94

جينوسايد

جينوسايد: الأرض والعرق والتاريخ

ژانرونه

الفصل الثالث والثلاثون

معسكر أوشفيتز - بولندا 1945م

قبل الغروب وصل الجنود مع أحد الضباط، تفحصوا المكان، لم تبق أي جثة، كلها تحولت إلى رماد، أثنى على ما قام به آفيرام بإكماله المهمة، كان الذي يقوم بهذه العملية يحصل على كابونات إضافية، كل كابونة يمكن فيها طلب وجبة إضافية من الطعام أو سجائر بعدد محدد، وكانت تلك هبة عظيمة لدى المعتقلين في المعسكر. كان مايكل متكئا على جدار الثكنة القريبة لا يقوى على الوقوف على قدميه وقد طأطأ رأسه ويصدر نحيبا من شدة البكاء، فتوجه نحوه الضابط غاضبا وضربه بسوط على كتفه: هيا قم أيها الخنزير!

لم يشعر بأي ألم من ضربة السوط وكأن جسده مخدر، حاول آفيرام إدراك الموقف. - اعذره يا سيدي؛ فقد كان أخوه من بين الجثث التي حرقناها. - أخوه؟! - نعم يا سيدي.

يبدو أنه تأثر بالموقف، فأمر الجنود بتحويله إلى المشفى والاعتناء به في تصرف أذهل الجميع حتى مايكل رفع رأسه وعيناه غارقتان بالدموع غير مصدق بما سمع، ثم أمر البقية بالعودة إلى أوشفيتز في العربة المخصصة لنقلهم.

مكث مايكل في المشفى عدة أيام لا يقوى على الحركة، ولا يشتهي الأكل رغم ألم الجوع الشديد الذي كان يشعر به، كلما أغمض عينيه رأى وجه ديفيد المزرق وعظام وجنتيه البارزتين من الشحوب وبرودة يديه عندما سحبه من فوق الجثث، وكأن تلك الصورة قد التصقت على جفنه من الداخل.

رأى في الحلم ذات ليلة أنه في بيتهم بميونخ جالسا على الأريكة قرب جهاز الراديو وأمامه ديفيد وسارة يحدقان به، وهو منشغل بسماع ما تذيعه المحطة النازية المحرضة على اليهود غير منتبه لهما، فجأة اقتربا نحوه وعيناهما مفتوحتان بالكامل اقتربا كثيرا وهو يحاول دفعهما عنه والصراخ ومناداة أمه لكنها كانت تسمع ولا تبالي، بعدها اختفت أجسادهما ولم يبق منهما سوى حدقات العيون، وهي ما زالت تكبر وتقترب أكثر فأكثر حتى دخلتا في عينيه، ولم يشعر إلا أنه فزع من النوم بصراخ جلب الممرضة المناوبة من الردهة المجاورة إليه.

ظل هذا الكابوس يلازمه فترة طويلة حتى بعدما رأف بحاله الضابط النازي «آرنست» للعمل في بيته نهارا والعودة إلى المعسكر في الليل، ومع مرور الوقت أصبحت حالته الصحية أفضل من بقية المعتقلين، أما حالته النفسية فبقيت منهارة، قبل حادثة حرق جثة ديفيد كان يحلم بالحصول على رغيف خبز مع صحن من الأرز أو حتى وعاء حساء كبير مع عدد حبات بازيلا أكثر، أما الآن فالأطعمة أصبحت متوفرة أمامه، والضابط يحسن معاملته، لكنه فقد شهيته بالحياة.

كان في الليل يحدث روبرت عن منزل الضابط الواسع والأدوات المنزلية الفخمة والأطعمة المتنوعة التي يتم تحضيرها في المطبخ، وعن الحياة المرفهة التي يعيشها مع زوجته الحسناء «تريسا» التي كانت تشمئز من وجود مايكل في بيتها لكنها لا تستطيع منع زوجها من أي شيء يريده، مع توءميهما «ويلدا» و«فاندا» ذواتي العيون الزرقاء كأنها تعكس لون السماء الصافية في الشتاء، والشعر الذهبي المتموج واللامع .. بريئتان إلى الحد الذي لا تظن أن أباهما ضابط في أبشع منظومة أباحت أرواح الأبرياء واستخدمتهم كعبيد لتنفيذ مصالحها. - براءة الطفولة لا تعرف الكراهية والحقد يا مايكل، لكن عندما تكبران ستغيرهما البيئة المحرضة والكراهية المقيتة للآخرين، سيضحكون عليهما بعرقهما النقي .. حينها تدفن كل هذه البراءة وترحل بلا عودة .. ويظهر الوجه النازي المنزوع الرحمة بدلا عنها. - ربما أنك محق، لكن أليس من الجرم أن تتحول كل هذه البراءة إلى البشاعة النازية؟! - كلهم كانوا بريئين في طفولتهم .. وأصبحوا مجرمين عندما كبروا، دعنا منهم ومن براءتهم وأطفالهم سفاحي المستقبل، وأخبرني إذا طلبت منك شيئا أتستطيع جلبه لي من بيته؟ - لا يمكنني جلب شيء أو أخذ شيء؛ لأنهم يفتشونني جيدا عندما يتم نقلي إلى بيته وحين عودتي منه .. ماذا كنت تريد؟ - لا شيء انس الأمر. - أخبرني، ماذا تخسر؟ - كنت أشتهي بعض الأطعمة التي لم أذقها منذ زمن، حلوى، فطائر، فواكه أي شيء غير هذا الحساء ذي الرائحة الكريهة والخبز المتعفن. - ليتني أستطيع يا صديقي، ليتني. •••

في أحد الأيام عاد السيد آرنست إلى المنزل بسيارته العسكرية مع مرافقيه، محمر الوجه يبدو عليه الخوف والتوتر الشديد، كان مايكل في الباحة تحت شجرة الصنوبر يصنع أرجوحة لويلدا وفاندا من الحبل وإطار سيارة قديمة، وهما حول مايكل تراقبانه بشغف كبير والابتسامة تعلو شفاههما الجميلة، دفع الباب الرئيسي للمنزل بقوة لم يعر مايكل انتباها للصوت أكمل عمله، لكن فكره كان منشغلا ويتساءل ما الذي حصل؟ هل تم نقله أم أنه قد عوقب؟ وجهه لا يسر.

ناپیژندل شوی مخ