جينوسايد
جينوسايد: الأرض والعرق والتاريخ
ژانرونه
قالها وعيناه تبرقان من الأسى. - لا أعتقد المختار قادرا على الحركة بسبب المرض، من المؤكد أنه بقي في القرية. - وتركتم المختار وحده أيها الجبناء؟!
طأطأ رأسه بوغوز ولم يجب، أدار أرتين وجهه للبقية فصدوا وجوههم عنه خجلا من موقفهم. - لقد دخلوا القرية على حين غفلة منا، كانوا كثرا يا أرتين لم نستطع مجابهتهم، يجب أن نسرع إلى وان، العثمانيون في تقدم مستمر وسيصلون هنا في أية لحظة.
كانت الثورة العمالية على سلطة القيصر الروسي «نيكولاس الثاني» في بدايتها، اضطر القيصر الروسي إلى سحب قواته من الغرب لإخماد الثورة الشعبية التي ضاقت ذرعا من سياسات القيصر في زج أبنائهم بالحروب، والأوضاع المعيشية الصعبة التي يقاسونها من جرائها. ومع بدء انسحاب القوات الروسية نحو الشرق هاجر عشرات الآلاف من الأرمن معهم إلى داخل الأراضي الروسية وراء الحدود القديمة خشية الانتقام العثماني. استغلت القوات العثمانية الانسحاب الروسي بالتقدم نحو الأراضي التي فقدوها، وبدأت القرى الأرمنية تسقط تباعا تحت سيطرتهم.
على امتداد طول طريق العودة كان أرتين كمن فقد كل شيء يثبته بالحياة، شعر لأول مرة أن أباه كان على صواب عندما كان يمنعهم من الثوار، لكن لم يستطع إظهار ذلك الشعور المميت في داخله، رفع رأسه ونظر يمنة ويسرة تأمل وجوه الهاربين نحو بر الأمان وهم يتركون وراءهم الأرض التي قاتلوا من أجلها سنين خلت، وتساءل هل تلك الفترة القصيرة تحت حكمنا كانت تستحق منا كل ذلك القتال والدماء التي أريقت من أجلها! عشرون سنة من القتال وهذه هي النهاية المنتظرة!
عند مدخل وان كان بعض المقاتلين يحفرون الخنادق حول المدينة تحضيرا للقتال، وآخرون يتدربون ويستعدون للمعركة المرتقبة، كان أرتين يتفحص البيوت والأزقة كالأب الذي ينظر إلى وجوه أولاده وهو يحتضر، نظرة مليئة بالألم والشوق قبل الفراق. ثم كان لا بد من وداع طويل على قبر بانوس الذي لربما ستطول زيارته له في المرة المقبلة أو لربما هي ستكون الأخيرة، جلس قرب شاهد قبره وقال بصوت يملؤه الأسى: «بانوس يا صديق الدرب، ها نحن اليوم نمر بأخطر أيام تاريخ شعبنا، لقد قاتلت قتال الأبطال، وفديت بنفسك وأهلك في سبيل أن تحيا أمتنا، ورويت بدمائك الزكية أرضنا الطاهرة، أعدك إن بقي في العمر المزيد أن أخلد ذكرك بين أبنائنا وأحفادنا إلى الأبد، ارقد بسلام يا صديقي، ارقد بسلام أنت وأهلك.» ثم قبل الصليب الذي كان يتدلى من رقبته، ومضى إلى المدينة.
