جوابات الشيخ عمي سعيد تحقيق محمد بوكراع
مقدمة الكتاب
تراث المسلمين كنوز خلفها أئمة أعلام، ومصابيح أهدوها للأسلاف يهتدون بها في دياجير الظلام، وهو مفخرة الأجيال على الأنام، ومثار اعتزازهم بانتمائهم إلى أمة الإسلام، وأنهم أنسال آباء كرام.
وحري بجيل الأبناء أن يعوا هذه الحقيقة فيسعوا لإحياء مآثر الآباء، ويتمثلوا نهجهم سبيلا في الحياة، يكونون به موئل الثناء وأهلا بهذا الميراث الثمين، ويحق فيهم قول الرصافي:
وخير الناس ذو حسب قديم ... أقام لنفسه حسبا جديدا
تراه إذا ادعى في الناس فخرا ... تقيم له مكارمه الشهودا
وبين يدينا نفحة طيبة من هذا التراث للشيخ عمي سعيد الجربي الذي أحيى العلم بميزاب، وخرج به من ظلمات الجهل والفتن، إلى نور العلم والأمن، فاستنار بهديه وبنى حضارة لا تزال مثار إعجاب الدارسين، ومبعث إكبار المنصفين.
وهذه النفحة تعد وجها آخر لجهاد الشيخ عمي سعيد العلمي، فضلا عن جهاده الإصلاحي والاجتماعي، ودوره الريادي في مجال تطوير المجتمع وتحسين أوضاع الحياة في ربوع الوادي الأمين.
مخ ۱
وأبت عزيمة أخينا الباحث الصبور محمد بن صالح بوكراع إلا إحياء هذا الجهد العلمي بإخراجه للناس في حلة قشيبة، أضفى عليه لمسات جعلته في متناول أيدي الدارسين، وقدم لنا بذلك دستورا وجيزا لحقائق أساسية في علوم الشريعة، يمكن وصفها بأنها موجز في الثقافة الإسلامية، لما احتوى عليه هذا السفر النفيس على ضآلة حجمه تعاريف وأحكام وحقائق علمية منوعة، تنم عن موسوعية الشيخ عمي سعيد، وسعة أفقه العلمي، إذ لم ينحصر في علوم الشريعة، من التفسير والحديث والفقه وأصول الدين، بل شفع معارفه بالإطلاع على علوم المنطق والكلام، وقواعد اللغة والبلاغة، والرياضيات وخواص الأعداد، إلى الفلك وظواهر الكسوف والخسوف، وضبط حساب السنين، إلى نبذ عن التاريخ وطبائع الأشياء، وكان الشيخ في أجوبته معلما نابها وعالما ضليعا، يمد السائل بما يغني المحتاج، ولا يعنته بخلاف أهل الحجاج، حتى يستفيد علما نافعا، يترجمه إلى سلوك عملي، وتلك غاية العلم مبدأ ومآلا، وإن غفل عنه أكثر الناس فشغلوا بالجدل، وقضوا فيه أعمارا، وأموالا.
وإذ نذكر أخانا محمدا وما أنفق من نفيس العمر، ونقدر ما بذل من خالص الجهد لتحقيق هذا الكتاب، فلا يسعنا إلا أن نضرع إلى المولى الكريم، أن يجعل ما حواه هذا الكتاب معالم هادية للباحثين، وزادا طيبا للدارسين.
وأن يثيب الشيخ المجيب، وأخانا الأريب، عن العلم وأهله خير الجزاء ، في دار الكرامة لا يمسهم فيها نصب ولا يمسهم فيها لغوب، إنه سميع مجيب.
د/مصطفى بن صالح باجو
مسقط- العاشر من رمضان 1426ه
مقدمة التحقيق
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، مباركا عليه كما يحب ربنا ويرضى، ونصلي ونسلم على الرحمة المهداة والنعمة المسداة رسول رب العالمين، وسيد الخلق أجمعين نبيئنا محمد وآله وصحبه الميامين، وتابعيهم على الحق إلى يوم الدين وبعد:
مخ ۲
فإن الشيخ عمي سعيد بن علي الجربي [ت:927ه] رحمه الله علم ذائع الصيت واسع الشهرة في وادي ميزاب، فلئن مضى على وفاته خمسة قرون فلا يزال تحكى أقواله وتتبع سيره، وينوه بجهاده، ويتبرك باسمه إلى يومنا هذا، وإلى أن يشاء الله، وهكذا شأن عباد الله المخلصين المخلصين، يجعل الله لهم لسان ذكر في الآخرين.
غير أنني لاحظت أن أعمال الشيخ وإصلاحاته الميدانية خلدت أكثر من علمه النظري، فيذكر على أنه مؤسس حلقة إيروان، أو مفعل مجلس الكرثي، أو واضع دعاء السلام، وغير ذلك من الأعمال المباركة الخالدة ولا يشار إلى شيء من جواباته أو تحقيقاته أو فتاويه إلا قليلا، فاستثرت همتي لتحقيق هذا المخطوط الشامل للشيخ - على ضعفي وانعدام بضاعتي في هذا الفن- اللهم إلا قراءة عاجلة في كتاب الدكتور محمد ناصر:منهج البحث وتحقيق النصوص أو محاكاة ناقصة لتحقيق الأستاذ مصطفى وينتن لشرح عقيدة التوحيد للقطب اطفيش [رحمه الله]فإن أصبت في غالبه فذلك من فضل ربي، وإن قصر باعي عن ذلك فعذري يتمثل في محبة عارمة للعلم والعلماء بما لا يوصف وفي رغبة أكيدة في خدمة التراث والتجديد بما لا يقدر، وفي عودة فجائية لرحاب القرطاس والقلم بعد انقطاع دام أربعة عشر عاما كاد أن يضيع معه كل شيء لولا أن تداركنا الله وحده بجميل لطفه وحسن عنايته.
