د دودیزو نظامونو کې د فکري اړخونه
الجوانب الفكرية في مختلف النظم الاجتماعية
ژانرونه
ولقد كان العلم بدوره يقوم بدور حاسم في تأكيد هذه النظرة الموضوعية إلى الأمور، بحيث يمكن القول إن الكشوف العلمية الحديثة قد أرست الأساس العقلي الذي تستطيع الرأسمالية الناشئة أن ترتكز عليه. ففي نفس العصر الذي نتحدث عنه حدث تحول في العلم لا يمكن تجاهل سماته التي توازي سمات التحول الاقتصادي. فقد بدأت الرياضيات تقوم بدور هام، لا في المجال العلمي فحسب، بل في مجال الحياة اليومية أيضا. وإذا كنا اليوم قد اعتدنا أن نعبر عن عدد لا حصر له من مظاهر حياتنا بالأرقام - كما في الإحصائيات التي تحدد مستوى التقدم الاقتصادي، وفي الحسابات التي نقوم بها في حياتنا الخاصة - فإن الأوروبيين في العصر الإقطاعي لم يكونوا يبدون اهتماما بالأرقام، بل لم يكونوا يهتمون حتى بتحديد أعمارهم بدقة. ونستطيع أن نلمس الفارق بين العصرين، وبين العقليتين بوضوح، إذا ما قارنا بعض العادات التي لا تزال شائعة في الريف المصري بعادات أهل المدن. ففي الريف لا زلنا نجد بعضنا من كبار السن يصعب عليهم تحديد يوم ميلادهم، كذلك لا يقوم الزمن بدور أساسي في الحياة اليومية، وإنما تحدد المواعيد حسب «مغرب الشمس» أو «في العشية»، على حين أن ساكن المدينة يعمل حسابا للدقائق قبل الساعات، ولا يستغني عن الدقة الكاملة في جميع معاملاته.
وهكذا كان اكتساب عادات الدقة والانضباط من الصفات الضرورية في المرحلة الرأسمالية الجديدة، بل إن من المفكرين من يذهبون إلى أن العصر الرأسمالي قد بدأ منذ اللحظة التي اخترعت فيها «الساعة»، وذلك أولا لأن الساعة نموذج كامل للآلة الدقيقة التي تنظم حركاتها بنفسها، ومن ثم فهي النموذج الأول لحركة التصنيع الآلي في العصر الرأسمالي، وثانيا - والأهم - لأن الساعة أدت إلى تأكيد عادات الدقة والضبط والانتظام، وخلقت عالما ينظمه العقل، ويحسب كل شيء فيه حسابا دقيقا، لا عالما يخضع لإيقاع الطبيعة الخارجية أو الطبيعة الإنسانية الداخلية في تحديد المواعيد وتنظيم الأعمال.
ولقد كانت أعمال الدقة هذه هي أول العوامل التي أدت إلى قيام الثورة العلمية الحديثة في أواخر القرن السادس عشر، وإلى التوصل إلى أساليب جديدة في البحث العلمي لم يكن للعصور السابقة عهد بها. فبفضل هذه العادات استطاع علماء الفلك مثلا أن يقوموا بحسابات دقيقة أدت إلى إحداث انقلاب كامل في نظرة الإنسان إلى العالم، ومثل هذا يقال عن علم الطبيعة (الفيزياء)، ثم الكيمياء فيما بعد، وغيرها من العلوم الحديثة.
