جينوسايد
جينوسايد: الأرض والعرق والتاريخ
ژانرونه
سكت برهة، ضرب عكازه بالأرض ضربة خفيفة وقال: الأوغاد أرادوا قتله، لكن الله نجاه لصدق سريرته، كنت يومها مع مجموعة من الحرس خرجنا لحماية موكب السلطان لتأدية صلاة الجمعة في مسجد «يلدز»، كان الناس سيحيونه عند خروجه كالعادة، لأجل ذلك تطلب منا الخروج معهم وإبعاد الناس من أمام موكبه، كنت في باحة المسجد ذي الشكل المستطيل، أتأمل مئذنته ذات الشرفة، المصممة بطراز عمارة المقرنص، وهي محززة حتى القمة؛ إذ إن العمارة العثمانية كانت تراعي التسلسل التاريخي للحكم الإسلامي، فترى في الأعلى التقوس الأموي يدنوه التقوس العباسي ومن ثم اللمسة النهائية على الطراز العثماني، وكانت قبته المذهلة مثبتة على أربعة أعمدة حديدية سميكة، ومزينة ومنقوشة بالنجوم على أرضية زرقاء.
كانت الأمور تسير على ما يرام، صوت الخطيب يصدح من الداخل، وأصوات خرير المياه تأتي من أماكن الوضوء، انتهت الصلاة، بدأ المصلون يخرجون، فتجهز سائق عربة السلطان وفتح الناس الطريق، تأخر السلطان بالخروج من حرم المسجد على غير عادته، يبدو أنه انشغل لسماع مظلمة أحد أو سار في حديث مع أحد المشايخ الحاضرين، في هذه الأثناء حصل دوي انفجار في الباحة لم أسمع مثله قط، وقعت أرضا لا أشعر بشيء إلا بسائل دافئ يخرج من بطني، هاجت الناس وماجت وتناثرت الأشلاء وتطايرت عظام الحصان الذي انفجرت القنبلة الموقوتة بقربه، بدت الرؤية تضمحل شيئا فشيئا، وبدأت أشعر ببرودة تسري في داخلي حتى أغشي علي، ولم أفتح عيني إلا في المشفى. تعرضت لإصابات خطيرة ومكثت على السرير شهرا كاملا، أخبرني الطبيب أنني لن أستطيع العودة للعمل كحارس من جديد؛ فالوقوف لمدة طويلة يؤثر على صحتي.
بعد شفائي من الإصابة، عرض علي وظائف أخرى لا تتطلب جهدا كبيرا وقد أوصى بنا السلطان بنفسه وأمر بأن يتم تلبية طلباتنا كلها وتعويضنا بمبلغ كبير وفاء لنا للسلطان والدولة، لم أستطع البقاء في الآستانة أكثر، بعد الحادثة تغير كل شيء، انتباني شعور قوي بالعودة إلى القدس، لا أدري ما حصل لي وتغير تفكيري وحبي في البقاء داخل القصر ونعيمه، شعرت أن الجرح لم يبرأ وأن موتي اقترب، فقلت أكون بقرب الأقصى علني أدفن بقربه إن مت، لكن العمر طال بي حتى أرذله، طلبت العمل في متصرفية القدس، ودعت أبي وأخي وتوجهت إلى هنا.
الفصل السابع والعشرون
معسكر أوشفيتز - بولندا 1942م
كانت البرودة تتسلل إلى جوفه شيئا فشيئا، بعدما تجمد جسده من الخارج وبات لا يستطيع تحريك أطرافه من شدة البرد، نزعوا ثيابه وقيدوا يديه وقدميه بالسلاسل الحديدية، ثم رموه في الساحة قرب الباب الرئيسي للغيتو تحت المطر والرياح الشمالية العاتية. كانت تلك عقوبة ما ألحقه مايكل بذلك الخنزير اللعين الذي اعتدى على أمه، بقي كالجثة الهامدة ينظر إلى السماء ودموعه تذرف دون إرادة، وتختلط مع قطرات المطر المنهمرة على وجهه، كان يقول في نفسه: يا إلهي، ما هو الذنب العظيم الذي اقترفته في حياتي حتى تحل كل هذه المصائب على رأسي. انتزع هذه الروح الشقية من جسدي وأرحني يا إلهي، أرحني منها إلى الأبد .. أرحني من هذا الشقاء.
مرت تلك الليلة كأنها دهر. ومع بزوغ الفجر وتغاريد العصافير القادمة من أعلى السور، ركله الحارس الذي مضى ليلته معه ينظر إليه من محرسه الدافئ بين الفينة والأخرى على بطنه الفارغ منذ البارحة حتى قطع أنفاسه، وراح يضحك ويبتعد وهو يقول: «إنها هدية الوداع أيها القذر.» أتى زميله في الحراسة مزهوا قد نام ليلته كلها ليأخذ مكان الأول، حمله من ياقته وأجلسه. - ما الحقارة التي فعلتها أيها القذر؟ - هل لديك أم؟
صفع مايكل وقال ما لك ولها، سألتك فأجبني ما هي جريمتك؟ - ماذا تفعل لو رأيت أحدهم يعتدي عليها؟ - هل اعتدى أحدهم على أمك؟
أومأ مايكل برأسه. - ماذا فعلت به؟ - أدميته، حتى فقد وعيه.
ترك ياقته وبقي صامتا ينظر في وجه مايكل، ثم توجه إلى محرسه، جلب نصف رغيف خبز ملفوف على قطعة جبن وكوب ماء، التفت يمينة ويسرة فلم ير أحدا، أطعم مايكل بيده وسقاه على عجل ثم ربت على كتفه مع ابتسامة صغيرة. - أحسنت صنعا.
ناپیژندل شوی مخ