أي نعم، إن المنهجية - في نظرنا - ليست في أساليب علمية تحليلية أو استقرائية أو تجريبية أو رقمية فحسب بقدر ما هي تقوى وموهبة وأمانة وأخلاق فقد يحسن عرض الباطل بمنهجية دقيقة فتكون له صولات وجولات، وقد يساء عرض الحق فيخبو نوره ويذهب سلطانه لمدة تطول أو تقصر رغم أنه الحق ولكن كما قال الله: { فأما الزبد فيذهب جفآء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الارض } [الرعد/17].
موضوعات المخطوط:
مخ ۳
المخطوط كله جوابات عن أسئلة متنوعة وردت على الشيخ من طالب علم ، وباستقرائها نجدها على حسب الأسئلة متعددة المواضيع، فقد تناولت ما يأتي:
1) - العقيدة وعلم الكلام.
2) - علوم القرآن وقصصه وتجويده.
3) - علوم الحديث والسند.
4) - أصول الفقه سيما مباحث الألفاظ ودلالاتها على المعاني.
5) - اللغة والأدب.
6) - التاريخ والجغرافيا.
7) - المنطق والحساب والطب والفلك.
فالمخطوط شامل لكثير من العلوم، وتظهر من خلاله مقدرة الشيخ العلمية، وموسوعيته الفكرية التي طالت مختلف الفنون.
عملنا في المخطوط:
أما عن عملنا في المخطوط فلا يعدو الأمور الآتية:
1) - ضبط النص وإثباته بعد المقارنة بين نسخ ثلاث.
2) - وضع عناوين لفقرات المخطوط حسب الموضوع.
3) - تخريج الآيات والأحاديث.
4) -شرح بعض الألفاظ المبهمة شرحا لغويا أو اصطلاحيا حسب اقتضاء المقام.
5) - نسبة الأشعار إلى ناظميها عند الإمكان.
6) - التحقق من نسبة الأقوال، والنصوص المستشهد بها إلى أصحابها في مصادرها عند الإمكان.
7) - تقييم بعض أفكار المخطوط والتعليق عليها نقدا أو توضيحا أو تأكيدا.
8) - وضع تراجم موجزة للأعلام الوارد ذكرهم في متن المخطوط في ملحق مؤخر.
النسخ المعتمدة:
أولا: النسخة الأصلية
1) - مكان حفظها: مكتبة الشيخ صالح بن عمر لعلي (¬1) [
¬__________
(¬1) - من تلامذة القطب اطفيش والشيخ امحمد بن ادريسو، أنشأ معهدا للتعليم والتوجيه عام 1307ه، وأسندت إليه مشيخة الحلقة ببني يسجن عام 1336ه فتيسر له نشاط علمي وإصلاحي عظيم. وكان إلى جانب ذلك مهتما بجمع الكتب وتأليفها ولا تزال مكتبته الزاهرة قائمة إلى اليوم ومن مؤلفاته: - القول الوجيز في كلام الله العزيز، وهو تفسير لم يكمله.
- مراقي العوام إلى معرفة مبادئ الإسلام.
- البراهين القاصفة لتمويهات متبعي الفلاسفة.
- رسالة في التزهيد عن الدنيا.
- وله حواش على العديد من أمهات الكتب وتصانيف مختلفة رحمه الله تعالى.
أنظر معجم أعلام الإباضية:ج03، ص:475- 477،رقم الترجمة:506.
مخ ۴
ت :1347ه] بني يسجن.
2) - الرقم في الفهرس: 016.
3) - الرقم في المكتبة: م81.
4) - عدد أسطر الصفحة: 22.
5) - عدد الأوراق: 15.
6) - مقاس الورقة: 23.3 × 18 سم.
7) - نوع الخط: مغربي واضح.
8) - لون الخط: نسخة مصورة.
9) - الناسخ: غير مذكور.
10) - تاريخ النسخ: غير مذكور. والمخطوط كامل.
ثانيا: النسخة (ب)
1) - مكان حفظها: مكتبة الإستقامة (الخزانة الأولى) بني يسجن.
2) - الرقم في الفهرس: 397.
3) - الرقم في الخزانة: دغ 60.
4) - عدد أسطر الصفحة: 29.
5) - عدد الأوراق: 12.
6) - مقاس الورقة: 20 × 14.8 سم.
7) - نوع الخط: مغربي واضح.
8) - لون الخط: بني.
9) - الناسخ: إسماعيل بن عيسى بن الحاج عبد الله المصعبي.
10) - تاريخ النسخ:أواخر شعبان 974 ه. والمخطوط كامل ضمن مجموع.
ثالثا: النسخة (ج)
1)- مكان حفظها: خزانة الشيخ بس بن موسى (¬1) (ت 1175ه) وارجلان.
2) - عدد أسطر الصفحة: من: 28 إلى: 36.
3) - عدد الأوراق: 10.
4) - مقاس الورقة: 24 × 18.5 سم.
5) - الخط: مغربي واضح.
6) - لون الخط: نسخة مصورة.
7) - الناسخ: الشيخ بس بن موسى (صاحب الخزانة).
8) - تاريخ النسخ: 1146ه. والمخطوط كامل ضمن مجموع.
? شكر وعرفان :
¬__________
(¬1) - الشيخ بس بن موسى (ت 1178ه) من علماء وارجلان أخذ العلم عن الشيخ محمد بن أبي القاسم المصعبي والشيخ صالح بن إبراهيم وغيرهما، تولى مشيخة الحلقة بوارجلان، وكان شغوفا بنسخ الكتب، فترك لنا خزانة كبيرة من المجلدات بخط يده، ومن تآليفه: »أجوبة سديدة في أسئلة فقهية«، ولا تزال ذريته في وارجلان.
انظر معجم أعلام الإباضية:ج02، ص171، رقم الترجمة: 177.
