جوهر انسانيت
جوهر الإنسانية: سعي لا ينتهي وحراك لا يتوقف
ژانرونه
لا يضاهي ما نعرفه عن الحضارات التي نشأت في أمريكا الوسطى والجنوبية كم ما نعرفه عن الحضارات التي نشأت في آسيا وشمال أفريقيا وأوروبا. ربما كانت أقدم ثقافة هي ثقافة الأولمكيين، الذين سكنوا الشواطئ الشرقية للمكسيك بالقرب من فيرا كروز منذ 3 آلاف عام. هذا وتشهد رءوس ضخمة منحوتة باحتراف في صخور يصل وزنها إلى 30 طنا على مهارة الأولمكيين كحرفيين ومهندسين. يبعد الموقع في لافينتا، الموجود حاليا في وسط مستنقع بالقرب من الساحل، 100 ميل عن أقرب مصدر للحجارة. نحن لا نعرف كيف أمكنهم نقل مثل هذه الجلاميد، تماما كما لا نفهم كيف أحضر سكان جزيرة الفصح الرءوس المصنوعة من الحجارة - التي تشبه رءوس الأولمكيين في نواح معينة - إلى موقعها الحالي. يبدو أن الأولمكيين استخدموا القرابين البشرية - أقدم حالة سجلت في العالم الجديد - بأسلوب مروع للغاية؛ فقد عثر في هذه المنطقة على عظام طفل منزوع الذراعين والساقين ورأسه مقطوع، ويبدو أنه انتزع من رحم أمه، على النحو الذي ظهر في مسرحية ماكبث.
توجد على الأرجح أكبر وأقدم المستوطنات في أمريكا كلها في تيوتيهواكان، على بعد 35 ميلا شمال شرق مكسيكو سيتي. ربما كانت موطنا لما يصل إلى 200 ألف مواطن. ومثل المدن الأخرى التي نشأت في أمريكا الوسطى - شمالا في تولتيك، والأولمك على الساحل الشرقي والمايا في شبه جزيرة يوكاتان - تمركزت الحياة حول الساحات الاحتفالية التي ضمت أهرامات، بالإضافة إلى مناطق من أجل ممارسة الرياضة المفضلة؛ لعبة الكرة. كان ثمة نشاط تجاري واسع النطاق بين هذه المدن، وكانت ثقافة كل مجموعة من الأفراد الذين ذكرتهم متشابهة. كانت الأهرامات مدرجة، مثل الزقورات لدى السومريين والأهرامات البدائية للمصريين، لكنها كانت أصغر حجما. وكان يبنى معبد على قمة كل هرم، وتوضع أمامه تماثيل منحوتة مزخرفة. كانت المعابد تستخدم في الشعائر الدينية (ومنها القرابين البشرية) إجلالا للآلهة، التي كان زعيمهم كيتزالكواتل، الأفعى ذات الريش. وفي تيوتيهواكان يمكن للمرء تسلق المعبد المعاد بناؤه الذي كان مخصصا لكيتزالكواتل، بالإضافة إلى المعابد التي بنيت تعظيما للشمس والقمر. ظلت هذه المدينة لمدة ألف عام حتى نهبها أهالي تولتيك في عام 750 ميلاديا. أعيد اكتشاف بقاياها على يد الآزتيك في القرن الخامس عشر، قبل 100 عام من قدوم الإسبان. في هذا الوقت كان الآزتيك سادة معظم الأجزاء المأهولة بالسكان في أمريكا الوسطى. وأدخلوا كثيرا من الأشياء التي عثروا عليها في تيوتيهواكان في عاصمتهم، التي بنوها على جزيرة في مكان مرتفع على تلة في الجنوب؛ وأطلقوا عليها تينوتشتيتلان. وبعد هزيمتهم على يد هرناندو كورتيس في عام 1521، تم تجفيف البحيرة وأصبحت المنطقة موقعا للعاصمة الحالية؛ مكسيكو سيتي.
نشأت ثقافة رفيعة، هي ثقافة الزابوتيك، في هذه المنطقة التي أصبحت حاليا ولاية أواكساكا. وقد وصلت إلى أوج ازدهارها في الفترة بين 300 و900 ميلاديا (صورة 3)، وبعدها بدأت تضمحل. لم يمنع وصول الميكستيك إلى هذه المنطقة عملية التدهور، وكان مجتمع الزابوتيك في حالة تدهور حاد عند وصول الإسبان في القرن السادس عشر. هذا وقد نشأت واحدة من أكثر الثقافات تطورا في أمريكا؛ وهي ثقافة المايا، في يوكاتان التي تضم حاليا دول بليز وجواتيمالا وهندوراس، بالإضافة إلى أجزاء من المكسيك، ويشار عادة إلى المنطقة بأكملها التي تشمل يوكاتان ووسط المكسيك بوسط أمريكا. وصلت حضارة المايا، مثل حضارة الزابوتيك، إلى ذروة إنجازاتها في الفترة بين القرنين الرابع والثامن الميلاديين، لكنها كانت أكثر اتساعا؛ حيث وصل عدد سكانها إلى 16 مليونا. ومثل تدهور ثقافة الزابوتيك، انهارت ثقافة المايا، لأسباب ليست واضحة على الإطلاق،
18
