فتحت الباب بلا صوت. دخلت على أطراف أصابعها تكتم أنفاسها. أرادت أن تفاجئه بوجودها. أرادت أن يرفع عينيه فجأة فيراها وتمتلئ عيناه بالضوء، ويمتد العناق طوال الليل، وفي الصباح تفتح الصندوق الكرتوني وتخرج الهدية.
دخل المفتاح في شق الباب بلا صوت. كانت الصالة غارقة في الظلمة. ضوء خافت ينبعث من غرفة النوم. موسيقى خافتة والباب مغلق إلا من شق رفيع.
توقفت وراء الباب تلهث. لماذا كانت تلهث؟ كأنما كانت تعرف بعقل آخر. كانت جدتها تسميه العقل الباطن، ودوت صرختها في الليل طويلة ممدودة تشبه صرخة جدتها، وأمها حين كانت تصرخ. صرخة واحدة تمتد في أذنيها كهدير الشلالات. كملايين الأصوات تصنع صمت الليل. الكل مات. والكل يهتف: يسقط! ساقط! ساقط!
تقلبت في السرير وفتحت عينيها. رأت جدتها واقفة داخل فستان من الموسلين الأسود. شعرها معقود تحت شريط أسود من الساتان، كانت تسميه «التربون». عروق زرقاء نافرة في ساقيها السمينتين، وحذاؤها في يدها. أسود من الجلد اللميع. له كعب مدبب رفيع، تهزه في الهواء. - ساقط! - الرجل لا يسقط إلا في الانتخابات يا سيدتي!
ويهز جدها رأسه علامة الإيجاب. جالس داخل بدلة عسكرية. فوق صدره نيشان. وجهه مربع يشبه وجه زكريا. أبيض بلون الملاءة. شعر رأسه تساقط، إلا ذؤابة رمادية تتطاير فوق أذنه كالريشة. يمد عنقه إلى الأمام بزاوية حادة، كعنق الديك الرومي. - المرأة هي التي تسقط يا سيدتي.
ويهز جدها رأسه مرة أخرى. تتطاير الريشة فوق أذنه. يمسكها بيديه الاثنتين يخفي بها الصلعة الأمامية. رجال كثيرون جالسون حول منضدة رخامية. وجوه مألوفة رأتها منذ ولدت، وفي الحياة الأخرى قبل الولادة. جدها الأكبر بأنفه الضخم المقوس يشبه الحدأة أو النسر. علامة الانحدار من صلب أبيه. لم يكن من دليل على هذا الانحدار من الصلب إلا غضروف الأنف، وحدث أن ولد طفل بأنف صغير بلا غضاريف. - يا هووووووه ...
صوت يشبه صوت أمها يصرخ في السكون. ممدود كصوت جدتها بامتداد الليل، كأنما تنادي على إله اسمه يا هوه. إله الزلازل والبراكين. تناديه ليأتي وينقذها لكنه لا يأتي، ويرسل إليها روح جدها الميت، يقف بجوار بيت الأدب. بين شفتيه غليون أسود، تسميه جدتها «البايب». له زلومة طويلة تلتوي إلى الأمام مثل قرن الغزال، ومن فتحتي أنفه يخرج عمودان من الدخان. يتصاعدان إلى السقف، يملآن الجو بالشبورة السوداء، والهواء يثقل مشبعا بالدخان والهزيمة، ورياح الخماسين تصفر، وهي تجري بلا توقف. صوته من خلفها يطاردها: ساقطة! يشبه صوت زكريا. البحة الخشنة كالشرخ. يخرج طرف لسانه وهو ينطق حرف السين. يفتح فكيه عن آخرهما مع الألف الممدودة. كأنما يتثاءب. يضغط على الكسرة تحت القاف ويشد على أضراسه.
كانت تجري ظهرها ناحيته ووجهها ناحية الأفق. قدماها تدبان فوق الأرض. قلبها تحت ضلوعها يدب بالإيقاع ذاته. اندفعت إلى الأمام خارج غرفة النوم. عبرت الممر في قفزة واحدة. هبطت السلم جريا لا تخشى السقوط. بدفعة واحدة من يدها فتحت باب «الجاراج». لم يكن ينفتح أبدا بدفعة واحدة. أيقظت «الموتور» بخبطة واحدة من قدمها، لم يكن يستيقظ إلا بعد ثلاث أو أربع خبطات. أخرجت السيارة «الفيات» بظهرها دون أن تحتك بالجدار. لم تكن تخرجها دون أن تصطدم بالجدار أو الباب.
انطلقت «الفيات» البيضاء تشق الكون كالسمكة الفضية، يداها فوق عجلة القيادة تدوران. النبض تحت ضلوعها يتصاعد كالهتاف. يسقط! يسقط! أبواق السيارات تدوي مع صلصلة الترام. عويل المآتم وزغاريد الأفراح، وأجراس الكنائس وآلاف المآذن، وابتهالات الشحاتين ونداءات باعة الصحف. والمارشات العسكرية والدعايات الانتخابية، وصفارات البوليس، وزئير الدبابات، وهدير «الموتور» يرتفع فوق كل الأصوات. ملايين الأصوات تذوب في صوت واحد: يسقط! يسقط!
العجلات الأربع تطير في الهواء. شعرها الأسود يتطاير حول رأسها. في مرآة السيارة رأت عينيها. ثلاثون عاما من الحزن، ومن تحت السطح ترى البريق. كعيني امرأة أخرى تفرح بالخلاص. ترفع يديها. تصفق كالطفلة. الدقات تحت ضلوعها تتراقص. السيارة ترقص بالإيقاع ذاته. عجلة القيادة بين ذراعيها تضمها كأنما هي أمها. - جنات!
ناپیژندل شوی مخ