في 12 آب سنة 1795
صعدت الجبال العالية مصحوبا بالراهبة والمعاز فكنت أقف حينا كرجل يمشي إلى الموت وقد نازعته الريبة ودب الخوف في ركبتيه حتى بلغت إلى هوة عميقة فأبصرت دوحتين متكاتفتين صنعت الطبيعة جسرا منهما فمررت ومرت الراهبة والمعاز على ذلك الجسر وجعلت أسرع بالخطى حتى بلغت الكهف قبل أن يبلغاه، ولكني ترددت بالدخول مضطربا ثم تقدمت وأزحت الأوراق عن فوهة الصخر، فأبصرت لورانس ساجدة على ركبتيها، وجبينها الشاحب ملقى بوهن على صدرها الكئيب، وذراعاها الواهيتان مطوقتان عنق وعلها النائم، وشعورها المستطيلة مسترسلة على قرونه الجميلة، وبصرها التائه يرتفع تارة تحت أهدابها الحريرية ويذرف الدموع طورا على خديها النحيلين، فتقدمت قليلا فسمعت وطء أقدامي فنهضت مذعورة من مكانها، ولما رأتني هتفت: «جوسلين!» ولكنها عادت فتراجعت إلى الوراء، قائلة: «رب! ليس هو» وارتمت على أحد الصخور منهكة القوى، ثم جعلت تحدق إلى الراهبة والمعاز اللذين كانا قد وصلا إلى الكهف فاقتربت الراهبة، قائلة لها: «لا تخافي يا بنيتي واقتربي مني فما جئت إلا لأضمك بين ذراعي، إن الله الذي ينزع أخاك من يديك يهبك بدل الأخ أما»، وببعض كلمات أطلعت لورانس على تفاصيل الحادثة فجمدت كالقبر، وقد تاهت أفكارها في مذاهب الآلام وتحولت من فتاة جميلة إلى صنم من الرخام الشاحب، وفجأة، لا أعرف أية فكرة لمعت على جبينها فاستعادت نضارة الحياة، وبرز شبح الغضب من خلال عينيها، وتشعث شعرها على وجنتيها كأنه أمواج في إبان عاصفة، ثم ضحكت ضحكة السخرية، فاضطربت الراهبة لدى هذا المشهد وتراجع المعاز من الخوف، عند هذا رفعت صوتها بغضب شديد، وقالت: «أنتم كاذبون! فعودوا من حيث أتيتم إلى الذين أرسلوكم إلى هذا المكان، ماذا! أكنتم تعتقدون أنني ولد أنخدع بسهولة؟ اخرجوا من هنا جميعا فقلبي لا يغتر بحيلكم، ولا يؤخذ بحبائل مكركم!
هل اغتنمت فرصة غيابه لتنزعيه من بين يدي يا سيدتي؟ إنك لشديدة الغرور بنفسك، أو تجهلين أنك تنزعين الجسد من الروح؟ ...» وكان صوتها النحاسي يدوي في الكهف دويا مخيفا، ويدها المرتجفة ملصقة على نواتئ الصخرة، فلم تتمكن الراهبة من إمساك دموعها، فقالت لورانس بصوت أليم: «أنت تبكين؟ لماذا أنت تبكين؟» ثم أمرت يدها المثلجة على جبينها الشاحب كأنما هي تحاول أن تطرد فكرة رهيبة، وقالت: «لا، لا، لست أثق بسوى جوسلين! أنا البائسة الطريدة المنطرحة بين يديه! أنا ضحية القدر! أنا فريسة المآرب! لقد هجرني بين هذه الصخور وتركني بين مخالب الخوف بعد أن قضينا عامين لا نأكل إلا معا ولا نشرب إلا حليبا واحدا! أمن العدل أن ينهدم هذا المأوى على رأسي، وأن ينفتح ذلك القلب، الذي لم يعرف الجرائم ولم يلطخ طهارته بدم الآثام، ويصبح هوة يقبرني بها حية في أعماقها؟ لا، لا يمكن أن يكون ذلك! أجل، أنت كاذبة! وكذبك تجاديف مدنسة!» ثم صمتت فترة وبصوت ضعيف تراوده التأثرات النفسانية، قالت: «آه، يا جوسلين! آه يا أخي، ماذا فعلت وأين أنت الآن؟ أين أنت لتسمع ما يقول هؤلاء الناس فتسرع لنجدتي، أين أنت يا جوسلين؟ لماذا لا تدافع عن حبيبتك لورانس؟» فلم أقدر أن أهدي روعي فوثبت إليها في وسط هذا المشهد الأليم، وما كادت تراني حتى قفزت قفزة واحدة إلى عنقي وحوطته بذراعيها الواهيتين ثم لامست جبيني وعيني بشفتيها الباردتين وضمتني إليها ضمة شديدة، وأخذت تضطرب بين ذراعي وتتلوى كالحية قائلة: «من يجسر الآن أن ينزعه من بين ذراعي؟ أجبني يا جوسلين، قل لي إذا كنت قد خنت صديقك وحبيبتك وأختك! أجب يا جوسلين، تكلم، خذ بثأري وثأرك وقل لهم من نحن وأي حب يربط قلبينا!»