مخ ۵
وفي الختام نشكر من سويداء القلب وصميم الفؤاد شكرا ضافيا وافيا كل من أعاننا على إتمام هذا العمل المتواضع، ولو بالكلمة الصافية المشجعة، سيما الأستاذ الحاج موسى بشير الذي وفر لنا المخطوط بنسخه الثلاث، وجعله في متناول أيدينا، ولم يضن علينا بأي عون ومساعدة ممكنة، والزميل الدكتور: باجو مصطفى الذي تفضل متكرما بمراجعة هذا العمل علميا، وتتويجه بمقدمة قيمة على كثرة مهامه واهتماماته، وكذلكم الأساتذة الكرام الذين أعانونا على تخريج الأحاديث: لعساكر صالح، وكاسي وصالح قاسم، وصالح والحاج الناصر، دون أن ننسى أخانا موسلمال يوسف الذي ساعدنا على التحقق من صحة تلك التخريجات وتتميمها بأخرى.
شكر الله للجميع حسن الصنيع، ووفقنا لكل عمل رفيع، وصلى وسلم على النبيء الشفيع، إنه هو المجيب السميع.
نبذة عن حياة الشيخ عمي سعيد
مولده ونشأته:
هو العلامة الكبير الداعية القدوة الشيخ سعيد بن علي بن يحي بن يدر بن سليمان بن عثمان الخيري الجربي المكنى بأبي عثمان الشهير ب: عمي سعيد، أو: أمي سعيد، على سبيل التقدير والتشريف ولد في قرية: آجيم، بجزيرة:جربة، في البلاد التونسية ما بين سنة 827 ه - 841ه ، وكانت: آجيم آنذاك زاخرة بالعلم والعلماء، وكان أبوه وإخوته منهم أهل علم وورع، وكان شيخنا عمي سعيد أصغرهم سنا ومن أولئك العلماء:
- أبو العباس أحمد بن سعيد الشماخي[ت:928ه].
- أبو النجاة يونس بن سعيد التعاريتي[ق:10ه].
- أبو يحي زكرياء بن أفلح الصدغياني[ت:903ه].
- أبو محمد عبد الله بن أبي القاسم البرادي[ت:835ه].
وغيرهم كثير.
وكان أبو النجاة أبرز مشائخ عمي سعيد، فقد شد إليه الرحال ومكث معه في مدرسته بجامع: تجديت بحومة :فاتو يكترع العلم ويعبه عبا سنين عددا حتى نال بغيته وتكون في علوم اللغة والشريعة أصولا وفروعا منقولا ومعقولا.
قدومه إلى وادي ميزاب:
مخ ۶
كان وادي ميزاب في تلك الفترة الزمنية على شفا أخطار عظيمة من الجهل والتعصب والفتن مما دفع بأعيانه إلى التفكير الجدي في استقدام عالم من إخوانهم الإباضية في جربة المزدهرة بالعلم والعلماء آنذاك -كما أسلفنا- ونعم هذا التفكير المبني على أخلاق التجرد والفهم الصحيح للأخوة الإسلامية والتصور السليم للغيرة المحمودة على الدين.
فتعين الوفد الميزابي، وتوجه إلى جربة، وبعد تشاور عزابة جربة وأعيانها في طلب الوفد استجابوا لالتماسهم ورشحوا لهم الشيخ الصغير سعيد بن علي لفتوته وكفاءته العلمية والأخلاقية، وهكذا رجع الوفد بهذا الكنز العظيم والذخر الوفير بعد أن أوجفوا عليه بخيل وركاب، واستقر الشيخ بالوادي في حدود سنة 887 ه - على التقريب - واستفرغ جهوده لنشر العلم، وتصحيح التصورات والمفاهيم، وإصلاح الأوضاع، وإرساء قواعد الدين لأربعين سنة.
إنشاء حلقة علمية:
لقد شرع الشيخ فور وصوله في إلقاء دروسه بجامع غرداية فغص المسجد بطلابه ومريديه، وضاق بهم مما استلزم توسيعه ليشمل كل أعداد الطلبة، فتخرج من حلقات الشيخ الكثير من العلماء كصالح بن سعيد - نجل الشيخ - وأبي مهدي عيسى بن إسماعيل بن عيسى المليكي وغيرهم.
إحداث نظام هيئة التلاميذ:
مخ ۷
لقد أنشأ الإمام أبو عبد الله محمد بن بكر الفرسطائي[ت:440ه] نظام هيئة العزابة ذا أبعاد علمية واجتماعية متكاملة فكانت تضم من ضمن طاقمها شيخ الحلقة وعرفاء الختمات والنوم وأوقات الدراسة وعريف العرفاء للقيام بمسؤوليات تعليم التلاميذ والسهر على تنظيمهم بين أوقات الراحة والعمل. وتتحدث كتب السير عن الرحلات الجماعية التي كان يقوم بها هذا الجهاز بكل طاقمه، وعن الأجواء العلمية المكثفة لنظام الحلقات التعليمية في الطرق والأسفار بما يثير في النفس مشاعر الإعجاب، إلى أن جاء الشيخ عمي سعيد ووجد اهتمامات الحلقة مصروفة بشكل أغلب إلى النواحي الاجتماعية على حساب الجانب العلمي، فأنشأ نظام: إيروان إحياء لأصل نشأة الحلقة ووضع له شروطا لمريدي الالتحاق، وتنظيمات تحكم سير نشاطات المنظمة، كما خصص لها مكانا بجوار مسجد القرية يعرف ب : تدارت نروان وهكذا سار العمل في كل قرى الوادي إلى يومنا هذا.
