. حين كتبت ما لا أريد أن أكتب، وحين حملت اسمي ما لا ينبغي أن يحمل، كان طبيعيا أن أحس بهذا الشعور، ولكن ما الذي طفا به إلى تفكيري وأنا نجم أمام التليفزيون؟ لعلني أدركت على غير وعي مني أن الذي جعلني أجلس أمام كاميرات التليفزيون هو أنني بعت ضميري ورضيت أن أكون سلعة. ولكن أي عجيبة في ذلك؟! إنني ابن عصري وربيت جيلي، وأنا ألائم نفسي مع هذا العصر وذلك الجيل، وإن لم أفعل داستني الأقدام، وإن حاولت أن أشرئب إلى السماء - أي سماء - فمصيري الأهوال الآخذة، أيسرها السجن وأقلها الموت، وبين الموت والسجن ألوان من العذاب لم تسمع بها البشرية، ويكفي أن أفكر - إذا جاز لي أن أفكر - في أن الاعتداء على تحية أمر غير مستبعد، وحسبي هذا. ثم أنا لا أريد أن أكون بطلا قوميا، ليكن غيري بطلا قوميا إذا أراد، وسوف أصفق له في الوقت المناسب والمكان الملائم. أما أنا فأريد أن أرى طفلي هذا الذي يحبو في ظلمات الغيب، وأريد أن أظهر على شاشات التليفزيون، وأريد أن أستمتع بالناس يشيرون إلي، وبأصدقائي يهنئونني على روعة الحديث الذي قدمته في التليفزيون، وأريد أن أجلس إلى هؤلاء الذين أصبحت صديقا لهم أشاربهم ويرضون غروري، وأمازحهم ويسكبون علي مع مديحهم الأموال؛ فقد أصبح لي لسان في الإذاعة والتليفزيون، وأصبح لي مكان ثابت في الجريدة، فإن لم ينل مثلي الأموال في غدق وبحبوحة، فمن ينال!
شخص واحد كان يبتسم ابتسامة ساخرة كلما ظهرت في التليفزيون: ألم تكن تريد أن تكون أديبا؟! - فقد صرت أديبا. - بالظهور في التليفزيون. - ألا يدل هذا على أنني صاحب قلم؟ - تكتب به عن الاتحاد الاشتراكي. - أنا صاحب قلم. - هل تفهم ما تكتب؟ - الناس تفهمه. - هل تفهمه أنت؟ - لا يهم. - كيف يفهم الناس كلاما لا يفهمه قائله؟ - لا يهم. - أين الأدب فيما تقول أو تكتب؟ - أليس أدبا؟ - الأدب كتاب، هل أكملت روايتك؟ - مزقتها. - لتكتب غيرها. هل كتبت شيئا؟ - سأكتب. - إذا كتبتها سأحكم إن كنت أديبا أم لا. - والآن؟ - أنت أقل من لا شيء. - إنني أكسب مالا. - أنت يد تصفق وسط عاصفة من التصفيق، وصوت ضائع يصرخ بالهتاف وسط أعاصير من الهتافات: أنت أقل من لا شيء.
ناپیژندل شوی مخ