بقيت واقفا بدون أن أفوه بكلمة وقد غمرتني أشعة رهيبة، وشعرت أن ذراعي تكبل ذلك القلب الذي يحبني دون الناس بسلاسل من حديد، فأخذت أبحث عن مهرب ألجأ إليه غير أن ذراعيها كانتا تضغطان بشدة على عنقي، وأخيرا تمكنت من التخلص منها، قائلا: «لا، لا تلمسيني، فلم أعد ذلك الرجل الذي تعرفينه، فما أنا إلا ...» فقاطعتني قائلة: «لا تكمل! لا تكمل!» فلم أصغ لكلامها وأردفت قائلا: «ما أنا إلا راهب يا لورانس! لقد خنت حبي وسعادتي وقسمي، وشربت دمي ودمك في الكأس الأولى التي رفعتها بيدي، لقد خنت أكثر من إله بخيانتي إيمانك الحي، فاهربي مني، ولا تسمعيني كلمة الوداع الأخير، لا تنظري إلى بائس نظيري بل حولي عينيك عن وجهي، لا بل اسحقيني بقدميك كما يسحقون حشرة بين الأوحال! والعنيني ولا تضطربي! واحتقري نفسي المنطفئة وقلبي الخائن!» قلت ذلك وارتميت على الأرض منطرحا على قدميها لتتمكن من المرور على جسدي وتسحق حياتي الملتهبة وجبيني الشاحب، ولكنها تراجعت شيئا فشيئا، كما يتراجعون عند رؤية الأفعى، وصرخت صرخة واحدة كأنما قلبها المنسحق قد انفجر مرة واحدة وقذف من شفتيها، ثم ارتمت على جسدي واهية القوى فشعرت بيديها تثلجان وبلهاثها يتقطع شيئا فشيئا فأخذتها بين ذراعي وجعلت أدفئها لاعنا نفسي ألف لعنة، ثم قلت لها بصوت عذب: «اغفري لي يا لورانس! وأفيقي من سباتك! أفيقي وارجعي إلى الحياة، فسأجحد فضائلي المرذولة وقسمي المقدس! لا إله إلا في قلبك وبين ذراعيك، ولا معبد إلا في نفسك الطاهرة الشريفة! أفيقي يا لورانس! فلا سماء إلا في عينيك ولا نفس إلا نفسك! لقد كذبوا يا حبيبتي، فعودي إلى الحياة: إن جهنم لا تنفتح لمثل هذا الحب!»
عند ذلك اقتربت الراهبة والمعاز شاحبي اللون، مضطربي الأعضاء، ونزعا لورانس من بين ذراعي ... لورانس العذبة ... لورانس الجميلة ... فأبصرتها تنتعش قليلا، ورأيت شعورها الذهبية تسترسل من جبينها الأبيض كأنما هي أجنحة ملاك ألقت عليها الشمس جواهرها اللماعة، فلبثت محدقا في باب الكهف وقد تواروا عن نظري!
مغارة النسور في 15 آب سنة 1795
يا ابن الله، لقد رشح النزع من جبيني كما رشح من جبينك في تلك الليالي الثلاث، ليالي الأرق والآلام! آه! لماذا لا أسمع ذلك الصوت قائلا لي كما قال لك في جبل الزيتون: «لقد انتهى كل شيء!» أأقدر أن أحمل ثقل المستقبل في فؤادي؟ وأن أسمع صدى الآلام يقول لي في كل مساء: «لا تنتظر شيئا هنا، لا تنتظر شيئا هناك! لا تنتظر شيئا في الغد! إن حياتي لضريح ألقى الله ذكرياتي بين جدرانه! رب! لماذا أنا أحيا؟ لماذا أستفيق من رقادي؟» •••
الموت؟ أجل! ولكن عفوا ... لقد نسيت أني كاهن! كاهن! رسمته الآلام في ظلمات السجون! •••
لقد فطمني الله عن حليب الملذات! فلأشرب إذن كأس العذاب حتى الثمالة! ولأرفع تنهدات الله إلى مذابح الدموع! ولأضم إلى صدري أبناء البؤس بشفقة ورحمة! رب! اسكب في نفسي حبك الطاهر لأذيبه في قلوب العالم كما كنت أذيب حبي في فؤاد تلك الفتاة! وليكن كل ولد من أولاد الإنسانية بمثابة لورانس! أجل! إن في أعماق السماء حيث يراك الإنسان كاشفا عن وجهك، في ذلك المدى الأزرق، في مروج الكواكب النيرة، يتراءى لنا عالم فسيح الأرجاء أعدته يداك الإلهيتان مأوى للحب الطاهر! رب! إني لأنطرح على قدمي عزتك، ولا أرجو من هذا العالم غير الذي نلته، من الناس من يحلمون بسماواتهم ولكن أنا لا أحلم بشيء لأني رأيت سمائي!
عن المغارة في 16 آب سنة 1795
ناپیژندل شوی مخ