في البدء كانت السحلية
في المساحات السوداء حول السراي كان النداء يسري كحفيف الهواء. رءوس الأشجار تلقي بظلالها كالأشباح فوق الأرض. تتمايل بحركة كسولة مليئة بالملل، وهو يختفي وراء الجذع المقطوع، جالسا القرفصاء داخل جلبابه الأبيض. رأسه ملفوف بالعمامة الضخمة من فوقها الريشة ممدودة كالإبرة. أصابعه الكبيرة تبحث في التراب عن شيء. ضوء القمر يسقط فوق وجهه. لحيته بيضاء طويلة تتدلى فوق صدره. حاجباه كثيفان يلتقيان فوق أرنبة أنفه. عيناه صغيرتان مستديرتان، تتابعان حركة يده فوق الأرض في استغراق كامل. - يا رب!
أذناه تنتصبان. يتسمع الصوت. أصابعه تكف عن الحركة. تنفرج شفتاه عن صوت هامس: من يناديني!
يدب السكون في الكون، لا يسمع إلا حفيف الهواء يلامس أوراق الشجر. يطل برأسه من وراء الجذع. يلمح الضوء الخافت في النافذة. شبح أبيض يروح ويجيء وراء الزجاج. النهدان بارزان أبيضان تحت ضوء القمر. شعرها طويل أسود ينسدل فوق ظهرها. عيناها مغلقتان وذراعاها ممدودتان أمامها، كمن تمشي في النوم. - يا رب!
خرج من وراء الشجرة واقفا. ارتسم ظله فوق الأرض طويلا أسود اللون. - أنا هنا! أنا ...
صوته يسري في أذنيه غريبا كصوت رجل آخر. يتردد الصدى في سكون الليل. - أنا هنا! أنا ... أنا ...
يرتد الصوت مع الصدى إليه وهو واقف. يرى ظله فوق الأرض طويل القامة كأبيه. يهتز مع رءوس الأشجار والصوت يتردد بين جدران السراي. يحرك الشيش في النوافذ. تنفتح بعض العيون الغارقة في النوم. تتسع بلون شاحب ثم تنغلق مرة أخرى. - أنا هنا! أنا ... أنا ... أنا ...
كالصفارة الخافتة يعود الصدى إليه. أذنان تنتصبان مرهفتين. الصوت مألوف كصوت أبيه. مبحوح قليلا تنتابه شرخة خفيفة مع الألف الممدودة. يضغط على أضراسه وهو يضاعف الشدة على الهمزة فوق الألف: أأأ نا نا نا نا.
كان جالسا فوق الكرسي ذي المسند العالي، داخل بدلة عسكرية. فوق صدره أقراص تلمع بضوء أحمر. كتفاه عريضتان محشوتان. أنفه غضروف كبير منتصب على شكل القوس. عنقه تلتوي إلى أعلى كعنق الديك الرومي. صوته يدوي في أنحاء البيت. - أأأأأ نا نا نا نا.
ينفذ صوته من نافذة الصالة إلى الجيران. تغلق أمه الزجاج والشيش. تقف ظهرها إلى الجدار وجهها ناحيته، بشرتها شاحبة هرب منها الدم. تزداد شحوبا داخل ثوبها الأسود من الموسلين. ساقاها ملتصقتان بيضاوان تبرز من تحتهما عروق زرقاء. شفتاها تتحركان بلا صوت، كأنما تكلم نفسها أو تخاطب شبحا لا يراه أبوه.
ناپیژندل شوی مخ