عمله الاجتماعي:
لقد حارب شيخنا الكثير من البدع في المجتمع وصحح الكثير من المفاهيم، وقام بمجهودات عظيمة للرقي بالمجتمع ومن ذلك:
1) - دعم نظام حلقة العزابة وبعث هيبتها في النفوس، وتوحيد اللباس الرسمي لأعضائها بارتداء الحائك الصوفي المعروف.
2) - التقريب ببن العشائر والقبائل والقوميات باستحداث مجلس يضم ممثلين لعشائر الإباضية والمالكية واليهود لفض النزاعات وإنهاء الخصومات وإصلاح ذات البين.
3) - تسوية الأوضاع بما أمكن بين القبائل والقرى وإخماد الفتن.
مخ ۸
4) - وضع دعاء السلام وخطبتي العيدين الترغيبيتين الترهيبيتين، يقول الشيخ محمد علي دبوز في دعاء السلام الذي يسميه بدعاء الاستفتاح: »في كل صباح بعد صلاة الفجر ترعد الجماهير في مساجد ميزاب بهذا الدعاء الشامل العظيم نابعا من أعماقها متضرعين به إلى الله مبتهلين فيكون الله مع المتضرعين إليه في كل نهارهم وطول حياتهم...ويسبغ عليهم كل النعم فيعيشون مطمئنين هانئين واثقين بالنجاح في كل أعمالهم، وبالسلامة من كل سوء وإن أرعدت الدنيا حولهم بالأهوال لأنهم يوقنون بأن الله معهم« (¬1) ، ويقول الشيخ أبو اليقظان - وهو من تلامذة القطب اطفيش- في خطبتي العيدين: »ما زالتا تقرآن على الجماهير في هذين اليومين المباركين من كل عام ولقربهما من أفهام العامة كان لهما التأثير البليغ على النفوس وكم أسالتا من دموع الخشية من عيونهم وقد طبعتا عدة مرات« (¬2) .
النشاط التأليفي:
لم يستطع شيخنا أن يهتم كثيرا بالتأليف نظرا للمهام التدريسية والاجتماعية التي كانت تستحوذ على اهتماماته وتستفرغ جهوده، وعلى الرغم من ذلك كانت له إسهامات معتبرة في هذا المجال تتمثل في أجوبة ومراسلات علمية ذات طابع إخواني تارة وذات منحى ردودي في بعض الأحيان سيما إذا أخذنا بعين الاعتبار عصر الشيخ الذي استحكمت فيه النظرة المذهبية الضيقة، فكثيرا ما كان شيخنا يستفز بشبهات ومفتريات على الدين الإسلامي عموما أو على المذهب الإباضي خصوصا فلا يجد بدا من اليراعة للدفاع عن الحق وإفحام المتعصبين، ومن ذلك ما عثر عليه من:
1) - جواب الشيخ على الطالب محمد بن إبراهيم المصمودي.
2) - جوابه على ذمي يهودي من تلمسان في مسألة القضاء والقدر.
3) - منظومة بواحد وخمسين بيتا كأجوبة على بعض المتفقهة من غير الإباضية في مسائل شتى لغوية وشرعية وفلسفية.
¬__________
(¬1) - محمد علي دبوز،أعلام الإصلاح في الجزائر:ج03، ص159.
(¬2) - أبو اليقظان،ملحق السير:ج 1،ص6.
مخ ۹
4) - جوابه على مسائل الفقيه سعيد بن معمر الإباضي في مسائل لغوية وأدبية مع شرح لبعض الحكم والأحاديث.
5) - وأخيرا جوابه هذا الذي حققناه على مسائل متنوعة لأحد المتفقهين من غير الإباضية.
كما كانت لشيخنا منظومات شعرية أدبية في أغراض مدحية ورثائية ووعظية، وكانت تحمل تارة طابع الشوق والحنين إلى وطنه جربة.
وفاته :
توفي الشيخ عمي سعيد في ليلة الاثنين 27 جمادى الثانية سنة 927ه بعد حياة حفت من أولها إلى آخرها بالصبر والتضحية والجهاد لإعلاء كلمة الله، ودفن بمقبرة ناحية سالم أوعيسى التي اشتهرت بعد ذلك باسمه، ولا تزال ذريته في غرداية وبريان، لقد ترك شيخنا حياة الدعة والسعة والهدوء في جنات جربة الفيحاء الغناء وآثر حياة الهجرة والجهاد والصبر والمصابرة في صحراء قاحلة جرداء رحمه الله ورضي عنه وأرضاه.
مراجع الترجمة:
- بشير بن موسى الحاج موسى "نحو دراسة حياة وآثار الشيخ سعيد بن علي بن يحي الخيري الجربي" بحث مرقون.
- محمد علي دبوز "نهضة الجزائر الحديثة وثورتها المباركة" المطبعة التعاونية الطبعة الأولى 1965م.
- الشيخ إبراهيم أبو اليقظان "ملحق السير" مخطوط.
- جمعية التراث "معجم أعلام الإباضية" المطبعة العربية غرداية.
المقدمة
قال الشيخ سعيد بن علي بن يحي الجربي الخيري غفر الله له:
هذا جواب أجبت به عن سؤال بعض متفقهة قومنا والله الموفق للرشاد، الهادي للسداد، وبعض الأسولة (¬1) لم أذكرها وأجوبتها تدل عليها:
¬__________
(¬1) - عالم من علماء الشريعة ينتمي إلى غير المذهب الإباضي.
مخ ۱۰
الحمد لله ذي العزة والجلال، والكمال والإكمال، والإكرام والإجلال (¬1) ، خالق الأشياء بلا مثال، ومبتدعهم بلا تمثال، وميز منهم العقلاء بالتكليف وأمرهم بالامتثال، وقسمهم ما بين علماء (¬2) وجهال، وانتخب من جميعهم الأنبياء وانتجب منهم الإرسال، واصطفى من الكل سيدنا محمدا بلا شك ولا نضال [وأيده بالمعجزات المجيزات والجائزات المميزات حجة لأهل الهدى وعلى أهل الضلال] (¬3) وخصه (¬4) بالشفاعة العامة، ونصه بالتابعة التامة فطوبى لمن سعد بشفاعته ونال، صلى الله عليه وعلى آله وعترته وأصحابه أهل الشرف والكمال، وعلى (¬5) تابعيهم، وتابعي تابعيهم أبدا بالغدو والآصال. أماتنا الله على سبيلهم، ونجانا من البدع والأهواء والإضلال.