جنود مشاة وخيالة وأعلام حمراء وسوداء ترفرف على مشارف مدينة وان، والعثمانيون يحملون الشر في أعينهم والثأر في قلوبهم، ثأر الخيانة العظمى للدولة العليا، أي مصير أسود ينتظركم أيها الأرمن؟! كانت الغربان تجوب سماء المدينة وتصدر صوت نعيقها، وتنذر بشؤم ما سيحصل بعد حين. ثم بدأت المدفعية بالقصف كعادة استراتيجيات الجيوش قبل اجتياح أية مدينة. ومن حسن حظ الثوار الأرمن كان الروس قد تركوا خلفهم عددا من مدفعياتهم التي فاجئوا بها العثمانيين، واستطاعوا تأخير تقدمهم لعدة أيام، كانت الروح الحماسية بين المقاتلين عالية، فلا خيار أمامهم، إما النصر أو الاستشهاد في سبيل الأرض، حتى بعض الفتيات والنساء الأرمن أبين الرحيل من المدينة وبقين لتحضير الطعام للمقاتلين وإسعاف الجرحى، استبسل الجميع حينها وفقدوا الكثير من القتلى جراء القصف. كانت تمر أوقات هدوء بين الطرفين من النهار أو الليل، ثم تعاود أصوات الطلقات والمدفعيات عزف سيمفونية الموت في الهواء الطلق وتحت أنقاض البيوت.
استمرت المعركة قرابة شهر كامل ولم تستطع القوات العثمانية دخول المدينة، إلا حينما شعر الثوار أن الأسلحة لا تكفي لمدة أطول، حينها انسحبوا تدريجيا نحو ساراي تاركين خلفهم مجموعات فدائية لتعيق التقدم السريع للعثمانيين، لم يمتلكوا خطوط إمداد بالأسلحة، وكذلك لم يكن بمقدورهم الصمود أكثر أمامهم، وبالأخص بعدما حصلت حالات فرار بعض المقاتلين من المعركة فأثرت على معنويات الباقين، وعندما كثرت هذه الأفعال الفردية لبعض المقاتلين أصدر «مانوكيان» أوامر بقتل كل من يفر من أرض المعركة دون أوامر بالانسحاب من قادة الوحدات المقاتلة، وإن فر قائد الوحدة يقتل من قبل الجنود، لكن كل هذه القرارات كانت غير مجدية أمام الاجتياح العثماني المدجج بالأسلحة المتطورة التي حصلوا عليها من حلفائهم الألمان.
ولم يمض الوقت الطويل حتى أدركوا أن زحف القوات العثمانية اقترب من بلدة ساراي عندما شاهدوا جنود استطلاع الجيش العثماني على أحصنتهم يجوبون بعيدا، لم تكن لدى مقاتليهم الروح المعنوية العالية للقتال بوجود مجموعة كبيرة من الجرحى الذين لا بد من نقلهم بعيدا حتى لا يقعوا لقمة سائغة لدى الأعداء، وآخرون قد خارت قواهم وانهارت معنوياتهم من كثرة الهزائم التي ألحقها بهم العثمانيون، فنتجت هذه الأسباب عدم إطالة مقاومتهم لهم حتى فر الجميع وتشتت المقاتلون، كل يريد إنقاذ نفسه، حتى إن بعضهم قد ألقى سلاحه وفر هاربا بحصانه نحو الحدود الروسية. - غريغور لا بد من العودة إلى القرية، لقد بقي أبي وأمي هناك، وإخوتي لا أعلم ما الذي جرى لهم، سأصل إليهم مهما كلفني الأمر. - أجننت؟! كيف يمكننا العودة ونحن ملاحقان من قبلهم، سيقطعوننا إربا إن حظوا بنا. - لم أعد أخشى شيئا، إن كنت لا تريد المجيء فلا تحملني ذنبا آخر كما أشعر تجاه بانوس. - لم أرفض فكرتك، لكن كيف يمكننا الوصول إليهم؟
نظر إليه وهو يفكر في سؤاله: لا بد من طريقة توصلنا إليهم.
في الطريق نحو الحدود الإيرانية مروا بقرية خاوية على عروشها كانت تبدو أنها قرية كردية تم إحراق بيوتها وقتل أهلها أثناء الاجتياح الروسي، دخلا البيوت بحثا عما يسد الرمق، فالجوع قد أخذ منهما مأخذه، وبينما أرتين يجوب غرف أحد البيوت الذي لم يحترق بالكامل وجد صندوقا خشبيا مقفلا، كسر القفل وإذا به ممتلئ بالملابس الكردية، نادى غريغور بأعلى صوته. - لقد وجدتها، وجدتها.
ناپیژندل شوی مخ