إيه أيام الأوجاع، أيام السكون والاضطرابات! لقد شربت المملكة دماء الملك، وقام الشعب على الشعب قيامة سالت الأنفس تحت عجيجها، فكل إنسان يحمل شرفا أو فضيلة، أو قلبا ونبوغا، لا بد أن يتحطم على خشبات الإثم! إن إصبع الوشاة تشير إلى الجلادين بالقطع، وشريعة الشعب الوحيدة تقضي بالموت على أولي الجدارة، والفأس الظالمة تحب الرجل العادل ولكنها تختار لشفرتها ذلك البريء المسكين! أيها الشعب السكران بكئوس الدم، إنك لتهدم بيديك ما بناه أبناؤك البسل، وتعطي مثلا ظالما لجلاديك!
في 28 شباط سنة 1793
لا يبرح خيال الثورة منتصبا في مخيلتي، حافرا هوة الدم بين أعمدة أفكاري! مبرزا جسد المجتمع الإنساني يئن على أسرة الآلام! الثورة! لا يستطيع أحد أن يدين مضرمها، فلبانتها مختبئة تحت تراب المآرب! من يستطيع أن يحكم على إرادة الله! أليس عند الله حكمة خفية في سير المجتمع الإنساني؟ ماذا تعلن الطبيعة في طرقاتها الخالدة؟ أين يقف تيارها الجارف ويستريح، أي شعاع من تلك الكواكب العديدة المضطربة تحب أعين المبدع القدير يرقد رقاده الطويل بين اعوجاج سائر الكواكب المضطرمة؟ أية قطرة من مياه البحر تنام نومها الهادئ على فراش الأمواج؟ وأي محيط، راقد على الشاطئ اللانهائي، يقف عن افتراس الحصى المتجمع على ضفافه؟ أي نهار يعمل عمل الأمس؟ وأي أمس كان حكمه كحكم الغد؟ إن الوقت مشتق من الوقت، والأشياء من الأشياء! لا تبلى صورة من صور هذا الوجود إلا لتتجدد صورة أخرى على منبسطه، وأخيرا إن الآلام تعمل وتبني لتصل إلى الموت! عبثا يهرب الرجل الفخور ببنائه مذاهب هذا العدم من شرائع العالم وقوانينه! أيها الإنسان، ذلك الإله لن يكون إلا إلهك وتلك الشرائع لن تكون إلا شرائعك، وكلما لفظ الخالق عبارة من فمه الرهيب تتساقط لديها قوى الإنسان، ويكون ذلك السقوط جوابا! ليست الممالك والآلهة والمعابد والدساتير، أجل ليست هذه الملاجئ الضعيفة إلا ترابا سيجرفه العدم إلى مآتي المستقبل الذي سوف يحتقره ولا يلتقط ذراته عن الحضيض!
كم تناثرت على هذه الأرض عقائد وشرائع وآلهة مختلفة كل الاختلاف عن عقائد وشرائع وآلهة قبلها وبعدها ثم ذبلت ذبول أوراق الخريف واستحالت بعد ذلك إلى تراب لا يزال بآثاره ماثلا أمامنا إلى اليوم؟ كم من غضن وشجرة وأوراق غذت الأرض وأنمتها، وكم من جدول وساقية ونهر سقى البحر بقطراته، ذلك البحر اللانهائي؟ أجل، إن دماغ الخالق يشتغل دائما في أدمغة الإنسانية البائدة، تلك الآلات العمياء والأيدي المضطربة، لقد أعطى أفكار الإنسان ذلك المد والجزر اللذين يدفعانه تارة ويجذبانه أخرى، حتى إذا ما وقفا عن الدوران حول ذلك المحيط الإلهي يبلغ العالم ذلك المنتهى الرهيب! ولكن إذا كانت أفكار الله تقود الإنسانية إلى الانقلابات، فكيف يا ترى ترسم الثورات بدماء التضحيات الطاهرة! أليست الثورة انقلاب الجرائم وميولها وشهواتها؟ كيف يا ترى تعمل الروح السامية، روح الحب، والعدل، والسلام، لخدمة البغضاء والفواحش والطغيان؟ آه! ذلك لأن يد الله تعمل مع يد الرجل، حتى إذا أدركت الفضائل تلك الروح السامية لا يلبث الإثم أن يحرقها ببراكينه! أجل، إن العامل لإلهي ولكن الأداة لبائدة، فالأول يحاول أن يبني العدل على الحرية والثانية تحاول أن تهدم الهيكل على جميع الحقوق، ولا يزال الطرفان يتنازعان بين جلابيب الليل الخطر، حيث الروح المندحرة لا تعود تتبين الفضيلة من الجريمة حتى يأخذ كل منهما وجهة الثأر الرهيب!
ليست الثورة إلا ساحات الحرب، حيث يتلاحم حقان مهضومان ويعثران بالوقت والزمان، ويعتقد كل حق منهما أنه يثأر للسماء بدفاعه عن الغرور، غير مبصر في الأسباب إلا أشباح الانتقام وأخيلة الذنوب، ثم يتسلح بحق ملطخ بالدم ويأخذ بالتدمير وإضرام النار! ما العمل؟ والإرادة لا تؤثر إلا الجرائم؟ أمن الواجب أن يندحر السلام ويفسح مجالا للشرور؟ أمن الواجب أن تطارد الفحشاء بسلاح الفحش؟
المدرسة الإكليريكية في 2 آذار سنة 1793
يا للأسف! ماذا حل بأمي وشقيقتي؟ ماذا جرى لهما بين تلك العواصف المنقضة؟ ماذا حدث لذلك المقر العذب، مقر السلام، والصلوات، والإيمان؟ هل أحرقته الأراجيف، وطاردت فيه العناية الإلهية والسكون اللطيف؟ فهربت والدتي وشقيقتي وهامتا على نفسهما في مجاهل الغابات والأحراج! آه! إني لأشعر أمام تلك المشاهد المخيفة بأن المبدع الخالق يستطيع وحده أن يعطي الغفران لذنوب الإنسانية، وإذا لم أحطم قلبي بين أيدي الله لدافع يدفعني إلى الانتقام المقدس، سأقف نفسي لمعاقبة هؤلاء الجلادين، وأحمل في كلتا يدي خنجرين أذهب بهما إلى مقر حداثتي حيث أثأر لكل ذرة من ذراته!
المدرسة الإكليريكية، في 6 آذار سنة 1793
عفوا يا إلهي وغفرا، لا يقدر على الانتقام إلا جلالك العظيم! آه! إني لألقي سلاحي على قدميك، فلتقع تلك الذنوب والجرائم على هامة الوقت وليس على رءوسهم.
المدرسة الإكليريكية، في 8 آذار سنة 1793
ناپیژندل شوی مخ