أما بعد: سلام عليك (¬6) ، فقد ورد علي سؤالك فوجدته غير محرر ولا موفور، فشعره منثور، ومعناه مبتور غير مستقيم لا وزنا ولا إعرابا ولا خطا ولا لغة كما أبينه لك بتوفيق الله تعالى، وأجبتك (¬7) بالاختصار نثرا للمسألتين (¬8) :
- إحداهما (¬9) : أن أهل الصناعة يقولون: من أجاب في شعر غير موزون فهو كناظمه سواء.
- والثانية (¬10) : خشية الإطالة.
وها أنا أشرع في الجواب، ثم أنبهك عن عيوب كلامك وانبتار معناه، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب [ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم] (¬11) .
أول الفرائض ووجوب التوحيد بالعقل:
1) - سؤالك (¬12) عن أول الفرائض؟
¬__________
(¬1) - بين النسخ الثلاث تقديم وتأخير في هذه الأوصاف.
(¬2) - في الأصل «عقلاء».
(¬3) - ما بين المعقوفين إضافة من ب.
(¬4) - في ب وج «خصصه».
(¬5) - في ج «عن».
(¬6) - في ب «عليكم».
(¬7) - في ب «وأجيبك».
(¬8) - في ب «لمسائل».
(¬9) - في ب «منها».
(¬10) - في ب «ومنها».
(¬11) - ما بين المعقوفين إضافة من ب.
(¬12) - في ب «سألت».
مخ ۱۱
أولها (¬1) : التوحيد فسائر العقائد، ثم معرفة سائر المفروضات على ترتيب أوقاتها، وعندكم الأشعرية أولها النظر، ثم معرفة التوحيد، ويا ليت شعري ما حكمه عندكم حين وسعتم له جهل الباري جل وعلا؟ أمؤمن أم كافر ولا منزلة بينهما؟ والحجة لنا من العقل [أن] جهل الباري بعد البلوغ شرك [لأن التوحيد هو الإفراد، والشرك هو المساواة وكل واحد منهما ضد الآخر] (¬2) .
ومن الكتاب: { أيحسب الانسان أن يترك سدى } [القيامة:36].
ومن السنة فعل الرسول - عليه السلام - و (¬3) أنه يأمر بقتل [كل بالغ جاهل خالفه] (¬4) ولم يتربص بهم مدة النظر على زعمكم، [وأيضا النظر الذي جعلتموه فرضا بعد البلوغ قبل التوحيد أصلا] (¬5) .
ومن الإجماع إطباق الأمة قاطبة (¬6) على عدم العذر ساعة (¬7) بعد البلوغ، وما جعلت مهلة اليفعة والانتهاز إلا للنظر، ولا يتأتى التوحيد بغيره، ولو جاز لوجب على غير العقلاء.
التقليد وحكمه:
والتقليد في اللغة اللزوم [والتعليق ومنه اشتقاق القلائد] (¬8) .
وفي اصطلاح أهل الكلام والفقه قبول قول أو فعل تحكما لا حكما بغير دليل، ولا يجوز في العقائد إلا من معصوم (¬9) والأدلة شائعة عقلا وسماعا (¬10) .
حقيقة لفظ "الشيء" وهل الله شيء ؟ :
¬__________
(¬1) - في ب «وهو».
(¬2) - ما بين المعقوفين من الأصل وج، وفي ب «لأن ضد التوحيد الشرك».
(¬3) - سقط «و» من الأصل وج.
(¬4) - ما بين المعقوفين من الأصل وج، وفي ب «من بلغ جاهلا خالفه مع بلوغه».
(¬5) - ما بين المعقوفين إضافة من ب.
(¬6) - سقط «قاطبة» من ب.
(¬7) - في ب «لمحة».
(¬8) - ما بين المعقوفين إضافة من ب.
(¬9) - أجاز القطب أطفيش والإمام السالمي التقليد في الأصول إذا كان المقلد مصدقا لمن أفتى له واطمأن إليه قلبه ووافق الحق. أنظر: القطب، تيسير التفسير:ج11، ص179، بتحقيق طلاي. و السالمي، طلعة الشمس شرح شمس الأصول:ج02، ص293.
(¬10) - سقط قوله: «والأدلة شائعة عقلا وسماعا» من ب.
مخ ۱۲
2) - [وسؤالك عن حقيقة الشيء] (¬1) فالشيء حقيقته ما صح أن يعلم ويخبر عنه، و (¬2) القائم بنفسه حقيقة الباري (¬3) جل وعلا، ومجازا الجوهر.
أقسام أفعال العباد، والأحكام التكليفية:
3) - وأما (¬4) أفعالنا فتنقسم من وجه قسمين:
- ضروريا (¬5) : خلافا لما يؤول إليه قول المعتزلة لا تصريحا (¬6) منهم.
- واكتسابيا (¬7) : خلافا للجبرية، والأدلة عليهم ظاهرة متظاهرة.
ومن وجه خمسة (¬8) أقسام:
- واجب: وهو ما في (¬9) فعله ثواب، وفي تركه عقاب.
- ومحظور: وهو نقيضه.
¬__________
(¬1) - سقط ما بين المعقوفين من ب.
(¬2) - في الأصل وج «وأما» والمثبت من ب.
