فقطع عليه الكلام قائلا: «أحق ما تقول، ومن أين علمت هذا؟»
قال: «نعم، إنك سترتقي إلى مركز أحسن في نظارة الداخلية، وقد علمت ذلك من ثقة، فكن مطمئنا، وإن غدا لناظره قريب، فلا تبتئس ولا تجزع.»
قال حبيب وقد انبسط وجهه: «حقق الله الآمال يا عزيزي، والله إنك لوجه السعد، ولولا مجيئك لكنت أصبت بمرض لفرط قلقي وهواجسي، وإني لأشكر لك صدق مودتك وأحمد الله على ما بشرتني به.»
فقال سليم: «إن الله هو الرزاق، وهو سبحانه واسع الفضل والرحمة. وهب أنك خرجت من خدمة الحكومة، فالأعمال الأخرى كثيرة وأبوابها مفتحة لمثلك.»
قال: «نعم، لله الحمد على كل حال، وهو لا ينسى أحدا من خلقه. وإنما أهمني أن من يترك خدمة الحكومة نادرا ما يوفق في غيرها، وليس هذا لقلة الأعمال الأخرى ولكن لتعوده الراحة وتقاعده عن اكتساب ما يؤهله لسواها، ولقد مرت بذاكرتي هذه الليلة سيرة حياتي الماضية فندمت ندما لا مزيد عليه لأني لم أعمل بمشورة أبي - رحمة الله عليه - وأتعاطى التجارة معه، ولو أني أطعته لكنت في غنى عن هذا الارتباك، ولكن ما قدر كان.» •••
مضى الصديقان يتجاذبان أطراف الحديث، وقد زايل حبيبا تردده وارتباكه وأخذ يمتع نظره بما حوله من المناظر. ثم قال لسليم: «ترى ما الذي جاء بك إلى هنا الليلة، تاركا مشاهدة خطيبتك المحبوبة؟ أم لعلك تسر بمشاهدة هذه الأنوار وتأنس بهذا الازدحام أكثر من سرورك وأنسك بمشاهدة عروسك المقبلة؟»
فعلا وجه سليم الاحمرار لتذكره خطيبته وما يقاسي من أجلها، ولكنه حاول إخفاء عواطفه وهواجسه فسكت برهة وحبيب يراقب حركاته كأنه يريد استطلاع مكنونات قلبه، لعلمه بما هناك من روابط المحبة بينه وبين خطيبته. ثم قال سليم محاولا إخفاء ما في ضميره: «لقد قضيت معها فترة قصيرة أول هذه الليلة، ثم رأيتها في حاجة إلى الرقاد فتركتها لتمضي إلى فراشها وجئت أقضي بقية السهرة في هذه الحديقة.»
فلم يقتنع حبيب بذلك، ولكنه أظهر الاقتناع به على أن يستطلع حقيقة الأمر بنفسه في الغد، ثم لاحظ على سليم أنه عاد إلى الصمت وقد علت أسرته الكآبة وبدا عليه الاضطراب، فقال له مبتسما: «أرى صديقي قد وقع فيما كنت فيه؟ فهل ترى ذلك خوف الفصل من الخدمة أيضا؟»
فعلا وجه سليم الاحمرار، وحاول التكلم لكنه تلجلج وعاد إلى الصمت، ولم يشأ حبيب أن يلح عليه في السؤال حتى لا يجرح عواطفه أو يحرجه. وكانت الموسيقى قد انتهت من العزف فوقف وقال لصديقه: «ألا توافقني على أن نتمشى في الحديقة قليلا لنتمتع بمناظرها؟»
فوقف سليم وهو يحاول عبثا إخفاء عواطفه، وحبيب يتجاهل أمره ويحدثه في أمور مختلفة تتعلق بالزينة وبهرجها واشتغال الناس بها؛ تسكينا لما لاحظه عليه من حدة القلق، وإن كان شديد الميل إلى معرفة قلقه وانقباضه.
ناپیژندل شوی مخ