وإذا الأحزاب كلها عنه راضية، وبه معجبة، وإليه محتاجة، ولكنه فقد من خصال الثعلب خصلة واحدة هي التي حملتك يا سيدتي على أن تضحكي منه حين رأيته يقبل كأنه البرمة الضخمة، وحين رأيته يجلس فينهال كما ينهال الكثيب.
ذلك أن الأيام أحبته حبا شديدا، فأخذت لا يمر به يوم منها إلا خلع عليه قميصا من الشحم قد فصل على قده تفصيلا، وجعلت هذه الثياب الشحيمة تتراكم وتتراكب حتى مدته إلى يمين وإلى شمال، وزادته بسطة في الجسم من خلف ومن أمام، وجعلته كما ترين جبلا يتحرك في خفة، ويعمل في ذكاء.
قالت السيدة، وكانت أدبية أريبة، أرجو ألا يكون ثعلبك هذا الغليظ من ثعالب المتنبي التي يقول فيها:
نامت نواطير مصر عن ثعالبها
فقد بشمنا، وما تفنى العناقيد
شياطين البيان
صدقني يا سيدي أو لا تصدقني لن يغني هذا عن الحق شيئا، والحق الواقع، وهو أن هذه القصة ليست مخترعة، ولا مصطنعة، وليس للخيال فيها أثر قليل أو كثير، وإنما هي شيء وقع، كما أن من الأشياء الواقعة أني قد خرجت من داري حين ارتفع الضحى، فسعيت إليك متثاقلا أستمتع بهذا الجو الرائق، وبهذه الشمس الفاترة، وبهذا النسيم البارد الرقراق، وأدير في نفسي ما وقع لي من الأمر، واستعرض بعض الصور التي أريد أن أصطنعها لأقصه عليك، وأجيل في نفسي أيضا ما سيكون بينك وبيني من أخذ ورد مستنكرا علي حديثي، وسأحاول إقناعك بأنه صحيح، وسيشتد بينك وبيني خصام لا بد من أن يثور بيننا كلما حدثتك ببعض الأمر؛ لأنك رجل لا تؤمن إلا بما ترى وتحس، ولا تصدق من أنباء الناس إلا قليلا.
ولست أخفي عليك أني أعذرك ولا ألومك، فقصتي لا تخلو من غرابة، وآية ذلك أني أنا نفسي أنكرتها أشد الإنكار، وكنت واثقا كل الثقة بأني رأيتها فيما يرى النائم، وكنت أتحدث إلى نفسي بأنها حلم غريب، طريف، وكنت ألتمس العلة لهذا الحلم، وكنت أجدها في غير مشقة، وكنت أستمتع بحلمي، وأستمتع بما بذلت في تعليله من جهد، وأستمتع كذلك بما سأتحمل في تأويله من عناء، ولكن رأيتني حين تقدم الليل، وكاد ينهزم أمام النهار، واقفا أمام داري ألتمس المفتاح لأديره، فيفتح لي الباب، وأنسل إلى غرفتي في هدوء وخفة حتى لا يحس أهلي عودتي في آخر الليل، فلا أجد المفتاح، وقد تعودت ألا أخرج مع الليل إلا أخذت معي هذا المفتاح أوفر بذلك على أهلي حريتهم وراحتهم ونومهم، وأجنبهم بذلك أن يسهروا منتظرين عودتي أو أن يهبوا من نومهم حين أعود ليفتحوا لي الباب، ولكن المقادير أرادت أمس أن تجري الأمور على غير ما تعودت أن تجري عليه، فأنسيت المفتاح، وما أنسانيه إلا الشيطان، وسترى أن هذا لم يكن غريبا، فقد كانت المقادير قد قدرت أن تكون ليلتي هذه من قسمة الشياطين، والشيء الذي ليس فيه شك هو أني التمست المفتاح حيث تعودت أن أحفظه فلم أجده، فجعلت أفتش في جيوبي كلها وما أكثرها فلم أجده، وقد ضقت بذلك أشد الضيق، حسبت أول الأمر أني قد أضعته، ثم لم ألبث أن ذكرت أني خرجت مسرعا مع بعض الأصدقاء، وأعجلني الحديث فلم آت هذه الحركة اليسيرة التي انتزع بها المفتاح من مكانه، وأضعه في الجيب الذي تعودت أن أضعه فيه.
فلما تبينت ذلك غشيني من الهم ما غشيني، ووقفت واجما أول الأمر مترددا بعد ذلك. أأطرق الباب فأزعج من في الدار، أم أقوم مكاني حتى يسفر الصبح، ويهب النوام، أم أعود أدراجي فأطوف في شوارع الحي أتلهى بهذا التطواف عن الانتظار، وقد طال علي هذا التردد فتحولت عن مكاني، ولكني لم أخرج من الحديقة، وإنما جعلت أطوف حول الدار، وأردد في نفسي قول الشاعر القديم:
أدور ولولا أن أرى أم جعفر
ناپیژندل شوی مخ