(¬3) - الله عند الإباضية شيء بدليل قوله تعالى: { قل اي شيء اكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم } [الأنعام:19]، أما الجهمية فقد منعوا الإخبار عن الله بهذا اللفظ، لأنه عندهم بمعنى الجسم ورد عليهم الأصحاب بالآية السابقة، وبأن الله تعالى قد ذكر معانيا في كتابه وسماها أشياء، وليست مع ذلك من الجسمية في شيء كما في قوله تعالى : { قل يآ أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والانجيل } [المائدة:68] فدل على أنه إن هم أقاموا التوراة والإنجيل يكونوا على شيء من الدين، فسمى الله تعالى الدين شيئا وهو ليس بجسم، والآيات من هذا القبيل كثيرة، والخلاصة أن كل ما يخبر عنه بوجه من الوجوه أو يوصف بصفة من الصفات أو يذكر بمعنى من المعاني هو شيء غير أن القطب اطفيش-رحمه الله- أجازه في حق الله مع التقييد فنقول: شيء لا كالأشياء.
أنظر أبو عمار عبد الكافي، الموجز: ج01، ص425-428، بتحقيق عمار الطالبي ، والقطب، تيسير التفسير:ج04، ص235. بتحقيق طلاي.
(¬4) - سقط«أما» من ب.
(¬5) - في ب «ضروري».
(¬6) - في ب «تصريح».
(¬7) - في ب «اكتسابي».
(¬8) - سقط من الأصل وج «خمسة» والإضافة من ب.
(¬9) - سقط من الأصل وج «في» والإضافة من ب.
مخ ۱۳
- ومندوب: وهو ما في فعله ثواب، وليس في تركه عقاب.
- ومكروه: وهو نقيضه.
- ومباح: وهو المستوي الطرفين .
وقسمها بعضهم على التقريب قسمين:
- جائز وغير جائز لأنه جعل كل ما ليس فيه عقاب من حيز الجائز وهو (¬1) كذلك، وفيها تقاسم أخر لا طائل تحتها.
الاستطاعة والفعل:
4) - والاستطاعة عندنا جائزة (¬2) خلافا للجبرية، مع الفعل خلافا للقدرية (¬3) .
خلق الأفعال :
¬__________
(¬1) - سقط من الأصل «وهو» والإضافة من ب وج.
(¬2) - في ب «موجودة».
(¬3) - الإباضية يقولون: إن الاستطاعة تكون مع الفعل لا قبله لأنهم اعتبروها عرضا فطبقوا عليها أحكامه المعروفة في علم الكلام القديم ثم إنهم قالوا بمقارنة الاستطاعة للفعل لتأكيد حرية الكسب = = ولإنكار مقالة الجبر، قال العلامة عبد العزيز الثميني: «اعلم أنه إنما قلنا بوجود قدرة للعبد مقارنة لمقدورها لما تجد من الفرق الضروري بين حركتي الاضطرار والاكتساب» ثم يقول:«ليس المراد بالكسب إلا تعلق هذه القدرة الحادثة في محلها المقدور مقارنة له من غير تأثير، والكسب متعلق التكليف الشرعي وأمارة على حصول الثواب والعقاب فبطل مذهب الجبرية». انظر الثميني، معالم الدين:ج01، ص268-270.
مخ ۱۴
ثم جاء القطب اطفيش فأقر القولين معا وجمع بينهما وبين أن الاستطاعة تكون قبل الفعل ومعه، فقال-رحمه الله- تفسيرا لقوله تعالى: { إنك لن تستطيع معي صبرا } [الكهف:67]: «وأنا أقول تطلق معه وتطلق أيضا قبله، كما يقال: لفلان طاقة على كذا ولو قبل فعله، وكما وردت في الحج قبله ولا فرق». انظر القطب، التيسير:ج08، ص391. و:ج02، ص406. بتحقيق طلاي 5) - والله عز وجل خالق لأفعالنا خلافا لهم (¬1) لادعائهم خلق أفعالهم دون الله، وما أقبحها من (¬2) مقالة بعد قول الخالق: { هل من خالق غير الله } [فاطر:03] ولنا عليهم إجماع الأمة أن الله عز وجل لا يكون في ملكه ما لا يريد، والأدلة عليهم أكثر من أن تحصى. والعبد مختار ومكتسب، خلافا (¬3) للجبرية ولنا عليهم قول العادل-جل وعلا-: { لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت } [البقرة:286] { إنما تجزون ما كنتم تعملون } [الطور:16] إلى ما لا يكاد يتناهى في القرآن، مع إجماع الأمة أن الله-عز وجل- عدل (¬4) لا ينسب إليه الجور، وهم يقولون: يعذبنا بما لم نفعله.
العقل وحقيقته :
6) - والعقل قيل فيه إنه (¬5) غريزة في القلب [والدليل قوله تعالى]: { قلوب يعقلون بها } [الحج:46]، وقيل: إنه جسم روحاني بسيط نوراني مركوزه في (¬6) جبلة العلوم العقلية المنسوبة إليه، الفطرية تعلمها لا بتعليم ولا تعلم و (¬7) لا يخالجه الشك فيها، وقيل: إنه العلوم العقلية نفسها من الواجبات والجائزات، والمستحيلات، وهو مصدر من قولك:[علمت علما و] (¬8) عقلت عقلا، فعلى هذا القول هو (¬9) من أفعال القلب. وقيل: إنه العلوم التجريبية النظرية، وهو من أفعال القلب أيضا غير أن هذا كسب وتلك ضرورة (¬10) ، فالأولان جوهران والآخران عرضان. والأصح أنه جوهر روحاني بسيط مركوزة فيه علوم الجبلة ويزداد بالتجارب استحكاما.
¬__________
(¬1) - أي للمعتزلة.
(¬2) - سقط من ب «من».
(¬3) - في ب «بخلاف قول».
(¬4) - في ب «عادل».
(¬5) - سقط من الأصل «إنه» والإضافة من ب وج.
