في 26 أيار سنة 1786
بقيت أمي تبكي ستة أيام! كما طلبت ابنة يافث من الله الغضوب بعض ليال تبكي خلالها الربيع والشباب، ثم إنها تقدمت بنفسها ودفعت عنقها إلى التضحية، هكذا بكت أمي وقالت: «نعم، رضيت!»
في 10 حزيران سنة 1786
لقد كافأني الله: فأمس كان زفاف شقيقتي إلى إرنست، أرى البيت يستعيد حياة سعيدة، ومصاريع النوافذ، تتفتح من تلقاء نفسها كأنها أجفان الصباح أو براعم الزهور، بعد أن كانت موصدة منذ ذلك اليوم الذي ذهب فيه والدي إلى عالم غير هذا! أجل! أراها مفتوحة كأنها تستقبل أسراب السعادة بعد غياب طويل! وأرى الأهل والأنسباء يفدون زوجين زوجين وفي أيديهم هدايا العرس وعلى شفاههم دعاء سعيد، تلك عذراء باسمة لشقيقتي، وتلك عذراء أخرى تتأمل عقدا من اللؤلؤ يلمع على ضياء الشمس، وتلك ثالثة تنظر بدهشة إلى جواهر العروس وقد استهواها البريق، أجل! كل ما في البيت يدعو إلى الغبطة والفرح، وفي السماء تدور حلقات الرقص على الأعشاب، فيتأبط العاشقون أذرع بعضهم ثم يتيهون بين الأشجار والرياحين هامسين في مسامع بعضهم عبارات الحب! أما أنا فسأبقى وحدي مسترسلا لأحلامي وخيالاتي ناظرا إليهم بدون أن أدع لهم سبيلا يرونني فيه، أذوق من سعادة الحب صورها ومن لباب القلوب قشورها، قائلا في نفسي: «هذه السعادة ملكي لأني اشتريتها بشعاع عيني!»
في 13 حزيران سنة 1786
أمس، بينما كان الأهل والأصدقاء يحيون حفلة راقصة على الأعشاب، كانت جماعة من الفتيات يشرن إلي بأناملهن، وكانت إحداهن وهي أجملهن تختلس مني النظرات وعلى شفتيها بسمة السخرية، قائلة لأترابها: «أيمكن أن يؤثر على جمالنا ذلك الثوب الأسود وهو الشباب الزاهر والجمال الخلاب؟ أيخيفه العالم يا ترى؟!» ربي! إنك أدرى من الناس بسرائر قلبي!
في 16 حزيران سنة 1786
كان النهار الماضي ذلك النهار المحزن المظلم الذي تجلبب بخيال آلامي، وكانت السماء سوداء، والهواء النائح الباكي يحني الأوراق على السهول، وكانت الجداول العذبة راقدة بهدوء تحت الروابي المرتفعة وقد أمسكت خريرها عن الأسماع، وكان المنزل أيضا خاليا من الحس، ونوافذه موصدة أمام نواظر الأغصان والزهور، كأنها أهداب مثقلة لا تجسر أن تنظر إلى ذلك الوجه الحبيب لئلا تفيق الحسرات بين ذلك السكون الرهيب! وكانت أمي وشقيقتي تختليان حينا وتذرفان الدموع السخينة وكأن كلا منهما كانت تضمر في نفسها لوعة لا لوعة بعدها، وعندما كانتا تجلسان إلى المائدة كانت الدموع تتناثر من مقلتيهما وتتساقط على قطع الخبز والطعام!
مضى النهار على هذه الحالة، وعندما جاء الليل، ذلك الشبح الأسود الذي سوف يفرق بين المحبين فراقا لا لقاء بعده، قلت لأمي: «اذهبي وخذي لنفسك بعض الراحة، وسكني قلبك من الزفرات والدموع، فسوف أمسح دموعك بصلواتي وابتهالاتي وأدعو ملاك الرب ليحرسك ويكون لك غوثا وملجأ في مراحل حياتك، سترينني داخلا إلى هيكل نفسي برأس مرتفع وقلب كبير، ويجب أن تعرفي أن الذي يرفعونه إلى الله الخالق لهو أسمى ما في الصدور وأقدس ما في الأنفس، أجل يجب أن يرفع ذلك الشيء في مباخر الغبطة والسرور، اذهبي إلى فراشك يا أمي، فستجدينني قبل الفجر جالسا بالقرب منك»، ما كدت أنتهي من كلماتي هذه حتى ترامت علي وجعلت تقبلني، فلم أسمع ما كانت تتمتم شفتاها في تلك الساعة ولم أر إلا العبرات تتناثر من جفنيها الذابلين.
خرجت من غرفتها هائما على نفسي بين جلباب الظلام، وكان نسيم الجبال العليل يهب هبوبا خفيفا فتتلاشى لدى خطراته غيوم السماء، كانت الليلة من تلك الليالي العذاب حيث الهدوء والسكينة يهمسان في النفوس أسرار الحب والخلود، وحيث القمر المستدير، الجالس على عرش الأثير، يذيب على الأحراج والمروج أشعته المترددة المضطربة، كأنه، وهو يرسم البقع الصفراء الشاحبة، ذكرى خرساء من ذكريات الحياة والأيام، كنت أتوغل في الظلام ناثرا دموعي على أزهار الحديقة، مخاطبا كل شجرة يقع عليها نظري، منتقلا من جدول، ضاما إلى صدري كل غرس من الأغراس، نافثا في الأغصان روحا من روحي المعذبة، شاعرا بقلب رءوف يخفق تحت كل قشرة من قشور النبات، تارة أجلس على ذلك المقعد الخشبي، حيث كانت تجلس أمي وطورا أتحول إلى الخيمة فأنبه ماضي الراقد تحت أخشابها لأبكيه! أجل، كنت أزور كل جامد من تلك الحديقة وأزوده وداعا مرا، جامعا على الأرض ما يسقطه السنونو من القش اليابس، ثم إني بعد أن قمت بواجبي نحو تلك الجوامد الناطقة انحدرت إلى طرف الحديقة، وهناك تحت أقدام النافذة، نافذة غرفة أمي التي ربما كانت لا تزال ساهرة بين جدرانها، وبالقرب من ذلك الغدير الرقراق، جلست أصغي إلى زفرات المياه مقبلا ذلك التراب الذي سأتركه في الغد، مازجا عبراتي بالأوراق الصفراء المتساقطة من أغصان الشجر، لم أدر كم من ساعة قضيتها في تلك الحديقة، غير أن الفجر الأول كان قد لون خطوطه على حافة السماء، فأردت أن أقول لأمي كلمة قبل رحيلي فتقدمت مضطرب الركبتين إلى عتبة غرفتها وبدون أن أدخل تركت شفتي تتلفظان بهذه الكلمة الأليمة: «الوداع!» ثم حولت عيني الباكيتين وأسرعت بالخروج كرجل خائف من ضميره الملوث.
ناپیژندل شوی مخ