في مغارة النسور في 6 حزيران سنة 1793
قطعت هذا الصباح حواجز مملكتي، عاري القدم، مخافة أن يسمعني أحد، وتبعت مجاري المياه نازلا تلك المنحدرات حتى بلغت إلى مكان كنت أسمع منه عجيج البقر صاعدا إلي مع الهواء العاصف، فأبصرت الذي كانت تتوق نفسي إلى رؤيته: مشاهد الحقول الخضراء وصور الماضي البعيد التي لم يبق من آثارها إلا التذكارات، وقع نظري على النعاج ترعى الأعشاب على حافة التلال الصغيرة، وعلى بعض الرعاة يلعبون بعصيهم مع النسمات اللطيفة، وأبصرت جبليا لا يزال فتى جالسا على صخرة بالقرب من جبلية جميلة لا رقيب عليهما سوى الزرقاء والأشجار المدلة بارتفاعها، أجل، أبصرت ذلك الجبلي وقد خفض رأسه إلى الأرض مفكرا ثم رفع عينيه الكبيرتين إلى الفتاة فظهرت على شفتيه بسمة لطيفة هي خيال فكرته العذبة.
لبثت محدقا إليهما، مختلسا من الفتاة نظرات ملؤها اللذة والمرارة، ناظرا إلى قدميها العاريتين، وقد ألقيتا على الأعشاب الخضراء كأنهما قدمان من الرخام الأبيض أوجدتهما الطبيعة بين تلك الخرائب، مضت ساعة أو ساعتان وأنا على هذه الحالة، محدقا بسكرة أليمة إلى هذين الجبليين شاعرا بأن قلبي يزداد فراغا أمام قلبيهما الطافحين بالحب، سامعا من حين إلى آخر بعض كلمات مبهمة تتخلل ذلك السكون اللطيف وهي ذائبة من شفتيهما كما تذوب المياه من غدير شفاف وتتقطر قطرة قطرة على الأعشاب، وعندما استوت الشمس في كبد السماء رأيت الجبلي الشاب يستلقي على جنبي حبيبته الهادئة ويستسلم لرقاد عذب، بينما هي تلاعب أناملها العاجية بشعوره المتفرقة!
لم تكد الشمس تتوارى خلف الجبال حتى تركت ذلك المشهد حاملا بين جفني خطوط هذه الصور الملونة، صور السعادة والأفراح!
في مغارة النسور في 24 آب سنة 1793
لقد نام، فلأكتب! بأية كارثة اشتريت هذا الولد، رفيق مصائبي وآلامي! كان النهار قد أوشك أن يغيب عندما كنت أتجول من مكان إلى مكان تائها بين الصخور الجرداء والأشجار المسنة، وكانت نفسي تتدفق خيالات وتضيع بين أعمال الخالق، إذا بي أسمع طلقا ناريا فذعرت ونهضت مستفيقا من أحلامي فأبصرت جنديين يجدان في إثر محكومين من الأشراف، ثم سمعت طلقا آخر ورأيت المحكومين قد بلغا حواجز السيول فوقفا مترددين ثم أخذا يعانقان بعضهما فأومأت إليهما فأبصراني وأشرت بيدي إلى طريق وعرة فلم يتردد أحدهما أن أخذ بيد الآخر وهو حديث السن وصعد به المراقي المنحرفة، فأسرعت بنفسي لمساعدتهما على أمرهما حتى إذا ما بلغت أسفل الجسر رأيت الرجل يدلي إلي الولد المضطرب فأخذته بين ذراعي، وسمعت الرجل يقول لي: «انج، انج أيها الغريب الكريم بهذا الولد فسأبقى فترة في هذا المكان لعل موتي يدع لكما دقيقة سانحة تهربان بها عن أعين الجنود!» إذ ذاك كان الجنديان قد أوشكا أن يصلا إلى مقربة من ذلك المسكين، فصوبا عليه بندقيتهما وأطلقا عليه عيارين ناريين، وكان هو قد أعد بندقيته أيضا وأطلق منها رصاصتين معا، فسقط الجنديان في هوة من المياه، ثم رأيت الرجل، وقد جس صدره بألم شديد، يترامى على الأعشاب متأوها فأسرعت إليه وكشفت عن صدره فأبصرت جرحين يقطران دما، فجعلت أضمدهما وأغسل الدماء عن فوهتيهما ولم تمض بعض دقائق حتى أغمي عليه بين يدي ابنه، فوضعناه في المغارة على فراش من الأعشاب.
في 25 آب سنة 1793
كان رأس الجريح ملقى بوهن بين ذراعي ولده، وجسده ممتدا على فراش مخضب بالدم، وكان الولد يبكي بكاء أليما ويرفع جبينه إلى سماء الكهف مصليا، ثم يكب على والده كأنه يود أن يحول بينه وبين الموت، وكان شعره الأشقر يمتزج بذلك الشعر الأبيض فيخفي وجهيهما عن نظري، حتى لا أعود أسمع إلا الزفرات تتقطع بين مراشفه وتختنق في صدره.
كنت واقفا إذ ذاك في زاوية من زوايا المغارة مخافة أن أدنس الألم بنظرة، وفي يدي مشعل يصعد تارة ضياءه الأحمر ودخانه المأتمي في تلك الظلمة الكالحة وطورا يغمى عليه فأشعله، حتى إذا انتصف الليل أبصرت الجريح، وقد حدق إلي بعين مائتة، قائلا: «لقد دنت ساعتي الأخيرة، فحافظ على هذا الولد وكن له عونا ومغيثا، كن به أبا وأخا، الوداع!» كانت الكلمات تتقطع بين شفتيه، وكان ينظر إلى ولده فيناديه بيا ابنتي، حتى انطفأ الشعاع الأخير من أشعة عينيه فوضع إصبعه على فمه ولفظ نفسه الأخير مع اسم لورانس!
في 26 آب سنة 1793
ناپیژندل شوی مخ