(¬6) - هكذا في النسخ الثلاث، ولعل الصواب:«فيه».
(¬7) - سقط من ب وج «و».
(¬8) - ما بين المعقوفين إضافة من ب.
(¬9) - في الأصل وج «فهو» والمثبت من ب.
(¬10) - سقط قوله: «غير أن هذا كسب وتلك ضرورة» من ب.
مخ ۱۵
وقيل: جوهر نوراني مركزه الدماغ [وهو قول أبي حنيفة] (¬1) ولكل دليل لا نطول به (¬2) .
واشتقاقه من العقل وهو المنع، من قولك: عقلت البعير عقلا، ويسمى حجرا وهو أيضا (¬3) من الحجر الذي هو المنع (¬4) .
الروح والنفس وتعريفهما:
7) - والروح أمر رباني نسب الله معرفة علمه إليه، لا سبيل إلى القول فيه، وقد ذكر الله - عز وجل - ذلك في خلقة أبينا آدم - عليه السلام - إذ يقول: { ونفخ فيه من روحه } [السجدة:09] والأفعال الاختيارية الشريفة والوضيعة تطرأ عنه ومنسوبة إليه.
وقال بعضهم: هو جوهر لطيف، وجوز (¬5) فيه الكلام وقوله لنبيئه - عليه السلام - : { قل الروح من امر ربي } [الإسراء:85] ولم يأذن له برد الجواب لا لجهله - حاشاه - عليه السلام - حقيقتها وإنما منعه من رد (¬6) الجواب لسبب ظاهر (¬7) ، وذلك أن اليهود ظاهروا مشركي مكة على الحق، فقالوا لهم: سلوا محمدا عن الروح، وعن ذي القرنين، وعن أصحاب الكهف، فإن أمسك عن جواب الروح، وأجاب عن (¬8) الآخرين فاعلموا أنه رسول حقا، وإن أجاب في الكل أو أمسك في الكل فليس برسول هكذا وجدنا في كتبنا (¬9) .
¬__________
(¬1) - ما بين المعقوفين من ب.
(¬2) - سقط قوله «لا نطول به» من ب.
(¬3) - سقط من الأصل «أيضا».
(¬4) - هذه كلها معلومات فلسفية قديمة عن العقل تتناسب مع الأنماط المعرفية السائدة قديما، أما في عصرنا فهناك دراسات علمية قيمة لهذا الموضوع ككتاب د/يوسف القرضاوي «العلم والعقل في القرآن الكريم» وجزء من كتاب زكرياء بن خليفة المحرمي «قراءة في جدلية الرواية والدراية عند أهل الحديث».
(¬5) - في ب وج »وجوزوا« .
(¬6) - سقط من الأصل »رد« والإضافة من ب وج.
(¬7) - سقط من ب »ظاهر« .
(¬8) - في ب »في« .
(¬9) - في ب »في التوراة« .
مخ ۱۶
وقال بعضهم: الروح في الآية ملك (¬1) من الملائكة، وفي وصفه شيء عجيب مع أن بعض المعتزلة قالوا في تفاسيرهم: الروح في هذه الآية بمعنى (¬2) القرآن لأن (¬3) الله - عز وجل - سماه روحا مصداقه { وكذلك أوحينآ إليك روحا من امرنا } [الشورى:52] يعني من خلقنا لما يعلم الله أن بعض الملحدة ينكرون خلقه، ومعناه يسألونك عن القرآن مخلوق أم غير مخلوق قل القرآن من أمر ربي، أي من خلق ربي، لأن الأمر بمعنى الخلق، ومنه قوله تعالى: { إنمآ أمره إذآ أراد شيئا } [أي] أن يحدث خلقا { أن يقول له كن فيكون } [يس:82] يعني خلقه فكونه، قال: ويؤيد هذا التفسير قوله عقبها: { ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينآ إليك } [الإسراء:86] والذي أوحي (¬4) إليه القرآن بإجماع (¬5) انتهى كلام المعتزلي (¬6) .
ولعمري [إنه] لقريب من جهة الحق والصواب. وقال أبو القاسم القشيري في رسالته الأرواح:
مختلف فيها عند أهل التحقيق، فمنهم من يقول إنها الحياة فقط، ومنهم من يقول إنها أعيان مودعة في هذه القوالب لطيفة، أجرى الله العادة بخلق الحياة في القوالب (¬7)
¬__________
(¬1) - في ب »هو ملك« .
(¬2) - في ب »معناه« .
(¬3) - في ب »و« .
(¬4) - في ب »أوحاه« .
(¬5) - سقط من ب »بإجماع« .
(¬6) - لم أجد هذا الرأي في كشاف الزمخشري ولعله أشهر تفسير للمعتزلة، وألفيت كلاما يشبهه في أمالي المرتضى ج01، ص12، وهو كذلك من تفاسيرهم، ولا شك أن لهم تفاسير أخرى لم نقف نحن عليها وقد ذكر الذهبي -مثلا- في كتابه: »التفسير والمفسرون« إلى جانب التفسيرين السابقين تفسير القاضي عبد الجبار المسمى: »تنزيه القرآن عن المطاعن« انظر ج01، ص368-482.
(¬7) - في ب وج »القالب« .
مخ ۱۷
ما دامت الأرواح في الأبدان، والإنسان حي بالحياة ولكن الأرواح مودعة في القوالب، ولها ترق في حال النوم، ومفارقة للبدن ثم رجوع (¬1) إليها وأن الإنسان هو الروح والجسد لأن الله تعالى سخر هذه الجملة بعضها لبعض، والحشر يكون للجملة، والمثاب المعاقب الجملة. والأرواح مخلوقة، ومن قال بقدمها فهو مخطئ خطأ عظيما، والأخبار تدل على أنها أعيان لطيفة. والنفس لفظ مشترك يقع ويراد به الذات مثل: جاءني زيد نفسه، ومثل قوله تعالى: { رسول من انفسكم } [التوبة:128] على القراءة المشهورة بضم الفاء، ويقع أيضا ويراد به الدم، ومنه اشتقاق النفساء، ويراد به الروح، ومنه قوله تعالى: { إن الله اشترى من المومنين أنفسهم وأموالهم } [التوبة:111]. وأظن سؤالك عن هذه المناسبة (¬2) [في] سؤالك عن الروح.