ولو تأملنا مثلا واحدا، وهو النظرية الجديدة في علاقة الشمس بالأرض، كما توصل إليها كبرنيكوس في القرن السادس عشر، لاستطعنا أن ندرك مدى التأثير المتبادل بين التحول في نمط التفكير العلمي والتحول في نمط الإنتاج الاقتصادي؛ ذلك لأن كبرنيكوس حين أكد أن الأرض هي التي تدور حول الشمس، لا العكس، لم يكن يتحدى بذلك تراثا علميا يرجع إلى قرون كثيرة فحسب، بل كان يتحدى أيضا اعتقادا راسخا لدى الإنسان العادي، تؤيده حواسه وتجربته اليومية الملموسة؛ إذ لا يبدو أن هناك ما هو أكثر يقينا بالنسبة إلى هذه التجربة من أن الأرض ثابتة وأن الشمس والكواكب الأخرى هي التي تدور حولها. ومن هنا لم تكن الثورة التي أحدثها كبرنيكوس ثورة في مجال علمي محدد فحسب، بل كانت أيضا ثورة في طريقة الإنسان الحديث في النظر إلى الأمور، أعني أنها كانت دعوة إلى عدم التقيد بالعوامل الشخصية والأحكام التي توحي بها إلينا التجربة اليومية، وتفضيلا للعقل الموضوعي الصارم على الآراء الذاتية، وإعلانا لانهيار النظرة الشخصية إلى الأمور وحلول النظرة العلمية، المبنية على الحساب الدقيق، محلها. وتلك كلها في واقع الأمر أمور تحققت، بطريقة تكاد تكون موازية تماما لهذه في مجال الاقتصاد، إذ إن نمط الاقتصاد التجاري والرأسمالي الجديد كان يتصف بالقياس إلى النمط الإقطاعي الزراعي، بنفس النوع من الموضوعية ومن تجاهل الاعتبارات الذاتية والشخصية، والاعتماد على التنبؤ والحساب الدقيق بصرف النظر عن كل رأي شخصي أو شعور ذاتي.
على أن تقدم العلم لم يقتصر على الجانب النظري وحده، بل إن العلم أحرز تقدما كبيرا في الجانب التطبيقي أيضا. وكان هذا التقدم التطبيقي دليلا على أن العلم أخذ يمارس وظيفته الاجتماعية على نحو أكمل. وقد تمثلت هذه النظرة إلى العلم بوصفه نشاطا يؤثر في المجتمع ويتأثر به، تمثلت بوضوح كامل في فكر الفيلسوف الإنجليزي «فرانسس بيكن». ففي رأيه أن العلم يجب أن يزيد من سعادة الحياة الإنسانية وألا يكون معرفة من أجل المعرفة فحسب. وكان يرى أن المخترعين والعلماء التطبيقيين هم الذين يحتلون قمة السلم الاجتماعي، لا الحكماء النظريون أو رجال اللاهوت. والواقع أن بيكن قد استبق عصر التكنولوجيا الحديثة عندما أكد أن المخترعات المرتكزة على العلم قادرة على تغيير حياة البشر، وعلى أن تضفي على العالم بأسره شكلا جديدا. وهكذا كانت لديه قدرة تنبؤية على الاستبصار بالعالم الذي سيأتي من بعده - عالم التقدم التكنولوجي المتلاحق.
وإذن، فعلى المستوى النظري كان تقدم العلوم الرياضية، وزيادة دقة التعبير الكمي عن قوانين الطبيعة، مرتبطا أوثق الارتباط بالعصر الجديد الذي تقوم فيه الحسابات الرياضية بدور هام في معاملات السوق. وعلى المستوى التطبيقي انتفع العصر الصناعي الجديد من الرياضيات التطبيقية كثيرا في صنع الآلات، فضلا عن انتفاعه من العلوم الطبيعية والكيماوية في تسخير طاقات جديدة لخدمات الإنسان. وسرعان ما اقتنع رجال الصناعة بأن السبيل إلى زيادة إنتاجهم وتحسينه والإقلال من مصروفاتهم هو اتباع الأساليب العلمية، أي ما يعرف بأساليب الترشيد، فضلا عن إدخال الآلية على نحو متزايد. وبالاختصار، فإن نفس الروح التي كانت تدفع الرأسمالي إلى مزيد من الاستثمار والنشاط الاقتصادي، كانت تدفع المكتشف إلى ارتياد آفاق جديدة، والعالم إلى كشف قوانين جديدة، والمخترع إلى ابتداع تطبيقات جديدة؛ إذ إن الجميع كانوا يسعون إلى زيادة قوة الإنسان وإحكام سيطرته على الطبيعة. (7)
