116

جينوسايد

جينوسايد: الأرض والعرق والتاريخ

ژانرونه

الجود يفقر والإقدام قتال

ربت أبو عثمان على كتف حسن وقال: نعم الفقر الذي يأتي من الجود يا بني.

الفصل الخامس والأربعون

القدس - فلسطين 1947م

الخوف خيم على المدينة العريقة التي تمتد إلى جذور التاريخ وارتسم على وجوه سكانها، وتحولت الأحياء إلى غيتوات بعد حوادث القتل الفردية والمناوشات بين العرب واليهود، وقلت حركة الناس في الأسواق وخارج المدينة، وارتفعت الأسعار إلى الضعف، واتجه الأهالي إلى التزود بالمؤن تحسبا لأي طارئ، وكأن ملامح حرب قادمة تلوح في الأفق؛ لأن البريطانيين يلمحون بالانسحاب من الساحة، ولا بد لنهاية الانتداب من معركة مصيرية.

ضغط مايكل زر الراديو، ثم اتكأ على الأريكة الخشبية كما كان يفعل في ميونخ، كانت الأخبار باللغة العربية والمذيع ينطق الكلمات بمخارج حروف متقنة وبصوت جهوري: «هذا وقد حصلت اشتباكات عنيفة في مدخل حي قطمون جنوبي القدس بين الثوار والعصابات الصهيونية المجرمة، مما أدى إلى مقتل اثنين منهم وجرح ثلاثة آخرين، إلى أن تدخلت القوات البريطانية إلى جانبهم وانسحب الثوار دون خسائر تذكر.» لم تكن تلك الأخبار سارة بالنسبة له، شعر بضيق شديد، ثم أقبل إليه بنيامين وهو يبتسم: - يا لكذبهم! لقد كنت في الاشتباك ولم يقتلوا منا أحدا غير إصابات طفيفة. - بدأت الأوضاع تتأزم هنا كثيرا يا بنيامين، أحيانا أفكر في ترك هذه البلاد، إن الأجواء تذكرني بأيام ما قبل الحرب العالمية الثانية، لقد تعبت من الحروب والقتال، ألا تسع الأرض الجميع؟ - المسألة ليست بهذه البساطة، إنها أرضنا وفيها كان هيكلنا، أرض الميعاد ونهاية الشتات، هنا حكمنا أربعة قرون، وكانت لنا وستعود لنا وحدنا بوعد الله لإبراهيم «لنسلك أعطي هذه الأرض»، ولم يكن ليعده بذلك لو لم نكن شعبه المختار لنكون بعدها أسيادا على باقي البشر. - كلامك يذكرني بالنازية والعرق الآري وسيادة الإنسان الأعلى الذي يخصهم دون غيرهم!

قطب بنيامين حاجبيه وأظهر انزعاجه من كلام مايكل الذي شبههم بالنازية. - أعلم أن الكلام لم يرق لك، لكن كل الشعوب تظن أنها شعب الله المختار، والله في الحقيقة لا يعترف بالشعوب، بل بالأفراد، بكل إنسان وما يفعل من خير وشر دون النظر إلى قومه وشعبه وحتى دينه إن كان يؤمن به.

رد عليه بنيامين: إذن كل واحد منا «فرد الله المختار».

هز مايكل رأسه يائسا. - دع الله في شأنه وأخبرني هل صحيح ما يشاع أن البريطانيين قد عزموا الرحيل؟ - يبدو ذلك. - ويتركونا وحدنا أمام العرب؟! - لن يتركونا وحدنا، بل نهاية الانتداب تعني بدايتنا. - لم أفهم. - حلم هرتزل سيتحقق. - أي حلم؟ ومن يكون هرتزل هذا؟ - يهودي ولا تعرف هرتزل! إن خنقتك بيدي هاتين من سيعاتبني؟! - لا يعاتبك أحد، لكن لو قضيت يوما واحدا في معسكرات النازية لنسيت أنك إنسان أصلا ولك اهتمامات معرفية أو ثقافية، هيا أخبرني ماذا كانت خطته؟ - حسنا .. قبل خمسين عاما كتب هرتزل خطة اقتصادية كاملة لكيفية إقامة دولة يهودية هنا على هذه الأرض على شكل كتاب صغير، حينها كانت هذه المنطقة بأسرها تحت الحكم العثماني، ولم يسمح العثمانيون بتمليك الأراضي لليهود فيها، فحاول إقناع السلطان ببيع أراض لليهود مقابل سد ديون الدولة العثمانية، لكن السلطان رفض عرضه وطرده. بعدها بسنوات مات هرتزل بعمر ناهز ال 44 سنة. - مات صغيرا! - لكن فكرته عاشت طويلا، وستعيش إلى الأبد. - ماذا كانت خطته؟ - لو سألتك لم تأخرت الرحيل من ألمانيا، لقلت إنك كنت تأمل في تحسن الأوضاع والبقاء هناك. - ربما. - هذا وأنت من عائلة متوسطة الدخل، فكيف يمكن إقناع اليهود أصحاب رءوس الأموال الكبيرة بترك تلك البلاد التي ألفوها وأسسوا فيها حياتهم وتجارتهم ثم دعوتهم للمجيء إلى أراض مقفرة لا حياة فيها؟ بالتأكيد لن يتركوا حياتهم هناك. - كلام منطقي، لكن أين الخطة؟ - ببساطة كانت خطته تقول: «في بداية الأمر يهاجر الفلاحون اليهود من أصحاب الدخل المحدود وصغار الكسبة والحرفيين إلى فلسطين بسهولة إذا ما تم توفير الأراضي وفرص العمل لهم، مقابل الحصول على أجور تكفيهم للمعيشة .. هؤلاء يعبدون الطريق أمام أصحاب الدخل المتوسط من التجار والمستثمرين؛ لأن العمال والفلاحين يكونون نواة لفتح الأسواق التجارية، وهؤلاء التجار يلبون متطلباتهم واحتياجاتهم .. وهؤلاء التجار أيضا يجلبون رءوس الأموال الكبيرة والمستثمرين الكبار إليها، وهكذا بالتدريج تتحول أرض قاحلة إلى مركز تجاري كبير، في حين لا يمكنك إقناع أي تاجر كبير أو صغير بالهجرة إلى أرض لا حياة فيها .. إذن البداية بالفلاحين وصغار الكسبة، والنهاية مركز تجاري ضخم ينافس فيه التجار على مستوى دولي .. وهذه صلب فكرته الاقتصادية.»

ساد صمت بينهما، كان مايكل يفكر بما سمع وهو يتأمل السماء الملبدة بالغيوم من خلال نافذة الغرفة، ثم أطرق قائلا: أظن أن الخطة تصلح في مكان آمن، وتلك هي فكرته لما أراد أن يشتري أراضي من السلطان بشكل رسمي ولم يرد الدخول في صراع مع الفلسطينيين هنا، أما وقد حصل ما حصل لا أظن أن الفكرة قابلة للتطبيق الآن.

ناپیژندل شوی مخ