وصدى الصوت يتردد: محكمة!
انطلقت صفارة طويلة في الممر. من وراء الزجاج لمحو خيال الرئيسة ومن خلفها التمورجية. اختفت المنصة ومعها القاضي. عادت الأجسام كلها تحت الأغطية تغط في النوم. غرق العنبر في الظلمة، والسكون مطبق، لا صوت ولا حركة، إلا ريشة سوداء فوق بلاط العنبر يحركها الهواء ببطء.
نفيسة
سمعت الصفارة وهي راقدة في عنبر الحريم - دوت في أذنيها كصفير الهواء، فتحت عينيها وتلفتت حولها. صفوف من الرءوس الملفوفة بالطرح. غارقات في النوم. أنفاسهن مشروخة تئن. كصوت أمها حين كانت تنشج بالليل. نداء خافت ممدود كصوت الريح من بعيد. - يا هوووووه ...
فوق الجدار سحلية طويلة تزحف. جسمها أصفر ورأسها أسود. عيناها صغيرتان وفمها مدبب. تنفخ الهواء وتنادي عليها بصوت كالصفارة: نفيسا ...
اتسعت عيناها في ذهول. أتنطق السحلية بصوت بني آدم؟ وتناديها باسمها؟ كيف عرفت أنها نفيسة من دون النسوة؟
حملقت في عينيها طويلا ثم أخفت وجهها بيديها، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. تمتمت بآية الكرسي تطرد أرواح الجان. فكت الحزام المشدود حول صدرها وانتصبت واقفة، نوافذ العنبر مغلقة والهواء راكد، روحها مختنقة داخل جسدها تبغي الخلاص. فتحت النافذة. الأرض والسماء كتلة سوداء، بلا قمر ولا نجوم. نجمة واحدة تشق الكون بضوء ثابت لا يرتعش وصوت أمها يأتي من بعيد. - فين ولدي يا زهرة؟ يا أم العدل والرحمة!
واقفة في الظلمة. ظهرها ناحيتها ووجهها ناحية النافذة، أنفاسها تعلو وتهبط. فين ولدي يا زهرة! يسري صوتها في سكون الليل، ينفذ إلى أذني الشيخ مسعود وهو يمشي في الزقاق. يتوقف فجأة كأنما مسته روح من الجن. يدق بعصاه الأرض ويبصق. لعنة الله عليك يا عاهرة! كانت تظن أنه يلعن أمها، لكنه قال إنها امرأة أخرى هبطت من السماء، اسمها زهرة أوقعت في حبائلها هاروت وماروت، وتسأل أمها، تقول إنهما من عفاريت الجن، حين ولدت الماعزة توءما سمتهما أمها هاروت وماروت. مات هاروت وبقي ماروت ينظر إليها بعينين حمراوين، كأنما هي السبب في موت أخيه. تتعلق بذيل أمها حين تخرج من الدار. تقبض على ذيل جلبابها بأصابعها الخمس. خطوة أمها واسعة وقدماها كبيرتان، وهي تنكفئ فوق وجهها. يدخل التراب أنفها وفمها. تكاد تفقد أمها في الطريق لولا أن أصابعها تشبثت بجلبابها. في الليل تنام في حضنها تلف ذراعيها حولها. تغمض عينيها تخشى أن تفتحهما فلا تجدها. - فين ولدي يا زهرة؟ يا أم العدل والرحمة!
الليل كالعباءة السوداء يلف الكون، لا قمر، ولا نجوم، إلا نجمة واحدة كالعين الساهرة، تطل عليها من بعيد وهي فوق الفراش في حضن أمها - راقدة فوق جنبها الأيمن وذراعها تحت رأسها. الهواء له رائحة الأرض المرشوشة بالماء. الحمارة راقدة في مدخل الدار. تمدد سيقانها الأربع. والماعزة نائمة مغمضة العينين، والقطة منتصبة الرأس عيناها مفتوحتان تلمعان في الظلمة بلون الزرع. - ولدي راح فين يا زهرة؟
لا تكف أمها عن الترديد طوال الليل. أنفاسها حين تغيب في النوم تردد وحدها اللحن، خطوتها وهي تمشي فوق الأرض تدب بالإيقاع ذاته. شفتاها مطبقتان وعيناها شاخصتان إلى السماء. رأسها مرفوع من فوقه الزكيبة المملوءة بالقطن، وهي تمشي خلفها ممسكة طرف جلبابها. الشمس حارقة والأرض تلسع قدميها. غبار كثيف يتصاعد تحت أرجل البقر والجاموس. من تحت ذيولها تتساقط قطرات العرق والبول، ودوائر سوداء تجف تحت الشمس على طول الطريق. تغمض عينيها ويتراءى لها البرش فوق الأرض المرشوشة كالحلم البعيد، أو جنة عدن. منذ ولدت وهي تسمع أمها تحكي عن جنة عدن، تنفرج شفتاها المطبقتان وتخرج الكلمة مع أنفاسها. راقدة في مدخل الدار تلهث. - جنة عدن!
ناپیژندل شوی مخ