وأخيرا، فلا بد لنا أن نشير إلى سمة أخرى هامة من سمات هذا العصر، ترتبت على التحول الأساسي الذي طرأ على حياته الاقتصادية، هي نمو النزعة الفردية في مجالات الأخلاق والأدب والفن. وليس من الصعب أن نجد تعليلا لهذه الظاهرة في ضوء ظروف العصر؛ ذلك لأن الشخص الناجح في العصر الجديد لم يكن يدين بنجاحه لأسرته أو لقبه الوراثي، ولم يعد الانتماء إلى جماعة معينة هو أساس التفوق، بل إن كل شيء أصبح يتوقف على الجهود الخاصة التي يبذلها كل فرد. وكان ذلك العصر حافلا بأمثلة الأشخاص العصاميين الذين تمكنوا بجهودهم الخاصة من أن يصلوا إلى مكان الصدارة في المجتمع، وخاصة في المجال الاقتصادي. ومن شأن هذا الاتجاه أن يزيد من شعور الفرد بقدراته الخاصة، ويجعله أقدر على تحدي السلطة، بكافة أنواعها، بحيث لا يعود معتمدا على عامل «الانتماء» بقدر ما يعتمد على عامل الكفاح الفردي. وإلى هذه الظاهرة ترجع مختلف مظاهر التحرر من السلطة في ذلك العصر، أعني سلطة الفلاسفة القدماء (مثل أرسطو)، وسلطة رجال الدين، وسلطة الإقطاع الوارثي، وسلطة العادات والتقاليد الاجتماعية المرتبطة به. وقد انعكس ذلك في مجال الفكر على شكل كثرة من الاتجاهات الفكرية المستقلة التي تتسم بقدر كبير من الخصوبة والاستقلال، على عكس اتجاهات العصور الوسطى التي كانت متقاربة متجانسة إلى حد بعيد. كما انعكس في ميدان الأدب والفن على شكل أعمال تسعى إلى استكشاف العمق الباطن للفرد، والاهتمام بمشكلاته وأحاسيسه الخاصة، على خلاف الاتجاهات السابقة التي كان الفن يقتصر فيها على خدمة قضية دينية أو سياسة معينة دون أدنى اهتمام بالعنصر الفردي. وهكذا فإن الفنان أو الأديب «الفرد»، الذي يعبر عن نفسه من حيث هو فرد، ويطلب إلينا أن نهتم به على أساس أنه إنسان متميز عن كل ما عداه - قد ظهر لأول مرة في ذلك العهد. وربما قال البعض إن ظهوره كان رد فعل على النزعة العقلانية اللا شخصية المتطرفة التي كان يتسم بها العصر الجديد، ولكن الأرجح أنه كان متمشيا مع مقتضيات عصر فتحت فيه أمام الفرد آفاق لا نهائية، وازداد فيه الإنسان ثقة بنفسه وشعورا بكيانه، وأزيلت فيه الحواجز التي كانت تحول دون تحقيقه لأمانيه في النجاح والارتقاء إلى أعلى درجات السلم الاجتماعي. (2) الرأسمالية المكتملة
كانت المرحلة المبكرة من العهد الرأسمالي مرحلة كفاح ضد قوى الإقطاع المادية وقيمه المعنوية. وإذا كنا قد أكدنا من قبل مزايا هذه المرحلة وسماتها الإيجابية، فذلك لأنها تمثل بالفعل تقدما ملموسا بالقياس إلى المرحلة السابقة عليها. فهي قد دفعت بالبشرية خطوات واسعة إلى الأمام، حين أكدت سيادة العقل على كل النزعات اللا عقلية المضطربة الغامضة التي كانت تسود في العصور الوسطى، وحين أطلقت طاقات الإنسان ليستكشف الطبيعة جغرافيا ويفهمها علميا ويستغلها اقتصاديا.
على أن هذا النمط الجديد من أنماط العلاقات الاجتماعية - أعني النمط الرأسمالي - كان ينطوي على عناصر سلبية أساسية لم تظهر بوضوح في مرحلته المبكرة، وذلك أولا لأن جميع سماته لم تكن قد ظهرت مكتملة بعد، وثانيا لأنه كان في معركة مع علاقات اجتماعية أكثر منه تخلفا بكثير. وعندما تم له الانتصار في هذه المعركة، واكتملت خصائصه بحلول العصر الصناعي وسيادة الإنتاج الآلي، أخذت العناصر السلبية في نمط الإنتاج الرأسمالي تبرز إلى السطح بوضوح كامل، وظهرت العيوب المعنوية والفكرية للنظام الرأسمالي على نحو لا يدع مجالا لأي شك.
خصائص الرأسمالية المكتملة
ناپیژندل شوی مخ