أخذ سليم يقلب صفحات الرواية، وفكره مشغول بسفر حبيب إلى القاهرة على غير انتظار، وفيما هو في ذلك وقعت عينه على ورقة مطوية بين الصفحات، وما كاد يتأملها حتى لاحظ أنها مكتوبة بخط يشبه خط سلمى، فازداد اشتعال نار الغيرة في قلبه، وتصور حبيبا جالسا مع سلمى يتبادلان أحاديث الحب والهيام، فندم على مجيئه إلى منزله. ثم أخذ يقرأ ما في الورقة، وهو يختلس النظر إلى باب الغرفة محاذرا أن يراه أحد وهو يقرؤها، فإذا بها حافلة بعبارات الحب والاشتياق والصبابة؛ فلم يبق لديه شك في خيانة سلمى وحبيب، وتحقق صحة ما سمعه عنهما من داود، فاشتد خفقان قلبه، وأخذ ينتفض في سريره كأنما عاودته الحمى. ثم لم يتمالك عواطفه فقفز من السرير ثائرا، وأخذ يخطر في جوانب الغرفة قلقا حائرا مضطربا، والورقة في يده يعاود قراءتها ويناجي نفسه قائلا: «تبا لها من خائنة ماكرة محتالة! بل تبا لي من مغفل ساذج إذ انطلت علي حيلتها فاعتقدت أنها ملاك طاهر، في حين أنها ليست سوى شيطان رجيم!»
وسكت قليلا إذ سمع وقد أقدام خارج الغرفة، فلما ابتعدت الأقدام، استأنف مناجاته لنفسه قائلا: «أهذه هي المحبة الطاهرة التي كانت تستحلفني بها؟ أهذا جزاء إخلاصي ووفائي وعقوقي لوالدتي في سبيل حبك يا سلمى؟ لقد طالما كذبت ما سمعته عنك، وعاينت في ذلك ما لا طاقة به لقلبي؛ حرصا على مودتك، وإيمانا بطهارتك وعفتك ووفائك. ولكن آه! ها أنا ذا الآن قد تحققت صحة اتهامك، ولمست خيانتك، وإني لأشكر الظروف التي هيأت لي الوقوف على ذلك، لأنبذك نبذ النواة يا خائنة.»
ثم عاد إلى تأمل الورقة، فلاحظ اختلافا يسيرا بين خطها وخط سلمى، لكنه هز رأسه مستخفا بهذه الملاحظة، وعاد يقول: «إنه خطها ما في ذلك شك، ولكنها كتبت هذه الورقة منذ عهد بعيد؛ أي إن حبها الآثم لحبيب ليس جديدا، وقد استطاعا خداعي والتمويه علي كل هذا العهد الطويل. على أني لا ألومه بقدر ما ألومها على ذلك؛ لأني ملكتها قلبي ووهبتها روحي وأغضبت لأجلها والدتي المسكينة ... آه يا والدتي! أين أنت الآن؟ ألا رحماك بولدك المسكين، واصفحي عنه، فقد كفى ما لقيه من الحزن والمرض وخيبة الآمال؛ جزاء عقوقه لك، وركونه إلى وعود فتاة خادعة محتالة، وإلى نفاق عدو في ثياب صديق!»
ولاح له أن يبادر بارتداء ثيابه ويغادر المنزل فورا ليستقل القطار إلى القاهرة، ثم يستأنف السفر منها إلى الإسكندرية حيث يقابل والدته ويقبل يديها مستغفرا نادما. لكنه شعر بأنه في حالة من المرض والتعب لا يقوى معها على السفر، وقد تعاوده الحمى وهو في الطريق فيحدث ما لا تحمد عقباه، فلم يتمالك نفسه واستلقى على السرير آخذا في البكاء لفرط يأسه وغيظه وأساه.
وفيما هو كذلك، دخلت عليه والدة حبيب، وهي تحمل في يدها إناء فيه شيء من مرق اللحم أعدته له، فبالغ بالتدثر بالغطاء متظاهرا بأنه شعر بالبرد حتى لا تلاحظ عليه شيئا ينم عما هو فيه، فحسبته نائما ووقفت بإزاء السرير ثم أخذت تدعوه باسمه متلطفة، فمسح دموعه عن وجهه قبل أن يكشفه متظاهرا بالاستيقاظ من النوم، والتفت إليها وهو ما زال ممدا في الفراش، فقالت له: «لقد حان وقت الظهر يا ولدي، ويحسن أن تتناول قليلا من المرق.»
فقال لها: «شكرا لك يا سيدتي، لا حاجة لي بأي طعام الآن.»
فقالت: «إن الطبيب أشار بأن تتناول شيئا من المرق؛ لأنه يعاون على استرداد قواك.»
فاكتفى بأن أشار إليها بيده مصرا على الرفض، ولكنها لم تيأس من إقناعه، ووضعت الإناء الذي تحمله على المنضدة المجاورة للسرير، ثم انحنت عليه وأخذت تربت على وجهه متلطفة وقالت له في حنان: «إن المرق خفيف على المعدة، وسيفيدك تناوله فائدة كبرى بإذن الله.»
فتململ في مرقده ضجرا، ولم يتمالك نفسه فقال لها: «لماذا لم يعد حبيب حتى الآن؟ أليس اليوم يوم الجمعة ولا عمل له في القاهرة؟»
فقالت: «لقد أخبرني بأنه ذاهب في مهمة خاصة، ولعل بعض زملائه أخروه هناك كي يتغدى معهم، ولا يلبث أن يعود إلينا بعد قليل.»
ناپیژندل شوی مخ