وقضى معظم الطريق في مثل هذه الهواجس حتى وصل القطار إلى محطة حلوان فطوى الخطاب ووضعه في جيبه ونزل قاصدا منزله فإذا بوالدته لا تزال في انتظاره وقد استبطأته، فلما قرع جرس البابا نادته باسمه فأجابها ففتحت الباب واستقبلته سائلة عن سبب تأخره، فلفق لها عذرا قبلته. ثم سأل عن أخته فقالت له إنها في الفراش منذ وقت قصير؛ لأن أسرة الخواجة سعيد جاءت لزيارتهم عند العصر، ولم تعد إلى القاهرة إلا في القطار الأخير الذي غادر حلوان منذ قليل.
فلما سمع اسم تلك الأسرة، خفق قلبه بشدة لم يعهدها قبل ذلك، وسأل والدته: «وكيف حال الخواجة سعيد وأسرته؟»
فقالت: «هم جميعا بخير، وقد تناولوا العشاء هنا وسألوا عنك كثيرا، وقبل أن يبرحونا بالقطار الأخير اتفقنا على أن نسير معا يوم الجمعة القادم إلى أهرام الجيزة للتنزه، على أن تذهب شقيقتك شفيقة معنا؛ لأن الآنسة أدما ابنة الخواجة سعيد طلبت ذلك، وأنت تعلم مقدار حبها لشفيقة وحب شفيقة لها.»
وما طرق أذنه اسم أدما، حتى اشتد خفقان قلبه، وحدثته نفسه بأنها هي لا سواها صاحبة الخطاب الذي تسلمه، وكان اسمها قد تردد في أذنه وهو في القطار، لكنه تجلد وتمالك عواطفه ريثما تنكشف له الحقيقة، وإن شعر منذ تلك الساعة بميل شديد إلى تلك الفتاة، وود لو تكون هي مرسلة الخطاب إليه. ثم ودع والدته وذهب كل منهما إلى فراشه. لكنه لم يستطع الرقاد لشدة هواجسه فبقي فيه حينا دون أن ينام، ثم نهض ومضى إلى خزانة كتبه فأخرج منها كتابا وعاد إلى فراشه ليتلهى بمطالعته. وشعرت به شقيقته وهو يمر بغرفتها فسألته عن سبب نهوضه من الفراش فقال: «جئت لآخذ رواية أطالع فيها ريثما أنام.»
قال ذلك ودخل إلى سريره والشمعة مضيئة على مائدة بجانبه، وأخذ يقرأ في الكتاب. لكن عواطفه كانت لا تسمح له بالمضي في القراءة، فكان يخرج الخطاب من جيبه بين آونة وأخرى ويعيد قراءته.
وقضى في ذلك معظم الليل حتى كاد يطلع الفجر، وإذا بوالدته داخلة غرفته وقد عجبت لسهره إلى تلك الساعة، فلما شعر بدخولها عليه أخفى الخطاب في الكتاب وأغلقه. ولما سألته عن سبب سهره زعم لها أنه مغتبط بمطالعة إحدى الروايات ولم يشأ أن ينام قبل أن يتمها، فصدقته ومضت لشأنها. أما هو فأخذ الكتاب ووضعه في الخزانة وأغلقها ثم عاد إلى فراشه وقد أنهكه السهر والتعب فنام إلى أن حانت ساعة خروجه إلى عمله، فنهض وتناول قليلا من الشاي، ثم مضى إلى عمله.
سليم وسلمى
عاد سليم في العربة من شاطئ النيل وعيناه مبتلتان بالدموع وقد أخذ منه القلق كل مأخذ، واشتدت به لوعة الغرام، وكان يظن أن أمره ما زال مجهولا من كل إنسان على أنه كان يشعر أن كتمانه حبه مضر بصحته وعقله، ويود من صميم قلبه أن يلقى صديقا يبث إليه شكواه تخفيفا للوعته.
ولا بد من شكوى إلى ذي مروءة
يواسيك أو يؤسيك أو يتوجع
ناپیژندل شوی مخ