ينقطع الهتاف ويرن صوت امرأة تغني بصوت ممطوط: وطني حبيبي! حبك أكبر! حبك نار!
تظهر فوق المنصة العالية. جسدها يترجرج داخل بدلة الرقص. تنتفض كالسمكة الفضية أو جنية البحر، تتلوى وتتأوه مغمضة عينيها! اسمها «زوزو»، وفي الأصل كانت «زنوبة».
يردد الكورس وراءها: نار يا حبيبي! نار!
يرمقها بطرف عينه دون أن يحرك رأسه. تغمز له بنصف عين. شيفرة لا يفك طلاسمها أحد، فهو حريص كل الحرص. له زوجة لا تغمض لها عين. يغسل جسده بالماء والصابون خمس مرات قبل أن يعود إليها. ترمقه في الظلمة حين يدخل على أطراف أصابعه. يعطيها ظهره ويرقد وجهه للحائط، لكن أنفها يمتد ليشم سرواله الداخلي قبل أن يخلعه. عيناها مقلتان سوداوان. نار سوداء تلسع قفاه وهو نائم. صوتها ريح ساخنة. - يا ساقط!
اخترقت الكلمة أذنيه كالقذيفة. ساقط؟ كلمة غريبة لا تخرج من فم امرأة للرجل إلا إذا كان طفلا وهي التي ولدته. صوتها يشبه صوت أمه. تخرج طرف لسانها وهي تنطق حرف السين. تفتح فكيها عن آخرهما مع الألف الممدودة بعد السين. تتثاءب ثم تضغط بأسنانها على الكسرة تحت القاف. - ساقط!
استقرت الكلمة كالرصاصة في مؤخرة رأسه. تنزلق كالبلية وتدور حول نفسها، ساقط؟ في كتاب النحو «في المدرسة» سقط فعل ماض، والمؤنث ساقطة، والجمع ساقطات. ليس في اللغة جمع مذكر، وليس في التاريخ أو الكتب السماوية. آدم لم يكن ساقطا. الرجل لا يسقط إلا في الانتخابات، أو معركة حربية، أو في امتحان المدرسة وهو تلميذ. - ساقط!
رفع يده عاليا في الهواء ليناولها الصفعة. كانت أسرع منه. يدها كانت مرفوعة قبله، وجسمها أكثر رشاقة. تحلق في الجو كالفراشة. هي شابة وهو كهل. يتحرك ببطء. شعر رأسه تساقط. الرموش تساقطت أيضا. «النني» باهت لا يرى الكون بوضوح. يحملق في الفراغ باحثا عنها، ذابت في الظلمة كما تذوب قطرة الماء في البحر. كانت هنا منذ لحظة، كانت هنا منذ ثلاثين عاما، وكانت تسير إلى جواره والجنود تصطف، والموسيقى تعزف أنشودة النصر. يتركها في المؤخرة مع الحريم، ويتقدم وحده نحو المنصة. ينحني قبل أن يتسلم وسام البطولة. يشبكه فوق صدره بدبوس. قرص ذهبي يلمع تحت الضوء. يمشي بخطوة بطيئة شامخا برأسه إلى فوق! فوق! صوت كالصدى يتردد في الكون: فوق! فوق! فوق! أنا فوق ... أنا فوق ...
يتلفت حوله وهو يمشي. الصوت يسري في أذنيه كصفير الريح. أنا فوق! فوق! عيناه شاخصتان إلى أعلى. عمامته ملفوفة فوق رأسه تعلوها الريشة. ظله أسود طويل فوق الأرض. عنقه مشرئبة وأنفه مدبب كالإبرة. يمشي بخطوة بطيئة نحو الباب الخلفي للسراي. يصعد السلم درجة درجة. يتوقف عند الدرجة الأخيرة. ضوء خافت يكشف عن عينيه.
عينان صغيرتان مستديرتان. داخل كل عين «النني»، بارز قليلا فوق البياض. متحجر كقطعة من الجرانيت. تعلوه نظرة ثابتة ثاقبة، من تحتها شيء يتحرك: قطرة ماء أو دمعة حبيسة تود الإفلات. تحت كل جفن انتفاخة داكنة اللون، الوجه مربع كوجه أبي الهول.
ضغط على أضراسه كأنما يمضغها. ابتلع لعابا جافا. تحركت في عنقه تفاحة آدم. صعدت ثم هبطت. لها بوز مدبب، كالغصة في حلقه يحاول ابتلاعها دون جدوى. تفاحة آثمة كان من المفروض أن تتوقف في حلق حواء لا آدم. هكذا قال له جده الميت.
ناپیژندل شوی مخ