ونفس الشيء في اللغة وجوده قال القشيري في رسالته: »ليس المراد من إطلاق لفظ (¬3) النفس الوجود ولا القالب المصوغ وإنما أرادوا بالنفس ما كان معلوما (¬4) من أوصاف العبد ومذموما من أفعاله وأخلاقه، ثم إن المعلومات من أوصاف العبد على ضربين:
- أحدهما: يكون كسبا له كمعاصيه ومخالفته.
- والثاني: أخلاقه الدنيئة فهي في أنفسها مذمومة فإذا عالجها العبد وبازلها بالمجاهدة تنتفي (¬5) عنه تلك الأخلاق على مستمر العادة .
¬__________
(¬1) - في الأصل وج »الرجوع« والتصحيح من ب.
(¬2) - في ب »وأظن سؤالك عن هذا لمناسبة« والعبارة غير واضحة في ج.
(¬3) - سقط من الأصل وج »لفظ« والإضافة من ب.
(¬4) - في ب »معلولا«.
(¬5) - في ج »تنفي«.
مخ ۱۸
وكون النفس والروح من الأجسام اللطيفة في الصورة (¬1) ككون الملائكة والشياطين بصفة اللطافة (¬2) ، وكما يصح أن يكون البصر محل الرؤية، والأذن محل السمع، والأنف محل الشم، والفم محل الذوق، والسميع والبصير والشام والذائق إنما هي الجملة فكذلك محل الأوصاف الحميدة القلب والروح، ومحل الأوصاف المذمومة النفس، والنفس جزء من هذه الجملة، والقلب جزء من هذه الجملة، والحكم والاسم راجع إلى الجملة« (¬3) انتهى.
وكلها على وزن فعل - بفتح الأول وسكون الثاني- وجمعه (¬4) أفعل على القلة، وفعول على الكثرة، وربما تعاكسا.
والنفس -بفتح الفاء- تنفس ذي روح وجمعه أنفاس على القياس لأن (¬5) كل ثلاثي صحيح ليس على وزن فعل فقياسه على (¬6) أفعال، وقد ورد فيه (¬7) شاذا كفرخ وأفراخ.
الحقيقة والمجاز ووضع الألفاظ للمعاني:
8) - وسؤالك عن التعبير، فالتعبير له طريقتان (¬8) : حقيقة ومجاز لا ثالث لهما. فالحقيقة: كل لفظ استعمل لما وضع له كالأسد للمفترس، والمجاز: كل لفظ جاوز ما وضع له إلى غيره كالأسد للشجاع.
¬__________
(¬1) - في الأصل »السورة« والتصحيح من ب وج.
(¬2) - في الأصل وج »اللطيفة« والتصحيح من ب.
(¬3) - لم أعثر على هذه الرسالة للقشيري. انظر ترجمته في الملحق، رقم:5.
(¬4) - في ب »وزنه«.
(¬5) - سقط من الأصل »لأن« والإضافة من ب وج.
(¬6) - سقط من ب »على«.
(¬7) - سقط من الأصل »فيه« والإضافة من ب وج.
(¬8) - في ب «طريقان».
مخ ۱۹
والحقيقة على ضربين: مجمل، ومفصل، فالمجمل: ما لا يفهم المراد به من لفظه، ويفتقر في بيانه إلى غيره كقوله تعالى: { وءاتوا حقه يوم حصاده } [الأنعام:141] وينقسم المفصل قسمين: محتمل وغير محتمل، والآخر: هو النص، وهو: ما وقع في البيان إلى أقصى غايته كقوله تعالى: { وإلهكم و إله واحد } (¬1) [البقرة:263]، وقوله: { محمد رسول الله } [الفتح:29].
والمحتمل ينقسم قسمين: ظاهر، وباطن، فالظاهر:ما سبق إلى النفس معناه، كقوله تعالى: { كلوا واشربوا } (¬2) ، والباطن: ما لا يسبق إلى النفس معناه كقوله تعالى: { وجآء ربك والملك صفا صفا } [الفجر:24] وقوله: { إلى ربها ناظرة } [القيامة:22].
والظاهر ينقسم قسمين: عام وخاص.
والعام:ما عم شيئين فصاعدا، ويكون عام الأفراد كقوله تعالى: { والله بكل شيء عليم } [البقرة:282]، وعام الأبعاض كقوله (¬3) : { ثم أتموا الصيام إلى الليل } [البقرة:186]، وعاما متناهيا كقوله: { إلى الليل } [البقرة:186]، وغير متناه كقوله: { لن تراني } [الأعراف:143]. والكلام فيهما أعني الحقيقة والمجاز يطول.
وينقسمان إلى:خبر: وهو ما يحتمل الصدق والكذب. وإنشاء: وهو مالا يحتملهما، وفيهما تقاسيم (¬4) أخر (¬5) من وجوه أخر لا نقول بها (¬6) .
¬__________
(¬1) - في ب استدل بالآية: { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } [البقرة:255].
(¬2) - الأعراف:31 { وكلوا واشربوا ولا تسرفوا } .
(¬3) - سقط من الأصل «كقوله» والإضافة من ب وج.
(¬4) - في الأصل «تقاسم» والمثبت من ب وج.
(¬5) - سقط من ب «أخر».
(¬6) - سقط من ب «لا نقول بها».
مخ ۲۰