عند وصول الفاتحين. ومع ذلك ظلت مجموعات صغيرة متفرقة من المتحدثين بلغة المايا على قيد الحياة، وما زال 4 ملايين من أحفادهم يتحدثون هذه اللغة في يومنا هذا. ويواصلون زراعة المحاصيل نفسها التي زرعها أجدادهم منذ 3500 سنة؛ الذرة (الذرة الصفراء)، والفاصولياء والقرع. وفي جنوب هذه المنطقة، حيث الأرض كثيرة التلال، كانت الزراعة تحدث عبر نظام ري وإنشاء مصاطب متطور. كان شعب المايا سادة الرصد الفلكي؛ فكان تقويمهم أكثر دقة من التقويم اليولياني الذي استحدثه يوليوس قيصر. كذلك بنوا معابد وأهرامات وقصورا وساحات للعب الكرة وميادين. تزين صروحهم النقوش الحجرية المتداخلة والنقوش البارزة، التي استمددنا منها كثيرا من معرفتنا بحضارة المايا. ولأن كثيرا من الصروح التي شيدها المايا أحدث من تلك الموجودة في مواقع في العالم القديم، لم تدفن مع مرور الزمن، ويوجد معظمها فوق سطح الأرض. بالإضافة إلى ذلك، حفظت بشكل جيد نسبيا كثير من المباني، مثل الموجودة في مدينة تشيتشن إيتزا وماتابان وبالينكي وأوشمال، رغم زحف نباتات الغابة بمجرد هجر البشر لها. استخدم المايا النحاس والذهب وصنعوا الورق، الذي وضعوه في كتب، من اللحاء الداخلي لشجرة التين البرية. ومن بين كل الحضارات التي نشأت في الأمريكتين، تعتبر حضارة المايا فريدة؛ فيبدو أنها الوحيدة التي أنتجت نصوصا مكتوبة. كانت نصوصا هيروغليفية، وفكت شفرتها إلى حد كبير، ونتيجة لها نعرف كثيرا عن المايا أكثر من أي ثقافة أخرى انهارت قبل مجيء الإسبان في القرن السادس عشر. (7) أمريكا الجنوبية
لم يكن ثمة تواصل كبير بين حضارة الإنكا، بعاصمتها كوزكو التي تقع على ارتفاع 11 ألف قدم فوق جبال الأنديز في بيرو، مع ثقافات أمريكا الوسطى، وثقافتهم متميزة عن ثقافة الأزتيك والمايا. يوجد وجه تشابه فقط في حقيقة أن حضارات الإنكا والآزتيك كانتا في أوج ازدهارهما عندما وصل الفاتحون في القرن السادس عشر. لم يكن الإنكا بالتأكيد أقدم حضارة في أمريكا الجنوبية. فكشفت عمليات التنقيب الحديثة على طول الخط الساحلي الجاف لبيرو مدينة من الأهرامات كانت عظيمة في السابق،
19
ويرجع تاريخها إلى 2600 قبل الميلاد؛ وهو من قبيل المصادفة الوقت ذاته الذي كان خوفو يبني فيه هرمه الأكبر في الجيزة. كانت ثمة مجتمعات مستقرة في أماكن أخرى؛ فعاش شعب التشافين في المرتفعات الشمالية الشرقية في بيرو منذ نحو 900 حتى 200 قبل الميلاد؛ بني في موقع تشافين دي هوانتار مجمع ضخم من المعابد متقن النحت. بعيدا في الجنوب على طول السهل الساحلي، على بعد 100 ميل جنوب مدينة ليما الحالية، ظهرت حضارة باراكاس بالتزامن مع حضارة تشافين بعيدا في الشمال؛ استمرت حضارتهم أكثر، حتى 400 ميلاديا تقريبا. كان الباراكاس يدفنون موتاهم في الأصل داخل الكهوف، وفي وقت لاحق أصبحوا يدفنون في جبانات مبنية خصوصا، وكانت الجثامين تلف في ملابس فاخرة، بعض منها ظل على حاله حتى يومنا هذا بسبب التربة الجافة. ومثل التشافين، صنع الباراكاس منسوجات مزخرفة للغاية، بالإضافة إلى أوان فخارية وأشياء مصنوعة من الذهب. ثمة شعب ساحلي آخر أقام ثقافة منذ نحو 200 حتى 600 ميلاديا، وهم الموشيكا في شمال بيرو. ويتمثل ميراثهم المتميز في مجموعة من المباني في موشي تضم بقايا أكبر مبنى شيد في أمريكا الجنوبية قبل مجيء كريستوفر كولومبوس، يسمى هرم الشمس. عاش في شمال بيرو أيضا الشيمو، الذين كانت عاصمتهم في مدينة تشان تشان، والذين صنعوا مصنوعات معدنية معقدة بالفضة والذهب، في الواقع تماما مثل معظم هذه الثقافات الأنديزية. في النهاية استوعب الإنكا ثقافة الشيمو وبقايا كافة الثقافات الأخرى؛ حيث سيطروا الآن على كل الأراضي الغربية في قارة أمريكا الجنوبية.
استمر حكم الإنكا 300 عام منذ نحو 1200 ميلاديا، لكنهم أقاموا في هذا الوقت أكبر إمبراطورية في أمريكا الجنوبية. وبحلول عام 1528 امتدت الإمبراطورية من شمالي الإكوادور، عبر كامل أجزاء بيرو، حتى بوليفيا ونزولا إلى أجزاء من شمالي الأرجنتين وتشيلي، على مساحة 3 آلاف ميل. ومن أجل الربط بين أراضيهم الشاسعة بنوا نظاما للطرق يضاهي في تطوره ذلك الخاص بالرومان. لكن لم تسر أي عربة في هذه الطرق السريعة؛ فكانوا يسيرون أو يركبون على ظهر اللاما. ضاهى الإنكا الرومان أيضا في الري والزراعة المائية، وتمكنوا من إطعام نحو 7 ملايين فرد، وتلقى الفقراء رعاية اجتماعية من الضرائب التي كان يدفعها الميسورون. وكشفت الأبحاث الأخيرة التي أجريت في منطقة بوريز في غابات الأمازون البوليفية
20
ناپیژندل شوی مخ